18 ديسمبر، 2024 7:06 م

شقت طريقها بصعوبةٍ بالغة وسط الزحام الشديد في سوق ” الشورجة” لا تعرف إلى أين تتجه. الكل يصرخ في محاولةٍ للترويج عن بضاعتهِ المعروضة عند الرصيف أو يحملها في يده . جلس أصحاب المحلات الثابتة ينظر بعضهم إلى حركة المارّه بينما راح البعض الآخر يغلف الأشياء التي كان الزبائن قد دفعوا سعرها. الكل يحاول مواكبة الحياة بقساوتها ومرارتها . كنتُ واقفاً في زاوية من زوايا أحد المحلات أنظر بأنبهار إلى البضائع التي صُفت بشكل منتظم . في بداية الأمر وقف صاحب المحل قربي في محاولة لمساعدتي لأختيار لون وحجم المادة التي كنت أروم شرائها ولكن حينما طال إنتظاري شعر صاحب المحل بأنه أمام زبون لايريد شراء شيء معين وإنما جاء لمجرد قضاء الوقت في التطلع إلى نوعية المواد المعروضة فقط. تركني وعاد إلى كرسيه القابع في مقدمة المحل.لم أهتم لصاحب المحل وواصلت عملية البحث عن شيء ينال رضاي . وأنا في خضم تلك الرحلة البطيئة سمعتُ صوتاً أُنثوياً مرتبكاً يحاول أن يستعطف صاحب المحل. دون أن أجعل الرجل يشعر بأنني فضولي أدرت نظراتي بسرعة ناحية الصوت الأنثوي فشاهدت إمرأة ملتفة بعباءه سوداء وتضع نظارة طبية . كانت في العقد الرابع من عمرها أو هذا ما تفتقت به قريحتي حينما خمنت عدد السنوات التي قضتها في هذا العالم المرعب على كافة الأصعدة. دون مقدمات همست المرأه بصوت مرتجف يكاد يختفي قبل أن ينطلق إلى عالم الحقارةِ والدناءةِ والخوض في عالمٍ لايسلكه إلا من ضاقت به السبل وإستنفذ كل الطرق الشرعية . ” سيدي العزيز، لديِّ موضوع مهم أريد أن أطلعك عليه”. قالت تلك العبارة وهي تحاول لملمة عباءتها التي كادت أن تنفلت لتظهر جزءاً من ثوبها الأسود. إستمع إليها الرجل باديء الأمر بعدم إهتمام وكأنه إعتاد على سمع مئات القصص كل يوم. حكايات لاتنتهي على مدى التاريخ. ” تفضلي”. قال تلك الكلمة وكأنه يريد التخلص بسرعة من المخلوق الأنثوي الواقف أمامه. همست على عجلٍ من أمرها:
_” لدي ثلاث بنات جميعهن في الكلية، لا يوجد لدينا شيء نأكله خذ ماتشاء من جسدي وأعطني قليلاً من المال . أي شيء تريده . لقد عجزتُ أمس عن تقديم نقود قليلة لأبنتي الكبيرة لتذهب إلى كليتها. لا أعرف ماذا أفعل؟ حاولت أن أعمل أي شيء ولكن كل الطرق كانت مغلقه أمامي. لا أهتم لشرفي بعد الآن فالشرف لايقدم لي أي خبز؟ أنا لست كاذبة . أنا أقول كل الحقيقة. هل تقبل بضاعتي أم أذهب إلى مكانٍ آخر؟ لك الحرية في كل شيء. لا أريد منك صدقة. لدي بضاعة كما أنت تملك كل هذه البضاعة. لا أريد منك نصائح لأن وقت النصيحة قد ضاع إلى الأبد، لن أعود إلى البيت بدون طعام.” لم ينبس الرجل ببنت شفه. ظل يحدق اليها بذهول. لم يعرف ماذا يقول. لم يلتفت إلي . كانت كلماتها قد نفذت إلى أعماق روحي. كنت ُ أرتجف. هل هي تقول الحقيقة أم أنها جاءت إليهِ بهذه الطريقة المأساوية كما يحدث في الأفلام الهندية؟ . لقد سمعت مآسي لا تعد ولا تحصى في حياتي لدرجة أنني لم أعد أمييز الحقيقة من الخيال. ولكن ماذا لو كانت تقول الحقيقة؟ ياإلهي ماذا أفعل. هل اتركها تستنزف شرفها بهذه الطريقةِ المرعبة من أجل حفنة من النقود.؟ ماذا أفعل؟ هل أمنحها كل الراتب الذي إستلمته قبل يوم من الشركة التي عثرت عليها في غفلىة من الزمن. أم أهرب إلى المحل الآخر وأترك هذه الحكاية تواصل سيرها كما تم التخطيط لها.
تمنيت أن تحترق كل الأسواق هنا في تلك اللحظة كما كانت تحترق بين فترة وأخرى بتماس كهربائي أو بفعل فاعل مجهول. أي حياةٍ هذه التي نحياها ؟ لم أعد أتحمل المزيد. سرقت نظراتٍ أخرى. دون مقدمات قال الرجل ” إنتظري هنا سأعود فورا” . قبل أن يخرج نظر إلي وهو يقول ” حاول أن تحدد ماتريد رجاءاً، أو ابق هنا هذه المرأة أمانة عندك حينما أعود. إنتبه للمحل وقل لأي شخص يدخل بأنني سأعود فوراً”. حاولت التظاهر بعدم الأهتمام أو أن الأمر لايعنيني. جلست المرأة على الكرسي القريب من كرسي صاحب المحل. راحت تمسح دموعها بصمت . في غضون فترة زمنية غير بعيدة عاد الرجل . دون مقدمات قال ” إسمعي هذا مبلغ بسيط من المال جمعته من بعض الخيرين هنا. لا نريد منكِ شيء . تعالي غداً سنجد لك عمل شريف وسنعمل على جمع مبلغ إضافي كل شهر يكون لكِ عونا في هذا الزمن المرعب. لاتكرري ماقلتيه لي قبل قليل لأي أحد….لا زال هناك خيرين في هذا العالم. منذ هذه اللحظة أنتِ أختي ولن تجوعي أبداً مادمت على قيد الحياة.”
قدم لها مبلغاً محترماً من المال. كانت ترتجف . لا تعرف هل هي تحلم أم أن هذا هو واقع الحال الذي كانت تعيش فيه. لم أعد أتحمل السلبية التي كنت أعيش فيها في تلك اللحظات العصيبة التي كانت تمر بها المرأة المنكسرة. دون تردد أخرجت نصف المبلغ الذي كنت جلبته لشراء أشياء معينه لي عند إستلامي راتبي من “هبه” يوماً ما. لم أقل أي شيء سوى ” خذي…سأشتري حاجياتي في الشهر القادم إنشاء الله” . نظرت في أعماق عيناي. كانت الدموع تترقرق في عينيها . لم تقل شيء ولكن لسان حالها ينطق بأشياء ليس لها حدود. خرجتُ من المحل كجندي لم يستطع تحقيق أي نصر جاء من أجله. تلقفني الشارع الطويل المزدحم بالماره من كل الأصناف البشرية. ماذا سأقول لزوجتي ؟ ستقرعني كعادتها حينما أصرف نقودي على أشياء تافه كما كانت تتصور. لقد وعدتها بشراء أشياء كثيرة هذه المرة…. ولكن في قرارة نفسي كنتُ من أسعد البشر لأنني ساهمت بشيء بسيط من أجل إنتصار العفةِ على الرذيلة في زمن زادت فيه رذائل البشر في كلِ مكان. وأنا أسير في وسط ألازدحام سمعتُ صوتاً ينادينني ” أخي… أخي..”. إلتفتُ إلى جهة الصوت. كانت ذات المرأة المسكينة . دب الخوف إلى قلبي….رحتُ أردد مع نفسي وبسرعة ” ماذا تريد مني الآن؟ ألم أعطها نصف راتبي؟ بالله عليك لاتعيدي المبلغ.. لن آخذه أبدا. توقفتُ عند حافة الشارع المزدحم وكأنني أهرب من تنين جاء ليحطمني. تقدمت نحوي وهي تقول” ألم تعرفني؟ لماذا خرجت من المحل مسرعاً؟ أردت الحديث معك قليلاً”. لم أقل شيء ولكنني أطلتُ النظر إليها . كانت تُحدق في وجهي بشكل غريب جعلني أخفض بصري إلى ألأرض. إندفعت قائلة ” ألم تعرفني لحد الآن؟” كانت صورتها كشبح يحاول النهوض إلى أرض الواقع . كانت صورتها تأتي إلى ذهني وتهرب . ” لا أعرف أين رايتكِ من قبل. عفواً لا أتذكر ولكن هذا الوجه ليس بغريب.” صرخت والدموع تتفجر من عينبها ” أنا ميســـــــــــــــــــون… كم أن ذاكرتك ضعيفة. ” شرارة كهربائية مزقت كل خلايا روحي. شعرت أن الأرض تميد بي إلى كل الأتجاهات. حاولت السقوط على الأرض. جلست عند حافة الشارع كهرم أوشك على الرحيل عن هذا العالم. كان جسدي يرتجف كجسد عصفور سقط من عشه في بركةِ ماءٍ آسنه قبل أن يقوى على الطيران. مسحت نظارتي الطبية عدة مرات. دققت النظر اليها مرة. صرختُ برعب ” واو…نعم أنتِ ميسون”. حاولت النهوض من جديد ولكنها جلست قربي وقد وضعت يدها على ذراعي ألايسر طالبة مني الجلوس. خلعت نظارتها وهي تقول ” هل دققت النظر إلي…أنا ميسون… لقد عرفتك منذ اللحظة التي وقعت فيها عيناي عليك في المحل.. كنت خجلة من قول ذلك”. كان الماره ينظرون إلينا بأستغراب…بعضهم يبتسم والبعض الأخر يقول ” مضى زمن الحب”. لم تهتم لكلامهم . طلبت مني أن نذهب إلى أي مكان نجلس فيه فلديها كلام طويل على حد قولها. دون وعي نهضت مسرعا وأوقفت سيارة أجرة وقلت له ” كورنيش ألاعظمية”. في السيارة جلست في المقعد الخلفي وجلستُ انا قرب السائق.
في الطريق إلى كورنيش الأعظمية رحت أستذكر كل مراحل العشق والهيام التي كانت تربطني بميسون. كانت فتاة تتفجر حيوية لاتتوقف عن الأبتسام أبدا كل من يراها لايستطيع مقاومة سحرها وشبابها وذكائها. منذ أن رأيتها في اليوم الأول لدخولي كلية الآداب وقعتُ في هواها. قررت الأقتران بها مهما حدث حتى لو إضطررت للقتل. كنت الفتى الوحيد في صف دراسي يتكون من 35 فتاة. كانت تستفزني في كل شيء وكأنها تريد أن تسحقني….في السنة الثانية أخبرتها برغبتي الشديده بالأقتران بها. توقفت عن الضحك وتلون وجهها الشديد البياض . قالت دون تردد ” إذا كنت تريد ذلك حقاً نتزوج هذه السنه… سأرفض الضابط الذي تقدم لخطبتي قبل إسبوع”. حاولت إقناعها بكل الطرق أننا لازلنا في الصف الثاني وأمامي سنتين وبعدها الخدمة العسكرية….وأشياء أخرى. قالت بنفاذ صبر” أنت حر… لا أنتظر مستقبل مجهول..” وتزوجت بعد شهر من ذلك الحديث. ظلت صورتها تقض مضجعي كل تلك السنين من عام 1978 إلى هذا اليوم. كانت الحب الأول الحقيقي الذي طرق قلبي. عند كورنيش الأعظمية عرفت عنها كل شيء.
مات زوجها في حربٍ من الحروب الطاحنة التي عصفت بالبلاد…وأحترق بيتها بكل ما فيه يوماً ما لم يكن بعيداً عن هذا الزمن. باعت كل مجوهراتا المتبقية..إستأجرت بيتا لها ولبناتها الثلاثة في مكانٍ من هذا العالم الذي لايرحم. سألتها عن سبب إقدامها على هذا العمل المرعب …..أخبرتني بأنها مضطرة لظروف رفضت البوح بها. إتفقنا على رؤية بعضنا البعض بين فترة وأخرى ….وأخذت منها وعدا بأن تتصل بي عند الضرورة. إفترقنا في مكانٍ ما من العاصمة وكل واحد منا يسترجع ذكريات قدسية كانت قد مرت به يوماً ما. عدت إلى البيت كأنني عائد من موعدِ غرامٍ وهمي ..أو كأنني أسبح في عالمٍ من خيالٍ لاينتهي طالما أن هناك نفس في هذا الجسد الفاني.