الحديث عن الواقع الصحي في العراق ذو شؤون وشجون كونه واقع مرير ومؤلم لم ولن يرتقي يوماً الى ابسط المؤسسات الصحية في دول تعتبر بالنسبة لامكانيات العراق دول فقيرة او اقل غنى لذلك اصبح مسؤولي الدولة وعوائلهم يتسابقون للسفر اليها لغرض العلاج او حتى لاجراء الفحوصات اما مستشفياتنا الحكومية البائسة فهي مخصصة للعراقيين ذي الدخل المحدود واصبح هناك طب للاغنياء وطب للفقراء كما هي الادوية ومستوى الخدمات الطبية التي تتوقف على الدفع المسبق بحسب الامكانية المادية، لذلك يشعر العراقي عند مراجعته لاي مؤسسة صحية بمصادرة كرامته وانتهاك ابسط حقوقه الانسانية في بلد غني متخم بالثروات.
لو استعرضنا الكشوفات الخاصة بالمبالغ الضخمة التي صرفت وتصرف الان على مؤسساتنا الصحية او المساعدات الدولية التي منحت لاعادة تأهيلها ،نشعر بالالم والاحباط لانه يمكن لجزء من هذه المبالغ ان تبني لنا افضل المنتجعات الصحية في العالم ، وحتى لو افترضنا في الخيال انه سيتم تشييد مستشفيات وفق معايير منظمة الصحة العالمية، فإن قسم كبير من كوادرنا الطبية لاترتقي الى مستوى التعامل الانساني مع المريض الذي لايتمكن من تأمين المال لمراجعة العيادات والمختبرات الخاصة وشراء الادوية من تجار الدواء الذين لايرحمون ، والامر ينسحب على الكوادر الخدمية التي تفتقر الى ابسط مقومات العناية بالنظافة فهي كوادر تحتاج الى هي تنظيف كما انها لا تجيد سوى الاستجداء من المرضى او ابتزازهم كما يعكسه واقعنا الصحي المتردي .
ان معظم الكوادر الصحية لا تتعامل مع المرضى بطريقة انسانية لذلك تتحمل وزر الكثير من حالات الوفاة او الاعاقة التي تحدث بمستشفياتنا ، كما ان معظم الاطباء الاختصاصين لايتعاملون ولو بجزء بسيط من الانسانية مع مرضى المستشفيات الحكومية ولا يكلفون انفسهم بفحص المريض او معاينته بشكل يشعره بالاطمئنان، كما يفعلون في عيادتهم او في المستشفيات الخاصة التي يعملون لصالحها حين ينهضون لاستقبال المريض ويفرشون الابتسامات العريضة له لكي ينتفون “جيبه وجيب” من معه بالتعاون والتنسيق مع المختبرات والصيدليات وهي دورة من الابتزاز في ظل غياب تام للرقابة والضمير.
سبل الارتقاء بالخدمات الصحية يتوقف على وضع قوانين وضوابط جديدة تحدد فيها تقديم الخدمات الطبية وفق مقاسات انسانية مشددة تشمل الجميع دون استثناءات بحث نتجاوز ظاهرة خدمات العام والخاص وهذا دواء للاغنياء وهذا للفقراء وبحسب المنشأ والتسعيرة ومستوى فعاليته ، كما يجب تغليظ الرقابة والمحاسبة القانونية بحق الذين يرتكبون اخطاء طبية تؤدي الى الوفاة او الضرر الجسدي او النفسي للمريض ، وضمان تطبيق عدة ضوابط ادارية منها تواجد الاطباء الاختصاصيين بعد الدوام الرسمي في الردهات لاسيما الطوارئ لملازمة الاطباء المقيمين او المقيم الاقدم الذي لا يبارح مسكن او بهو الاطباء الا بواسطة او الخوف من مسميات المنسوبيات في الدولة ، والحد من ظاهرة تسرب الادوية والمواد المختبرية الى الصيدليات والمختبرات الاهلية سيما القريبة من المستشفيات، واهمية استقدام كوادر صحية وخدمية اجنبية عسى ان تتعلم منها كوادرنا اسلوب العناية الانسانية بالمريض والاهتمام بالنظافة , وانهاء ظاهرة فرض ” الخاوات ” على المراجعين من قبل موظفي الاستعلامات وحراسها المنسوبين للداخلية.
وهنا استعرض نموذجا بائسا من مستشفياتنا المتهالكة وهي مستشفى الكرامة التي صرفت وتصرف عليها مبالغ خيالية لإعادة ترميمها او بناء وحدات طبية جديدة فيها وفق معايير المقاول ” حنتوش ابو العروك ” التي زادت من بؤسها ، علما ان هذه المستشفى تقع في موقع لا يصلح لمعمل تعليب غذائي إذ يجاورها من الجبهة الجنوبية مقبرة الشيخ معروف وثلاث مدارس منها ثانوية ذات دوام صباحي ومسائي وابتدائيتين، اما بقية الجبهات فتحاذيها محال الحدادة وورش تصليح السيارات التي تدك مدفعيتها المستشفى منذ الصباح الباكر وحتى المغرب !.
اما ردهاتها التي تزكم الانوف والهرج والمرج وكأننا في “سوق الصفافير” ، فضلا عن تطاير دخان السكائر مع انتشار الذباب الذي يتراقص على افواه المرضى لاسيما ذباب مقبرة الشيخ معروف المعروف بتسببها ” بحبة بغداد ” الذي يعتاش على اوساخ الردهات لاسيما ردهات الباطنية العامة او بما تعرف بردهات الفقراء، والامر لا ينتهي بتلك الفوضى بل يذهب الى اخطر من ذلك وهو عدم توفر قسم كبير من الادوية والمواد المختبرية المهمة التي يتم تهريبها الى الصيدليات او المختبرات الاهلية؟ حيث يرشدك العاملون فيها الى مختبرات او صيدليات اهلية لاكمال العلاج او الفحوصات ، فضلا عن التزاحم الشديد على غرف الاطباء الاختصاصين في ايام تواجدهم الشحيحة والشكلية.
لن يتوقف مسلسل معاناة المريض وذويه بل يستمر حين تبدأ رحلة المريض المأساوية سيما الراقد بالمستشفى ومرافقيه حين يتجولون بين اروقة المختبرات والاشعة لاكمال فحوصاته التي تنتهي بالفشل بحجة عدم وجود مواد للفحوصات المهمة . وذات مرة وانا اقف امام شباك صيدلية المستشفى كانت امرأة بسيطة تستلم دواء طفلها الراقد في ردهة امراض الكلى وعند اعطاءها الدواء من قبل احد الصيادلة ، اجابته المرأة : هذا ليس الدواء المطلوب انه في علب كبيرة ! ، صمت الصيدلي وراجع الوصفة مرة اخرى ثم اعطاها الدواء الصحيح ، لكن الطامة الكبرى حين صادفت ذات المرأة في ردهة امراض الكلى وهي تصرخ بألم فسألتها عن السبب فأجابتني ان الممرض اكد لها ان الدواء الذي استلمته من صيدلية المستشفى منتهي الصلاحية منذ اكثر من ستة اشهر ولا يمكن اعطاؤه للطفل!. والغريب ان هذه الصور المؤسفة والمؤلمة وغيرها التي تتكرر يوميا في كل مستشفياتنا وليس في مستشفى الكرامة فحسب التي اخترناها كنموذج لملامستنا الواقعية لتلك االحالات.
كان من المفترض ان يتم تهديم مستشفى الكرامة التي كانت تسمى “مستشفى العزل” سابقا، ونقلها الى مكان قريب يبقى يخدم المناطق المجاورة وذلك الشروع ببناء مستشفى نموذجي على ضفاف دجلة من جانب الكرخ سيما ان هناك مساحات واسعة متروكة كمقر حزب البعث المقبور القريب من مرسى خضر الياس.
والحال ينطبق ايضا على مستشفى اليرموك التي حال ردهاتها البائسة “والوسخة” ليس باحسن حال من شقيقتها الكرامة وغيرها من المستشفيات في بغداد وبقية المحافظات حيث تحتاج هي الاخرى الى تهديم وضرورة اعادت تأهيلها باعتماد البناء العامودي مع توفير بناية كموقف للسيارات واسناد التنفيذ لشركات عالمية اوروبية او اميركية متخصصة ببناء المستشفيات ثم تسليمها بعد استكمالها الى طاقم صحي وخدمي اجنبي متخصص يعاونه كادرنا الطبي العراقي مع استبعاد كادرنا الخدمي لضمان عدم تلوث المشروع وتحويله الى مطبخ او مقهى شعبي ، وبهذا سننهي الهدر والفساد الذي يحدث في مقاولات ومشاريع الترقيع العراقية الفاشلة المستمرة التي نفذت وتنفذ في معظم “الخرايب الصحية” ومنذ اكثر من عشر سنوات.
ان مشكلة واقعنا الصحي وبقية قطاعات الدولة هي الافتقار الى ستراتيجيات تنموية علمية مدروسة بعيدة المدى لمجمل مشاريعنا لاسيما الصحية منها، كما تفتقر مشاريعنا الى التنسيق المتبادل بين الوزارت المعنية لاسيما وزارة التخطيط والتعاون الانمائي التي تعطي البيانات والمعلومات والاستشارات العلمية الدقيقية للمشاريع ، وهذه الفوضى العمرانية هي هدر متواصل للمال العام تنتفع منه مافيات الفساد العراقية ، لاسيما في المشاريع الترقيع المتكررة.
اخيراً اود تذكير وزير الصحة كيف كان الخالد عبد الكريم قاسم يتهجدُ ليلاً بتفقده مرضى المستشفيات لاسيما مستشفيات الاطفال ويجبر الاطباء الاختصاصين على التواجد المتناوب للاشرف على المرضى ، فخلد الله ذكره بالعرفان وجعله مثالاً للوطنية الحقة ، بالوقت الذي لن نسمع يوما ان وزير الصحة او مسؤول رفيع له السلطة بالمتابعة تفقد مستشفى حكومي ليقف على مستوى الخدمات المقدمة والتي تعتبر شبه غائبة بسبب نقص الادوية وعدم الاهتمام ، وامام هذه المرارات تبقى اكثر المرارات وجعاً معاناة الاطفال المرضى وكثرة حالات الوفاة بينهم ، رحم الله من رحم الرعية ولعنة الله على الفاسدين والمتخاذلين والمقصرين في خدمة الشعب.