من الناحية العلمية فإن هناك جزأين في الدماغ البشري يتقاسمان الأدوار في إدارة إبحار الفرد في صيرورة حياته. الجزء الأول يدعى الدماغ القديم أو الدماغ المتوسط في بعض الأدبيات وهو الجزء الدماغي الذي يتماثل تشريحياً بين بني البشر وأسلافهم من الكائنات الحية، ولذلك يدعى في بعض الأحيان تندراً «دماغ السحالي». وذلك الدماغ القديم مسؤول عن الوظائف الارتكاسية الأساسية المناط بها حفظ النوع من الفناء، وخاصة فيما يتعلق بوظائف الطعام والشراب والنوم والتكاثر، والكثير من الارتكاسات العقلية العفوية وغير الواعية من قبيل التوجس شراً من ظرف أو شخص ما دون إدراك الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ذلك. والجزء الثاني يدعى الدماغ الجديد والذي يمثل القشرة الدماغية الفائقة التي يتميز بامتلاكها بنو البشر عن سائر أقرانهم من الحيوانات الأخرى، وهي الجزء الذي يمكنهم من القيام بقدرات التحليل والاستنباط والتخيل والتخطيط والاستنتاج والإدراك بشكل رفيع لا يتمكن من القيام به حتى أقرب الحيوانات لبني البشر من الناحية المورثية في مجموعة الأوليات.
ويعمل ذينك الجزءان الدماغيان بشكل تكاملي في غالب الأحيان، جوهره قيام الدماغ القديم بكل الوظائف التي يمكن القيام بها لوحده، وبحيث يوفر طاقات الدماغ الجديد للمهمات الصعبة التي لا يمكن للدماغ القديم القيام بها، وذلك لتلبية هدف تطوري تكيفي محض جوهره توفير الاحتياجات من الطاقة خاصة وأن الدماغ الذي لا يتجاوز وزنه 2% من وزن جسم الإنسان يستهلك ما قد يصل إلى 30% من مجمل الطاقة التي يصرفها الجسم كله، والتي يتم صرف جلها في العمليات التي تقوم بها القشرة الدماغية الفائقة في الدماغ الجديد.
ولكن المعضلة تكمن في أن آليات عمل الدماغ القديم بدائية مبسطة يتشارك فيها البشر مع أسلافهم في مملكة الحيوانات، تقوم على أساس صياغة أوامرها العصبية بناء على اتفاق كل القرارات والتوجهات التي تدفع باتجاهها مع متطلبات حفظ الفرد من الفناء، وزيادة فرصه في البقاء على قيد الحياة وإنجاب ذرية تخلفه من بعده وتحمل مورثاته إلى الأجيال من بعدها، دون الأخذ بعين الاعتبار أي اشتراطات أخرى قد يفرضها تعقد طبيعة وظروف حياة بني البشر المعاصرة، والتي لا بد لهم أن يبحروا في لجها، بنفس القدرات الدماغية التي تطورت تاريخياً خلال سبعة ملايين من السنين هي عمر الجنس البشري الحالي من فصيلة الإنسان العاقل Homo Sapiens وأسلافه من فصائل بني البشر البائدة. وهو ما يعني عملياً أن الإنسان المعاصر لا بد له أن يواجه وقائع ومتطلبات حياته اليومية بدماغ لا يختلف من الناحية التشريحية أو الوظيفية عن دماغ بني البشر في مرحلة الصيد والالتقاط التي قضى البشر جل رحلتهم التطورية فيها، إذ لا تمثل مرحلة المدنية المعاصرة أكثر من لمحة عين في تلك الرحلة الطويلة.
وذلك الواقع التطوري يفرز في الكثير من الأحيان حالة من التناقض بين توجهات الدماغ القديم وتلك التي يدفع باتجاهها الدماغ الجديد، ليس لعلة في أدمغة بني البشر، وإنما بسبب أن أدمغتهم تطورت تاريخياً لتحافظ على بني البشر في ظروفهم الأكثر اتساعاً من الناحية الزمنية خلال رحلتهم التطورية الطويلة، وهي الظروف الحياتية والبيئية المرتبطة بنظام الصيد والالتقاط، وليس واقع واشتراطات الحياة المدنية المعاصرة بأشكالها وتلاوينها المعقدة.
وكمثال على ذلك يمكن أن نشير إلى ذلك التنازع الذي يعاني منه الكثير ممن يجب أن يبتعدوا عن الأطعمة الغنية بالسكريات والدهون المشبعة من قبيل مرضى الداء السكري ومرضى قصور الأوعية الإكليلية في القلب، وهو تنازع جوهره دفع كل من الدماغ القديم وذلك الجديد باتجاهين مختلفين، الأول مبسط يقوده الدماغ القديم باتجاه التهام وجبة غنية بالسكريات والدهون وهي وجبة نادرة واستثنائية في ظروف حياة الجمع والالتقاط، وقد يستحيل تكرارها في المستقبل، وهو ما يقتضي الاندفاع بأقصى طاقة لالتهام ما هو ممكن منها قبل انقضاض الحيوانات الأخرى عليها، أو تلفها بسبب الظروف البيئية المحيطة بها، والثاني عقلاني رشيد يقوده الدماغ الجديد الذي يجتهد لمقاومة ذلك الاندفاع المحموم عبر تحليله منطقياً للاستنتاج بأنه قد يقود إلى أضرار صحية عميمة في حال عدم كبح لجام الاندفاع الذي يقود باتجاهه الدماغ القديم. وهنا يبرز للعيان البُعد الجوهري للتربية والتعليم والمستوى الثقافي ومدى استنارة الفرد التي تمثل جميعها أدوات أولية لا بد للدماغ الجديد من الاتكاء عليها ليتمكن من مقاومة الميول الفطرية العفوية التي يدفع باتجاهها الدماغ القديم، وبحيث يتم تحديد الجزء الدماغي الذي سوف ينتصر في ذلك النزاع حسب قوة وتدريب وكفاءة الأدوات الفكرية التي استبطنها الدماغ الجديد تعلماً واستنارة، وقام باستخدامها كأدوات تحليلية عاقلة إرادية لعقلنة ذلك التنازع والخروج منه بأكثر النتائج رشاداً وانسجاماً مع نهج الدماغ الجديد في التفكير المتعقل.
ولكن ذلك النموذج من التنازع لا يقوم على أرض محايدة، وإنما على أرضية تطورية تاريخية تمنح الدماغ القديم قدرات فائقة على إخراج الدماغ الجديد من دائرة التنازع، عبر تحييد كل تداخلاته وقدراته وآلية وصوله إلى الاستنتاجات التي قد تكون بطيئة وتحتاج إلى كثير من الأخذ والرد والتأمل للوصول إلى نتائجها، وذلك حينما يكون هناك إدراك على المستوى الدماغي بأن هناك خطراً يهدد وجود الفرد سواء كان ذلك معلناً أو مضمراً، وهو ما يقتضي أن يتصدر الفعل على المستوى الدماغي جزء في الدماغ القديم يدعى اللوزة الدماغية Amygdala وهو الجزء المسؤول عن ارتكاسات الخوف والدفاع عن الذات، و هو الفعل الذي قد يتمظهر في بعض الأحيان بأشكال عنيفة، لا تختلف كثيراً عن سلوك الحيوانات الأدنى في سلم تطور الكائنات الحية، والتي يدعوها علماء فيزيولوجيا الدماغ تندراً في بعض الأحيان «هياج السحالي»، أو باللغة الإنجليزية «Lizards Rage». ولذلك فإن الحالة شبه المطلقة هو أن البشر يميلون إلى العقلانية والرشاد حينما يشعرون بالاطمئنان وعدم وجود تهديد قريب أو بعيد لوجودهم البيولوجي أو حتى المعنوي. وعلى المقلب الآخر فإن كل القيمة الفائضة للدماغ الجديد وقدراته الفائقة يتم تآكلها وإمحاؤها عند شعور الفرد بالقلق والشدة العقلية والجسدية والخوف الداهم أو المزمن، وهو ما يجعل أرض التنازع السالف الذكر بين الدماغين الجديد والقديم ممهدة وميسرة لتداخل وتسيد الدماغ القديم، وبالغة الوعورة لتصدر الدماغ الجديد في نهاية المطاف.
وهذا التوصيف السالف الذكر ينسجم مع المعرفة العلمية الثابتة بأن البشر كائنات معقدة من الناحية الدماغية العقلية، يعقل كل منهم في ذاته العديد من الاحتمالات التي قد تكون متناقضة في اتجاهاتها، والتي يحدد بروز أي منها إلى درجة كبيرة الظرف البيئي والاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد.
وبعد هذه المقدمة الطويلة يمكن الإجابة بشكل أكثر تبئيراً عن السؤال العريض المتعلق عن أي وجهة الدوافع الفطرية لبني البشر حينما يتعلق ذلك بدوافع التنافس أو التعاون أو دوافع الأنانية والإيثارية بمختلف درجات كل منها وتمظهراتها المختلفة. ولا بد للجواب أن يبدأ من الحقيقة الأساسية في عمق تكوين الجنس البشري والمتعلقة بأن الأنانية ليست جزءاً بنيوياً من ذلك التكوين على الرغم من أنها قد تكون وسيلة دفاعية في صيرورة حياة بني البشر. والمثال الأكثر نصوعاً وجلاءً عن ذلك يتمثل في طبيعة العلاقات داخل الأسرة التي تمثل نواة استمرار عيوشية الجنس البشري، والتي كان لا بد للاصطفاء الطبيعي وقوانينه من أن تعمل لحفظ الأسرة من الفناء، إذ أن فناءها يعني حتمياً انقراض الجنس البشري. وتشي طبيعة العلاقات بين أفراد الأسرة بأن الميل الأكثر حضوراً بين عديدها هو باتجاه التعاون والإيثارية، وليس الأنانية والتنافس. وكمثال على ذلك، يمكن تخيل عائلة من أب وأم وطفلين في وقت مسغبة حين حظيان الأب في لجها برغيف خبز، وهو قادر بقوته الجسدية على نهر وزجر الأطفال والزوجة الجائعين، والتهام الرغيف بأكمله، ولكنه في الغالبية المطلقة من الحالات كما وثقتها الأدبيات البحثية لا بد أن يعمد إلى إطعام أطفاله قبل نفسه، أو حتى إعطائهم القوت كله، وترك نفسه لمكابدة عسف المسغبة، عبر إيثارهم على نفسه، وهو القادر على اتخاذ قرار عكس ذلك، وإرغام الآخرين على القبول به بالقوة الجسدية العارية. وذلك المثال الأخير يمكن سحبه وتوسيعه بشكل يتجارى مع صيرورة تطور البشر التي انتقلوا فيها من الأسرة النووية الضيقة إلى فضاء الانتساب إلى مجموعات بشرية مصغرة لم تتجاوز أعدادها أكثر من 150 فرداً في الغالبية المطلقة من الحالات خلال مرحلة الصيد والالتقاط التي مثلت أكثر من 99.9% من الأمد الزمني لرحلة تطور الجنس البشري كما أشرنا إليه سالفاً. والحقيقة التي تفضي إليها نتائج الأبحاث الأنثروبولوجية الموسعة عن سلوك المجتمعات البشرية التي ظلت تعيش على طريقة أسلافهم بالصيد والالتقاط في غير موضع من أرجاء المعمورة خلال القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة تؤكد على أن سلوك التعاون والإيثارية وتقاسم المغانم والأتراح سلوك طبيعي وثابت في تلك المجتمعات، وهو سلوك كان لا بد من استبطانه في جوهر الآليات الداخلية الناظمة لعمل الأسرة والمجموعات البشرية التي انتمى إليها البشر خلال رحلتهم التطورية لانسجامها مع الهدف الموضوعي الميتنى عضوياً في عمق الدارات الدماغية لكل الحيوانات ومن ضمنها أبناء البشر متمثلاً في حفظ النوع من الفناء البيولوجي، وضمان مرور مورثات الأجيال الراهنة إلى أسلافها من بعدهم كوسيلة وحيدة لحفظ النوع من الانقراض. وهو الذي كان لا بد أن يكون الحال عليه في ضوء الحضور السرمدي لقوى الاصطفاء الطبيعي لتنقية الأجناس الحيوانية جميعها وبشكل خاص بني البشر من تسيد الميولات الأنانية والتنافسية، و منعها من أن تصبح هي القاعدة وليس الاستثناء في الأوضاع الدفاعية المحضة، وهو الاحتمال الذي لو لم يتم غربلته و نبذه بقوى الاصطفاء الطبيعي لكان مقدمة لاحتمال انقراض جنس بني البشر كليانياً، كما يمكن تخيله في مثالنا السابق، حين يقرر الأب التهام الرغيف وترك طفليه للتضور جوعاً والفناء البيولوجي، وهو ما يعني الإقلال من فرصه في تمرير مورثاته إلى الأجيال اللاحقة، وهو ما سوف يعني إمحاء مورثاته من الحوض المورثي للجماعة التي ينتسب إليها جراء أنانيته، وازدياد نسبة مورثات من كان على عكسه إيثارياً ومتعاوناً على مستوى أسرته والمجموعة البشرية التي ينتسب إليها، وهو الذي سوف تغلب مورثاته في الحوض المورثي للجماعة التي ينتسب إليها بعد عدة أجيال جراء مساهمتها الإيجابية في تعزيز فرص من يتحلى بتلك المورثات في البقاء على قيد الحياة وإنجاب ذرية تحمل مورثاته من بعده، و هو ما يعني من الناحية الوراثية اندثار مورثات الأنانية من تلك الجماعة البشرية، و حلول مورثات الإيثارية و الغيرية محلها بعد عدة أجيال كحد أقصى.
ولما كانت موارد بني البشر شحيحة في جل رحلتهم التطورية الطويلة، فكان لا بد من وجود مرشحات لأجل عدم تبديد تلك الموارد الشحيحة بشكل قد يفوق فرصة البقاء على قيد الحياة للفرد والمقربين منه في أسرته ومجموعته البشرية التي ينتسب إليها، وهو الهدف الموضوعي المستبطن بيولوجياً في داخل كل كائن حي تم اصطفاء وتنقية سلوكه بقوى الاصطفاء الطبيعي، ولذلك كان لا بد من تطور آليات دماغية بنيوية لتعريف وتصنيف أي كائن بشري آخر يحتمل التلاقي معه لأي سبب في خانة «نحن» أو «الآخر». و«نحن» هنا تعني بشكل مبسط كل من قد يتلاقون حول جملة من الأهداف قد تسهم في المآل الأخير في تعزيز فرص أولئك الملتقين في البقاء البيولوجي على قيد الحياة وعدم الاندثار من وجه البسيطة بسبب عسف وقسوة المحيط البيئي والحيوي. وهو ما كان يعني أيضاً تصعد الميولات الفطرية «لنجدة الملهوف»، و«التصدر لحماية الأطفال والمستضعفين»، وغيرها من الميولات العفوية التي كان لا بد للجنس البشري من تبنيها بشكل جمعي إذ أن كل فرد معرض للوقوع في أسر تلك الظروف البيئية الحيوية وحبائلها. و في الواقع فإن احتمالية أن يقوم أفراد الأسرة الواحدة بالقيام بتلك السلوكيات الإيجابية فيما بينهم أكثر رجحاناً بسبب التقارب البيولوجي المورثي فيما بينهم، بالانطلاق من المبدأ البيولوجي الغير قابل للتغاير و المتمثل في السعي المستدام لحماية مورثات الذات من الانقراض و الاندثار، والذي يعني أيضاً السعي لحماية مورثات الأقربين نظراً للعلاقة التناسبية الطردية بين درجة قرابتهم ومعدل التقارب المورثي معهم، وهو الذي يصل بين أقرباء الدرجة الأولى مثلاً كالآباء والأمهات والأبناء والبنات إلى درجة 50%، وبين أبناء العمومة والخؤولة إلى 25%، لتقل النسبة بحسب درجة الابتعاد في شجرة العائلة، و هو ما اقتضى أيضاً اصطفاء وتعزيز بقاء البشر الذين تمتعوا بقدرات فطرية على تمييز الأقربين، بالتوازي مع تمييز أولئك الأبعدين الذين قد يكون هناك رابط واه معهم من الناحية الوراثية، ولكن يجمعهم معهم اتفاق في الميولات والاتجاهات والمصالح، وهو ما قد ينعكس في نهج ترشيد وتوجيه الموارد الشحيحة لبني البشر باتجاه تعزيز فرص الفرد و أقرانه في مجموعته البشرية في البقاء على قيد الحياة وإنجاب ذرية من بعدهم. وهو ما يجد حالته النموذجية في المجموعات البشرية المتباعدة وفق شروط حياة الجمع والصيد، وعدد أفرادها الذي لم يكن ليتجاوز 150 فرداً في الغالبية المطلقة من الحالات التاريخية الموثقة بحثياً، بشكل يظهر كما لو أن كل مجموعة بشرية منها عبارة عن عائلة كبيرة جميع أفرادها مرتبطون بصلة دم أو رحم بشكل من الأشكال، وتجمعهم أيضاً جملة من الأهداف والمصالح المشتركة التي تتجه جميعها باتجاه حفظ نوع أولئك الأفراد والأقربون وراثياً منهم من الانقراض، و محاولة تفادي التنافس و التناحر مع المجموعات البشرية الأخرى، بشكل قد يهدد الوجود البيولوجي لأبناء تلك المجموعة، خاصة في ضوء ندرة احتمال التلاقي مع أي مجموعة بشرية أخرى، نظراً لأن أعداد كل بني البشر و أسلافهم كانت محدودة دائماً خلال جل السيرورة التطورية لبني البشر، و هي الأعداد التي تدنت إلى مستويات مهولة خلال العصر الجليدي الأخير منذ حوالي 70000 عاماً إلى ما لا يتجاوز بضعة آلاف من البشر تواجد جلهم في الجزء الشرقي من القارة السمراء.
وهذا ما عنى من الناحية العملية وجود مشعرات عالية الرهافة والحساسية في الدماغ القديم لبني البشر يحكمها بنيتان تشريحيتان الأولى هي اللوزة الدماغية Amygdala التي أشرنا إليها آنفاً، والثانية هي الحصين Hippocampus المسؤول عن ذاكرة بني البشر، و الارتكاسات النفسية العاطفية التي تولدها الذاكرة، بحيث تعمل تقوم تلك البنيتان التشريحيتان بدور مجسات استشعار لا تتوقف عن العمل لأجل تصنيف كل من تلتقي معه في حياتها اليومية في خانة «نحن» وأعضائها الجديرين بالتضحية والتعاون والإيثار من أجلهم، وأولئك «الآخرين» الذين يحتمل أن يكون صرف الموارد الشحيحة والطاقات المحدودة للإنسان من أجلهم تضييعاً لها هذا إن لم يمثل أولئك الآخرون تهديداً عميقاً لا بد من تجنبه، أو حتى التعامل العنيف معه إن اقتضى الأمر ذلك، لحماية الموارد الشحيحة من تغول «الأغيار» عليها، وتفويت الفرصة على مجموعة «نحن» في الوصول إليها.
ومع تعقد نمط حيوات بني البشر بعد استقرارهم في مجتمعات زراعية منذ حوالي اثني عشر ألف عام، وهو ما لم يغير قيد أنملة من بنى أدمغتهم التي تنقت وتصفت داراتها البنيوية بقوى الاصطفاء الطبيعي على امتداد ملايين من السنين خلال مرحلة الجمع والصيد، ولم يكن لهم سوى الاتكاء على تلك الميولات الغريزية لديهم لمحاولة إيجاد طريقهم الأكثر نجاعة في لج تعقيد المجتمعات الزراعية و الازدياد الانفجاري لأعداد المنتسبين إليها، وهو ما لم يتحقق بعد، وحتى اللحظة الراهنة، وهو ما يتجلى في الميول العفوية و العضوية لبني البشر لتصنيف ذواتهم بناء على تفاصيل سحناتهم البيولوجية علَّ ذلك يمكنهم من الإمساك بأولئك الأقربين إليهم مورثياً، واستعدادهم للإمساك بتلابيب أي شماعة يمكن أن تمثل إيماءً بتلاقٍ محتمل مع أولئك الآخرين على صفات أو أهداف مشتركة معلنة كانت أو مضمرة، وحتى وإن كانت واهية، من قبيل تشجيع نفس فريق كرة القدم، وما كان على شاكلته، ليصبح أولئك من فريق «نحن» جديرين بكل إيجابيات بني البشر المبتناة عضوياً في عمق دارات أدمغتهم سواء كان ذلك إيثاراً أو تعاوناً أو حتى دفاعاً مستميتاً عن حيواتهم قد يصل إلى درجة التضحية بالنفس من أجلهم، ويصبح كل أولئك غير المتمتعين بتلك الصفات والأهداف المشتركة الواهية أو حتى المختلقة اعتباطياً في بعض الأحيان، من فئة «الآخرين» الذين لا بد من حجب كل الميولات الإيجابية العفوية عنهم، والتغول على وجودهم وحيواتهم لتفويت فرص الحظيان بغنائم الموارد الشحيحة عليهم، وهي الموارد التي لم تعد شحيحة في حيواتنا المعاصرة، ولكن لما تتطور أدمغة بني البشر لتدرك ذلك، وهي لا زالت في أسر حدودها التطورية التي تم رسم أطرها خلال تطور الجنس البشري في مرحلة الجمع والصيد كما أشرنا إليه آنفاً.
وهنا يبرز ذلك التوصيف الأخير بكونه المحرك الأساسي لجل حالات الشقاق الاجتماعي في حيواتنا المعاصرة من «عنصرية»، و«مذهبية»، و«مناطقية» وغيرها من التصنيفات الهرائية على شاكلة تشجيع نفس فريق كرة القدم، والتي في جوهرها تمظهرات عضال لعسر تكيف بني البشر مع واقع الحياة المدنية المعاصرة، وهم الذين لم تتطور أدمغتهم بقوى الاصطفاء الطبيعي للتكيف معها، وإنما للتكيف مع شروط مرحلة الجمع والصيد والمجموعات البشرية المصغرة، والتي تخالف جوهرياً واقع حيواتنا الراهنة.
وفي هذا السياق تبرز الأهمية الاستثنائية لعناصر اجتماعية استثنائية في أهميتها في تخفيف وطأة تلك المعاناة السالفة الذكر، أو زيادة تفاقمها إلى مستوى قد يذهب ببني البشر كلهم في حال الاستمرار بتجاهلها، وأعني هنا التنوير، والإعلام، والحريات الأساسية وخاصة حريتي التعبير والتنظيم. ويمثل التنوير المدخل الذي يمهد الطريق للدماغ الجديد بقدراته الفائقة ويمكنه من التداخل في عملية استبطان كل ما يجري معاملته عقلياً، وبحيث يتم الاستدماج التدريجي و التراكمي لقدرات العقلنة والرشاد والتروي في نهج تفكير الإنسان اليومي، وجميعها مهارات ليست فطرية وإنما مهارات يمكن توطينها عقلياً في دارات الدماغ البشري الجديد عبر التعلم والتدرب على فن استخدامها بشكل ينسجم مع الصورة العريضة لمصالح الفرد.
وتتمتع عملية الاستبطان تلك برهافة منقطعة النظير، إذ أنها تمثل الآلية الوحيدة التي يمكن من خلالها نقل السلوك الإنساني من سوية الارتكاس والانفعال الذي يحكمه هدف حفظ النفس والمجموعة البشرية التي ينتسب إليها من الاندثار البيولوجي، إلى سوية سلوك الإنسان العاقل الذي يُخضع كل حركاته وسكناته إلى الترشيح في مصفاة التأمل باحتمالات مآلات ما سوف يقوم به على المدى البعيد، وما يقتضي ذلك من تقديم أو تأخير لسلوك ما لأجل الحصول على أفضل ما يمكن حصده من ذلك السلوك، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي. وذلك التعريف للتنوير يجب أن يعيدنا إلى أهمية العملية التعليمية بمختلف مستوياتها، والتي يجب أن يكون هدفها الأساسي توطين المعارف والاستنارة والرشاد ومهارات التفكير الحر المنطقي دون حصر جل أهداف العملية التعليمية في التدريب لأجل تجاوز الامتحانات بكفاءة ضمن نسق عام مضمر يحكم أنساق تلك العملية جوهره تدريب الإنسان على المبادئ الأساسية المطلوبة للحصول على فرصة عمل في اقتصاد السوق، دون الاكتراث الحقيقي بمحورية تعليم المهارات العقلية الضرورية التي لا يمكن لقدرات الدماغ الجديد من أن تفصح عن نفسها دونها.
وفيما يتعلق بالإعلام بكل أشكاله التقليدية أو المستحدثة من قبيل وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه يلعب دوراً مطلق الأهمية في خلق المناخ العام الذي سوف يجتهد العقل البشري في خضمه لاتخاذ قراراته وتحديد توجهاته وآليات عمله. وللأسف الشديد فإن النموذج السائد من نواظم العمل الإعلامي على المستوى الكوني مرتبط بتخليق مناخ عام من الرهاب والخوف المقيم لدى كل البشر من ذلك البعبع الذي يتلطى في كل زاوية ووراء كل باب، حتى لو كان ذلك أخباراً أو تلفيقات عن كائنات فضائية تنتظر الإطباق على كوكب الأرض، أو قصصاً هامشية تحدث هنا وهناك يتم تسليط الضوء عليها لتأجيج واستدامة حالة الخوف الجمعي المقيم تلك، والتي تمثل أفضل المداخل لزيادة شد انتباه بني البشر وتسمرهم لمتابعة تلك الوسائل الإعلامية، وهو ما يدر عليها دخولاً مالية فلكية من الإعلانات التي تبثها بين حنايا أخبار التخويف والترهيب الجمعي المبرمج. وذلك المناخ من الرهاب الجمعي لا يمكن أن ينتج إلا تصدراً للدماغ القديم في كل حركات وسكنات الإنسان، إذ أن حالة الخوف لا بد أن تستدعي الآليات المنقاة عبر ملايين السنين في الدارات العميقة في الدماغ القديم والمبأرة حول حفظ النوع من الفناء البيولوجي، والتي تعمل بشكل إضافي لتحييد كل قدرات وطاقات الدماغ الجديد، إذ ليس هناك وقت للتعقل والتأمل والتروي والتحليل والرشاد، حيث أن هدف حفظ النفس من الانقراض في لج الروع الجمعي يقتضي الاستسلام المطلق للدماغ القديم وآلياته البدائية، والتي للأسف تعيد البشر في كثير من الحالات إلى مستويات منحطة يصعب فيها تفريق الإنسان عن أسلافه من الحيوانات الأخرى.
والمحور الأخير يتمثل في الحاجة لتوطيد وجود الحريات الأساسية وضمانها في عمق البنيان الاجتماعي لأي مجتمع يراد له التقدم حضرياً، إذ أن الحريات الأساسية سواء في التفكير أو التعبير أو الاعتقاد تمثل الشرط الذي لا بد منه لإفساح الفرصة لتلاقي البشر حول مواضيع مستجدة ومرتبطة عضوياً بحيواتهم اليومية، و التلاقي على أهداف فكرية أو نفعية جمعية مشتركة في مناخ مجتمعي يتيح لأفراده حرية تبني مثل تلك الأهداف و السعي لتحقيقها، و هو ما يمثل الخطوة التي لا بد منها لإطلاق حركية النشاط والحراك الفكري في المجتمع، وديناميكية العمل المصلحي الجمعي بشكله النقابي وحتى الحزبي الحر، وهو ما سوف يفسح المجال بالتالي لحلول وعي التمدن في سياق المجتمع المدني الحر محل الوعي العفوي والميول الفطرية تجاه التعصب والمفاعيل المدمرة لصراع الهوية الوجودي بين «نحن» وأولئك و«الآخرون».
وإن السعي بكل المسارب التي تسهم في إغناء حركية المجتمع المدني والحفاظ على وجود مكوناته، والتي قد تكون مبادئ الحريات الأساسية على رأس قائمتها، يمثل المدخل الذي لا خير منه لتصحيح أهداف العملية التعليمية في المجتمع، واستدماج الأهداف التنويرية فيها، وترويض الإعلام مدنياً في سياق كبح لجام اقتصاد السوق الذي لا قيمة تعلو فيه على قيمة الربح السريع بغض النظر على أي خسائر جانبية لا بد منها، لصالح اعتبار المصلحة الجمعية كمعيار أساسي لا بد من الالتزام به من قِبل أي من وسائل الإعلام قبل أن يسمح لها المجتمع في النشاط فيه، والتربح من ذلك النشاط. وهو النموذج التكاملي الوحيد الذي يحتمل أن يفضي إلى تقدم للبشرية باتجاه الأمام وعدم النكوص أو الاندثار من وجه البسيطة، وهو الاحتمال المرعب الذي يزيد واحسرتاه احتمال تحققه يوماً بعد يوم في ظل واقع تنكس المجتمعات البشرية جراء ما تعرضت له من تهشيم تاريخي بأدوات الرأسمالية الوحشية المعولمة، والتي حولت البشر من كائنات عاقلة مبدعة إلى كائنات استهلاكية مرتعدة الفرائص في كل حركاتها و سكناتها، وحولت المجتمعات من مجتمعات حية إلى تجمعات من البشر الفرادى المعزولين الذين لا يجمعهم فيما بينهم سوى تواجدهم في نفس الزمان والمكان.