23 ديسمبر، 2024 8:42 ص

طبيعة الاعتقاد الديني

طبيعة الاعتقاد الديني

الاعتقاد ( الأ يمان )عموما هو علاقة  ايجابية بين وعي الأنسان وبين افكار  معينه  ، اي ان الاعتقاد يتضمن طرفين هما المعتقد ( بكسر القاف ) والمعتقد  ( بفتح القاف ) فعندما يعي ( يدرك )الانسان فكرة ما ويتخذ منها موقفا ايجابيا ( مؤيدا ) يكون قد اعقد ( امن ) بها وعندها ينشأ الاعتقاد  .
ان الافكار المدركة  (حتى لو جاءت عن طريق الغيب ) ليس لها وجود مستقل عن الوعي الانساني العام( ليس لها وجود موضوعي ) ولكنها مستقلة عن وعي الفرد قبل ادراكها من قبله غير انها تكف عن كونها كذلك حالما يحتازها وعي المعتقد لانها تصبح جزء من وعيه اي تصبح فكرته هو حتى وان شاركه اخرون بها. فالديمقراطية مثلا وهي نظرية في الحكم ( فكرة ) ليس لها وجود موضوعي مستقل عن الوعي البشري عموما ولكنها مستقلة عن وعيك انت قبل ان تدركها، وحين ادركتها واعتقدت بها صارت فكرتك انت، وقد تتفاعل مع افكار اخرى لديك فتتولد لديك فكرة او افكار اخرى قريبة من او بعيدة الصلة عن فكرة الديمقراطية الاولى ( الاصلية )
 والامر لايختلف في حالة الاديان، فهي كافكار واراء، ايضا مستقلة عن المعتقدين بها  ، اي أن الاعتقاد بالفكرة الدينية  شيء مختلف عن  الفكرة الدينية نفسها فهو ( الاعتقاد ) موقف الانسان ( اي موقف وعيه ) من الفكرة الدينية ايجابا( اي الايمان بها ) ، وكما اوضحنا  فان الفكرة ( اي فكرة ) عندما يعتقد بها الفرد فانها تصبح فكرة الفرد المعتقد نفسه وتخضع بالضرورة الى ظروف الفرد المعتقد المتنوعة ( النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخ) وتتفاعل معها مما يجعلها عرضة للابتعاد عن ماهية الفكرة الاصلية كثيرا او قليلا ، وهذا امر معروف فكل الافكار الجديدة التي ينتجها الانسان اساسها افكارقديمة  ادركها ذلك الانسان وانتج منها فكرة جديدة ، ولهذا اصبح التمييز بين الفكرة (الدينية خاصة ) والمعتقدين بها امرا ضروريا لان الفكرة الدينية قد تتحول عند المعتقدين  بها الى فكرة دينية اخرى ربما لاصلة لها بالفكرة الاصلية ، وكما هو معروف فقد نشأت تاريخيا عند المعتقدين بفكرة دينية (ما) افكار دينية جديدة لاتبدو لها احيانا اي صلة بالفكرة الاصلية او تتميز عنها تميزا واضحا وهذا يفسر ظهور مذاهب مختلفة ( متعادية احيانا ) رغم ان منشاها فكرة دينية واحدة ( اي دين واحد ).

   وللبشر كما هو معروف اعتقادات متنوعة غير الاعتقاد الديني غير أن  الأعتقاد الديني يتميز عن اغلب الاعتقادات البشريه  الاخرى بعدة خواص  منها :
اولا : ان صيرورة الاعتقاد الديني تسبق صيرورة كل المعتقدات والافكار لدى الانسان، فأنه (الاعتقاد الديني ) يصير ( يبدا ) مع بدايات الانسان  الاولى   ( يولد الولد على الفطرة فابواه يهودانه او ينصرانه او يمجسانه – حديث نبوي ) فهو( الاعتقاد الديني )  اسبق الاعتقادات والافكار التي تغزو الوعي الانساني  ثم تتكفل البيئة الاجتماعية بسيرورة هذا الاعتقاد  لتحدد نوع  ودرجة ايمان الفرد ومدى ارتباطه بمعتقده الديني .
هذه الحقيقة تؤكد ان الانسان غير مسؤول عن معتقده الديني فهو مجبر على هذا الاعتقاد لامخير فابواه ومجتمعه لقناه اياه منذ ميلاده وصار يعتقد ان دينه هو دين الحق ، ومن هنا نشأت فكرة مبدا( التسامح الديني)  الذي وصل على يد (الاصمعي) الى حد التصريح الجريء بان النار ( لايدخلها الا من عرف الحق حقا فزاغ عنه ) وبما ان كل صاحب ديانة يرى الحق معه فان دخول النار( حسب مقولة الاصمعي ) لايتعلق بالايمان بدين   او بمذهب محدد ووحيد بل بامور اخرى  تشكل جوهر كل الديانات كالاستقامة والنزاهة وعدم الاعتداء على الاخرين الخ ، وقال الامامي الشافعي قولا صرنا الان لانجرأ على التصريح بمثله فقد قال مامعناه ( رأينا صحيح قابل للخطأ ورأي غيرنا خطأ قابل للصواب ) وهو قول يرفض احتكار الحقيقة فما اروعه .
ثانيا : قدسية المعتقد الديني : رغم ان بعض المعتقدات الاخرى ( غير الدينية ) لها بعض القدسية والاحترام وتعتبر مخالفتها ، عند المؤمنين بها ، امرا معيبا كما في حالة العادات والقيم الاجتماعية الا ان المعتقد الديني يتميز بقدسية كبيرة  لها قدرة فرض الاحترام حتى على غير المعتقدين بها ، وحتى الدول الغربية وهي دول علمانية تخضع في احيان كثيرة الى مايطلبه المعتقد الديني ، فمثلا  في امريكا حصل بعض الامريكيين على استثناء من قانون الخدمة الالزامية اثناء الحرب على فيتنام لأنهم ادعوا ان دينهم لايسمح لهم بالاشتراك في الحروب ، في حين سجن من رفض الالتحاق بالجيش الامريكي لاسباب ضميرية ،وتجد ان قاعات المحاكم في امريكا وكندا واغلب الدول الاوربية تضع رقعة على ابوابها تشير الى منع وضع غطاء  على الراس داخل قاعة المحكمة احترما للمحكمة الا اذا كان وضع الغطاء لاسباب دينية ، ورضخ صدام حسين وسمح للايزيدين الذين يخدمون في القوات المسلحة بعدم حلق ذقونهم  لان الايزيدية لاتسمح بحلق ذقون المؤمنين بها . وفي هذا المجال يمكن الاشارة الى حقيقة ملموسة وهي ان النظرة الى المقدس الديني تزداد تصلبا في المجتمعات المغلقة او المتخلفة كالمجتمعات الاسلامية حيث تتسع قائمة المقدسات للتسع معها قائمة الممنوعات حتى ان تجسيد شخصية الخليفة عمر اثار اعتراضات كبيرة رغم ان المسلسل صمم لتمجيد الخليفة وليس للتقليل من شانه .اما في المجتمع الغربي حيث التقدم والانفتاح الاجتماعي فان المقدس الديني تطاله يد النقد التاريخي وحتى يد الساخرين دون ان يثير ذلك غضب المتدينين ، ولهذا فقد تعجب الغرب من غضبة المسلمين العنيفة بسبب فلم ( براءة المسلمين ) المسيء للرسول ، وقد علّق كاتب عراقي على هذا التعجب قائلا ( صحيفة ذا اون لاين الامريكية الساخرة تتهكم على رموز مقدسة مسيحية ويهودية وتقول : ان احدا لم يقتل ) ثم يعلق كاتبنا على هذا التعجب قائلا ( اي رمز منهم يساوي نعل محمد (ص) واله ) وهذا الكلام  فضلا على كونه مخالف للاسلام الذي يقدس عيسى وموسى فانه يوحي بان هذا ( الكاتب العراقي ) يعتقد ان المتدينين المسيحين واليهود لاينفجرون غضبا كانفجارنا عندما تتم السخرية من رموزهم لان رموزهم الدينية  لاتستحق الغضب العارم الذي وصل الى حد قتل السفراء في حين ان السبب الحقيقي وراء(  تساهل ) الغربيين هو انفتاح مجتمعاتهم وتقدمها الذي قضى على التزمت الديني ( لا على التدين ) ولو تمت السخرية من الرموز المسيحية  في زمن محاكم التفتيش المظلم لكان غضب المتدينين المسيحيين امضى من غضب الليبيين الذين يجهلون ( او يتجاهلون ) حقيقة  ان السفير الامريكي والحكومة الامريكية غير مسؤولين عن انتاج ذلك الفلم السخيف . في الدول المتقدمة  كما هو معروف حرية واسعة للتدين  تحضى بالدعم المادي للدولة و يشهد عليها بناء المساجد في كل المدن الغربية ويقابل هذه الحرية حرية نقد الدين  ضمن حرية الراي فالتزامهم بمباديء الحرية يلزمهم بحماية حرية الاعتقاد بما فيها الاعتقاد الديني وفي نفس الوقت يلزمهم بحماية حرية الراي .لقد نسف الارهابيون كنيسة النجاة في بغداد فلم تقم مظاهرات عارمة وغاضبة في الغرب فهل  سنتصرف كتصرفهم لو ان ارهابيين مسيحيين فجروا مسجدا في امريكا او بريطانيا ؟ طبعا لا، فهل نفسر ذلك بجبنهم وقلة غيرتهم( لانهم من اكلة لحوم الخنازير) ام نعترف بحقيقة تخلفنا وتقدمهم ؟!
ثالثا : تتميز الاعتقادات الدينية  في كل الاديان بميزة اساسية هي ادعاء احتكار الايمان الديني  فحتى اصحاب الديانات السماوية التي يجمعها مشترك الايمان بالله يرى كل منهم ان دينه هو الدين الحق وان الاديان الاخرى باطلة  ، وحتى الأسلام الذي هو اخر الديانات السماوية  ورغم استشهاد القران المتكرر ب ( اهل الكتاب ) اي اصحاب الديانتين المسيحية واليهودية  الا انه يقرر : (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ {آل عمران:19} و (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) {آل عمران:85}.لقد جرت محاولات كثيرة تحت شعار (الحوار بين الديانات) للتقليل من مخاطر التعصب الديني لكنها فشلت، وسوف لن يحدث اي تقارب بين اصحاب الديانات مبني على مبدأ التسامح قبل ان تتجاوز الشعوب المتخلفة مرحلة التخلف التي تعيشها والتي تنتج بالضرورة التعصب الديني الذي هو على نقيض تام مع مبدأ الحوار .
رابعا: تتاثر  قوة المعتقدات الدينية بالبيئآت الاجتماعية التي تعيش فيها فكلما كانت البيئات الاجتماعية مغلقة على نفسها ازدادت حدة التشدد الديني وكلما كانت البيئات الاجتماعية منفتحة ازداد التسامح الديني، وعليه يمكن ربط التسامح الديني في الغرب بدرجة الانفتاح الاجتماعي التي وصل اليها الغرب بعد مخاض طويل وعسير  كما يمكن ربط الافكار الاسلامية المتشددة ( التكفيرية خاصة ) بالبيئات الصحراوية المنغلقة التي ظهرت فيها
 ان الديانات عموما ( السماوية وغير السماوية) جاءت لتهذيب النفوس وتقويم الاخلاق واشاعة السلام والطمأنينة داخل النفس البشرية ولم تات بهدف اشاعة الكره والضغينة بين البشر، الا ان الواقع يشير الى حقيقة اخرى وهي كون الاعتقادات الدينية والمذهبية  ( المذهبية هي معتقد ديني في النهاية) اشعلت على مر التاريخ حروب دولية واهلية كثيرة راح ضحيتها ملايين الابرياء من البشر، كما انها ساعدت على انتشار الكره والبغضاء بين الناس رغم ان بعضها يحمل شعارات  صريحة تنادي بالمحبة والسلام  وهذا يدل ان الخلل ليس في الاديان نفسها وانما الخلل يكمن في طبيعة الاعتقاد الديني (الذي  اشرنا الى بعض خصائصه)  خاصة اذا نمى هذا الاعتقاد في بيئة مغلقة ،وعليه فان التعصب الديني الذي يصل حد ارهاب الاخرين غير مرتبط بجوهر الاديان ذاتها بل مرتبط بطبيعة الاعتقاد الديني المرتبط بدوره بشخصية الفرد المعتقد نفسه كما اسلفنا ولو تمعنت في افكار المتطرفين الاسلاميين مثلا لشعرت انهم يدينون بدين اخر غير الاسلام الذي يدين به باقي المسلمين .
[email protected]