كانت القرى والأرياف في الماضي محرومة إلى حدٍّ كبير من التعليم، وكان أغلب الطلاب يعانون مشقة الوصول إلى المدارس، إذ لم تكن متوفرة إلا في مراكز النواحي، بينما كان أبناء القرى البعيدة يعانون الحرمان من حق التعلم. عدد المدارس كان قليلًا جدًا، وأتحدث هنا عن منطقة جنوب الموصل، التي تشبه في معاناتها الكثير من مناطق العراق الأخرى.
كانت المنطقة بكل قراها، التي تضم ثلاث نواحٍ، لا تملك إلا عددًا محدودًا من المدارس لا يتجاوز أصابع اليد. أما القرى البعيدة فكانت طرقها وعرة، خصوصًا في فصل الشتاء حين يغطي الطين الأرض ويصعُب التنقل. ومع كل هذه الظروف، لم يقف شيء أمام عزيمة بعض الطلاب الذين ثابروا واجتهدوا حتى حصلوا على شهادات علمية رفيعة في كليات تتطلب معدلات عالية.
من رحم هذه المعاناة خرج الدكتور مفتاح علي السالم، ابن قرية “المنگوبة”، وهي قرية نائية تبعد عن الشارع العام أكثر من أربعة كيلومترات. كان يسير هذه المسافة يوميًا عبر طرق وعرة، أحيانًا تحت المطر، حتى يصل إلى الشارع العام علّه يجد سيارة تقله إلى ناحية القيارة حيث مدرسته.
بعد أن أكمل دراسته الابتدائية، انتقل إلى مدينة الموصل لمواصلة دراسته المتوسطة، رغم الظروف المادية الصعبة التي كانت تواجه عائلته. وكان النظام آنذاك يوفر أقسامًا داخلية لطلاب الأرياف. وهناك تعرف منذ الصف الأول المتوسط على زميله وصديقه الدكتور فتحي الزبيدي، ابن قرية الجرف من الساحل الايسر لمنطقة جنوب الموصل. سكنا سويًا في الطابق الثالث من القسم الداخلي، وكان الطابق يفتقر للخدمات، لكن الظروف الصعبة علمتهما الصبر والتحمل.
استمر الدكتور مفتاح متفوقًا، وفي الصف الثالث المتوسط حقق معدل 93%، ليكون الأول على محافظة نينوى، والثاني على المنطقة الشمالية كلها. أما زميله الدكتور فتحي الزبيدي فقد حصل على معدل 85%. ثم افترقا، فدرس مفتاح في “إعدادية المستقبل”، بينما التحق فتحي بـ “الإعدادية الشرقية”. وبعد غلق الأقسام الداخلية وهو في الصف الخامس ، اضطر مفتاح إلى العودة إلى ناحيته وإكمال دراسته هناك، فتخرج من الإعدادية بمعدل 85%، وهو معدل أهّله للقبول في أي كلية يرغبها.
دخل جامعة الموصل وكان نظام الجامعة في ذلك الوقت مختلفًا عمّا هو عليه اليوم؛ إذ كان الطلاب يدرسون جميعًا سنة كاملة، ثم تقوم الجامعة بتوزيعهم على الكليات. وقد أُلغي هذا النظام بعد سنة واحدة فقط من تطبيقه، وكانت نتيجة ذلك أن حصل الدكتور مفتاح على مقعد في كلية الطب. وقد تميز في دراسته، بينما التحق زميله الدكتور فتحي بكلية العلوم – قسم الكيمياء، ليصبح فيما بعد تدريسيًا في الجامعة.
”لكن دراسة الطب في ذلك الوقت لم تكن مجانية بالكامل، إذ كانت تكاليفها ترهق أبناء الفلاحين. لذلك كان الدكتور مفتاح يعمل صيفًا مع والده في البستان، حيث يزرعون الرقي أو البنجر السكري. وكان يحدثني أنه في بعض المواسم يبيع ثلاث شاحنات كبيرة من الرقي في بغداد ليسدد أجور الكتب والدراسة. ويذكر أن أول سنة له في كلية الطب تطلّب منه جمع مبلغ يقارب 70 دينارًا، وهو مبلغ كبير جدًا في ذلك الحين، لكنه استطاع بمساعدة أهله وأقاربه أن يوفره ويواصل مسيرته العلمية.
أنهى دراسته بتفوق، وتعيّن طبيبًا في أحد المستشفيات العراقية. وكلما التقيت به حدثني بذكرياته، عن بائع “الفشافيش” (المعلاق المشوي الرخيص) الذي كان طعام الفقراء وملاذهم من الجوع، وعن صعوبات شراء الملابس، وعن أيام الصيف التي أمضاها يعمل في البستان وهو طالب في كلية الطب.
الدكتور مفتاح ليس طبيبًا فحسب، بل شاعر وأديب، ينتمي إلى عائلة موهوبة في الثقافة والأدب. في مجالسه تسمع النكتة البريئة، وتطرب لبيوت العتابة والزهيري، وتقرأ في قصائده مزيجًا من الهم الواقعي والبوح الصادق. يحدثك عن بساتين “المنگوبة”، وعن شارع القيارة، وعن “الحاج براوي” صاحب مطعم الفشافيش داخل كراج النقل.
إنه الصديق العزيز الذي يختزن ذكريات جيلٍ صعبٍ ومليءٍ بالتحديات، جيلٌ صاغ من الحرمان إرادةً ومن المشقة أملًا، فكان بالفعل طبيبًا من زمن المعاناة والأمل.