لان طالب عبد العزيز ــ كما يقول عن نفسه ـــ لا يني يفكر في لملمة خلاصه ، فقد أدرك أنْ لا بدَّ من نسيان ما يمكن نسيانه، وهجران ما بمقدوره هجرانه، وهكذا راح يضيّق من دائرة المعارف من حوله ، فكثيرا ما كان النهرُ هناك آخر جلاسه الأمناء، وكانت مبتغى سعادته ما يجده بين الندمان والأصدقاء، وسوى من خطاطات لا يتخذ من الكتب والأوراق… لذلك لا تصمد الآمال في روحه طويلاً، فهو ليس مناضلا في فريق سياسي، ولم يركب فرس دون كيشوت ليصارع الخيبات، فهو شاعر وحسب، له من الشبابيك أوسعها، وله من الضوء أعطره، هو قميص من فرح وضوء على الرغم مما يثير حفيظته ما موجود في ارض الواقع من فقر وبؤس ومشاكسات الاصدقاء وشوق للأمكنة والشعر ورفض لكل معوج وغير مستقيم … وهكذا راح طالب يوزع همومه الشعرية بين تلك الموضوعات … وهو في كلها صادق اللهجة لا تشوب هياماته الشعرية نبرة ازدواج او غش فالرجل متسق مع ذاته يرى هادئا لكن وميضه لا يعدو دون مطر ابدا …. فإن وجدته شاعرا مجيدا فهو كاتب محسن لا يقف قلمه لحظة في رصد ما يصادفه من ظواهر ومشكلات … كتب كثيرا وشغلته مدينته البصرة اكثر من غيرها فهي محط رحاله ومهبط عشقه فراح يكتب عن البؤس الذي خيم عليها وهي تطفو على بحر من النفط , وكأنه اختص بهموم البصرة كما اختص بها من قبل محمد خضيّر و سعدي يوسف و نجيب المانع….
اما طالب عيد العزيز شاعرا فإنه يغريك بجمله الشعرية الشفافة والتلقائية ومجازاته الواضحة , ويأخذك برؤاه المشبعة بكونية واضحة …. والاكثر من هذا ان القارئ لطالب عبد العزيز قد يسحر لإهتمامه بالصنعة المشهدية فالرجل حاذق في هذا المجال في اكثر ما كتب …. والمشهد او اللوحة عند طالب تقف على واقعية الزمان والمكان والصور الحية المستمدة من ثيمات الواقع المعيش … هذا لا يعني ان مشهديته تسجيلية بحتة بل على العكس من ذلك فشاعرنا قد اتقن صيغ التعبير المجازي وخلق منها صورا تشبيهية واستعارية وكنائية عميقة الايحاء ومطبوعة بالصبغة الذاتية التي تجعلك تشعر انك في حضرة ذات قادرة على اختزال التجارب واكسائها ثوب الجمال الشعري …. وبما ان النص الشعري الحديث عند طالب عبد العزيز نص ثري فهو مكتنز بالتكثيف السردي الذي يميل دائما الى سرد السيرة الذهنية لما يختلج في عالمه الشخصية الغني بالمصادر التجريبية … فلطالما امتزجت الذات مع الموضوع في بوتقة واحدة لا فكاك بينهما …. اسمعوا قوله :
احدهم كانت يده مضيئة
غطَّته السَّحابةُ الكبيرةُ ،
لم يعدْ في القمرِ نورٌ يكفي
فاتخذتُ يدي هادياً، أتلمسُ الطريقَ
إلى البيتِ ،
قدمي أيضاً، كانت تُعينني على سَمْتِ الأرضِ
وأمْتها، لكني كثيراً ما
أخطأتُ موضع الحجارةِ، تلك
التي كنتُ أتخطاها في النَّـهار.
أغصانُ غَرَبٍ وخيالُ من سدّرةٍ هنا
سعفٌ وزوائدُ قصبٍ
كانت تجمعها يدي فأمرُّ ،غيرَ واثق ،
مستعيناً بالسِّياجِ الطينِ ،صِرتُ لِصقهُ
حتى أني شممتُ رائحةَ العَفن
في التُّرابِ على قميصيَ الليلي .
قناطرَ من ظلالٍ تخطيتُها ،قافزاً
خِلتها تِرعاً ،سواقيَ تُروى في النَّهار
لمْ يُفزعْني طائرٌ الظلمةِ التي كانت ترين
فتجاوزتُ الشجرَ والجداولَ والظلال
إلى البابِ،
كانتِ الأبقارُ سوداءَ بما يكفي
في الظلام ،كذلكَ الإوز
وزوجا الأرانبِ البيضاوانِ .
ظلَّ النور هامدا هناكَ ..في الأعالي
لم يعدْ في القمرِ نورٌ يكفي
فاتخذتُ يدي هادياً، أتلمسُ الطريقَ
إلى البيتِ ،فقد وظف الشاعر حواسه كلها من اجل اعادة صياغة لمشهد واقعي ارتكز على بنى مكانية اساسا كثيمة ارتكازية من اجل الوصل الى مشهدية الوصف المثقل بالرؤى غير المنفصل عن الذات المعبرة ففي قوله مثلا :
لم يعدْ في القمرِ نورٌ يكفي
فاتخذتُ يدي هادياً، أتلمسُ الطريقَ
إلى البيتِ .
يرتكز الفضاء على لغة نصية ذكية تتناظر مع الغاية الدلالية للنص بإجمعه , فالوشائج غير منفصلة بين قوله هذا والثيمة الاساسية في النص كله التي من الممكن ان تكون بؤرتها تتمثل في قول الشاعر :
لم يعدْ في القمرِ نورٌ يكفي
فاتخذتُ يدي هادياً، أتلمسُ الطريقَ
إلى البيتِ .
فالشاعر هنا على وعي تام بمسارات خيوطه الشعرية لذلك فهو يأخذ بيد المتلقي الى الاستئناس بمشاهد الإحساس الدرامي المشبع بتذكراته المعبرة عن ذاته . وفي الوقت ذاته فإن نصوص شاعرنا لا تستنزف معانيها من اول قراءة فنصوصه لا تعلق على الرفوف كما يقول بارت … واعتقد ان السر في ذلك ان شاعرنا يبقي معانيه مفتوحة لأكثر من معنى على الرغم مما ذكرناه من وضوحها وتلقائيتها … اذ ان اغلب نصوص طالب عبد العزيز مرموزة بحراك ذاتي خفي، لطالما عمل عليه برؤية معاصرة، أو بلغة حداثية منقاة .. مما يجعل البحث عن معنى لم يكتمل، إشكالية قد تتحول الى لعبة ممتعة … قد نجد ذلك بدرجات متفاوتة في كل ما كتب شاعرنا البصري الذي كما اعتقد انه تجاوز تصنيفه الثمانيني الى مديات ابعد في مجاميعه (تأريخ الأسى ، ما لا يفضحه السراج ، تاسوعاء , الخصيبيّ) , وقد احسنت الدكتورة بشرى البستاني في دراستها في احد المواقع الالكترونية ( شعر طالب عبد العزيز ، واللعبة الماهرة ) الخطاب حينما وصفت خيال شاعرنا بأنه : ((خيال الشعر الأصيل عموما لا يحضر أثناء الكتابة حسب ، لأنه يعيش التجربة طويلا قبل إنجازها ، يتفاعل معها ، يشتغل بتفاصيلها في طبقات الوعي العميقة أو ما كانت تسمى باللاوعي ، ثم ينتجها بحرية كاملة ، حرية تمارس وعيها في فضاءات حرة ترفض كل أنواع التبعية سواء أكانت التبعية للتدين ام للسياسة أم الايدولوجيا ؛ لأنها حرية نابعة من الداخل وليس من المصطلحات والمفاهيم ، وهو بهذه الحرية يسبر غور الوجود وغور الموجود ويسبر غور ذاته معا ، وهو في مسيرة السبر هذه يكتشف كل يوم جديدا في هذه الاقانيم ليشكل شعره من خلال رؤية تتسم بالقوة والتوازن في بناء القصيدة ، قوة زمنية يستمدها من براءة الخلق الأول الذي أدركه معرفيا حيث النعيم مطلق والحرية شمولية ، والتواصل أثيري دون أعباء تكبله ، وتوازن متأتٍ من التوجه بهذه القوة العارفة نحو البرهة الحاضرة لإعادة تشكيلها فنيا برؤية جديدة بعيدا عن تشنجات الوعي الشقي الذي يعاني منه كثير من الشعراء والفنانين)) …..