يقدم ناظم حكمت من خلال تجربته الشعرية خطابا مستمدا من بيئته ، من تكوين موجوداتها ومؤثرات تلك الموجودات على الحياة العامة والشخصية وينعكس ذلك الخطاب على مجمل الرؤى التي تشكل صوره الشعرية عبر مزاوجته للعديد من العوامل النفسية ذات الأثر التاريخي والتي تؤشر حقبة ما كان لها تأثيرها في تكونه الشعري ، فصوره البعيدة في أعماق الباطن تتناسل عبر حياة أخرى تصنع اللحظات المناسبة لتفتيت السنين القاسية التي حفلت بالخوف والخشية والزنزانات الرطبة فهيأت له تلك العذابات مقدمات لأفكاره لإيضاح مسارات البناء الشعري لتقطير الكلمات كي تشفى من ظلامها ووضعها أمام نور المخيلة ليكون بالإمكان رؤية الأشياء رؤية بينية بين الإحساس بالواقع وبين تجريده من عوالمه المصنعة ، وهو توجه نحو البعد الآخر الذي يجعل الشعر على قيد الحياة حين تتجه كل الأشياء السوداوية من السواد الى السواد الأنقى عبر أشكال من التحريض ، تحريضُ القدمان على ضرب الأرض بشدة وتحريض العينان أن لا تغمض بالإكراه وتحريض المخيلة أن تلج المتاهة وذلك هو الجزء اليسير
من الإكتمال ، الجزء اليسير من صدى الخطوات التي سوف تُسمع لذلك تبدو الأشياء في حضورها لدى ناظم حكمت أشياء تائهة ، المطر تائه ، الليالي ، الآهة ، البرودة ، الأنوار الأزلية ، الخمرة في الحلم ، المقاهي المضيئة ، الحمامات ، الخانات، تماثيل الأجساد ،فضلات موائد السادة ،الطرق المؤدية للجنات الخرافية ، ومما لاشك أن ناظم حكمت كون دلالاته المحورية بإتجاه أفقه الخصب الذي يصفه تارة بزهر الكبريت وتارة بالغابات تحت البحار وهذا التصنيف يأتي ضمن المئات من الصور البصرية التي صُنعت من أكثر من لغة ومن أكثر من مرجعية ثقافية ومن أكثر من قراءة للذين سبقوة من شعراء الواقعية لذلك كان شعره منصاعا لصوت الجماهير ومتطلبات الإنعتاق من الكوابيس الى الحرية وكانت إستجابته ضمن معمارية ثورية أوصل من خلالها مشتركاته الشعرية بين الفعل الحماسي والفعل العاطفي الإستذكاري الصرف مودعا في هذه المشتركات العديد من الصور الشعرية الفريدة الحافلة بالمفاجأة والحافلة بالوهج الغنائي أو تلك النصوص المخفية تحت قناع الخيال ،
إن الكتابة بأنسب الأشكال هي الفكرة التي إستحوذ على البناء الهندسي المعماري لناظم حكمت لتجنب الألاعيب والإيماء أو التغليف والهشاشة ، أي رغم هاجسه الإنساني الشعبي لكنه إستطاع من الخروج من التكرار والوصفية والنفس الخطابي متحولا الى مابعد عصره عبر بوابة
الجمال التي إحتوتها فلسفته وهمه السياسي ومتطلبات الوصول الى عقول وقلوب مجتمعه الذي وجد ماأراد في قصائد 1923 أو في قصائد 1916 أو في الوداع أو الدودة التي تنخر صدري ، فالشعر كما عبر عنه حكمت يتجلى في وجوه العائدين من الحقول وعلى مجاذيف صيادي الأسماك وفي أغاني الطريق وفي أكف العمال العاطلين عن العمل