23 ديسمبر، 2024 10:15 ص

قبل اربعين عاما تقريبا سمعت لاول مرة مصطلح ( ضياعات ) وكان يتحدث به خبير في مجال الري ويشير لضياعات المياه التي لا يتم تخزينها وعدم الافادة منها ، وبقيت لسنوات اطارد هذا المصطلح واستخدمه في مجالات كثيرة مثل ضياعات الزمن ، وضياعات الثقافة وضياعات الانتاج وغير ذلك ، لكني لم اعد استخدم هذا المصطلح ( ضياعات ) من فترة طويلة ، لانه لم يعد يتطابق مع الواقع عندما ضاع كل شيء هنا .. الزمن والبلد والاهل والطفولة والامان  والصداقة واشياء جميلة من غير الممكن ان تعود .
ضياعات وطن هذا المصطلح الذي فكرت به قبل ايام ، فعندي مئات الاصدقاء هاجروا الى بلاد الغربة ولم يعد بالامكان رؤيتهم وبدأت اسمع موت عدد منهم ، فقد مرّ بهم قطار العمر سريعا والقاهم في محطات القبور ، واصدقاء اخرين اخذوا توجهات سياسية وفكرية غير التي اخذتها ، فضاعوا مني ولعنة الله على السياسة ، واصدقاء مرضوا ولم نعلم بهم فزعلوا ولم يعودوا يقتنعون بأعذارنا ، وهذه ضياعات الاصدقاء وهي اقسى ضياعات العمر .
وثمة ضياعات اخرى فقد ضاع منا وسيضيع ملايين من البشر ، ويخبرني احد اصدقائي العراقيين في دولة اجنبية يحمل جنسيتها الان ، ان ابناءه لا يعرفون شيئا عن العراق ولم يروه ، ولا يتحدثون اللغة العربية ، وانه اذا ما تحدث لهم عن العراق يستغربون حديثه عن وطن لايشاهدوه في التلفاز الا عبر الجثث والدماء والحرائق ، هؤلاء الاطفال سيكبرون ويتزوجون ويعيشون بلا وطن كان لابائهم ، وسيتناسلون وتتجاوز اعدادهم الملايين وهم ضياعات الوطن الكبير الذي اسمه العراق .
وضياعات اخرى .. فبعد سنوات الحروب وتلوث الارض والهواء والماء وتدهور الصحة والخدمات يموت بصمت وبلا عزاء عشرات الاف العراقيين سنويا ، فيما يمكن علاجهم ببساطة في دولة ميزانيها تزيد على 150 مليار دولار وقادرة على بناء المستشفيات الحديثة والمصحات وشراء الادوية والاجهزة الطبية ، ولكن سوء الادارة والفشل الحكومي يرسل بعثات يومية الى القبور تحت عناوين عدة ابرزها ضياعات وطن .
وضياع اخر نقضيه بانتظار الانتخابات لنكرر انتخاب ذات الوجوه فنعيد انتاج الفشل من جديد ونكرر الزمن ولا اضافة جديدة في حياتنا الملتويه المتعرجة ، فتكون السنوات الاربع التي تأتي مثل الاربع التي مضت ، والزمان لم يتحرك وتكون ضياعات الزمن محطة كبيرة تستوعب اعمارنا ضمن مسافري ضياعات وطن .
وضياعات اخرى لا مجال للحديث عنها لانها جروح اكثر منها ضياعات وترسبات في الشرايين اكبر من الصخور كلها ، ضياعات المحبة ، والذكريات والثقافة والاثار والبهجة والامن والوئام وما لم يعد ساري المفعول في زمن الممنوع الذي يصنعه الظلاميون ، واكبر من كل تلك الضياعات مليارات الاحلام التي تمناها الشعب والتي ضاعت مع مليارات الدولارات في بنوك وكروش اللصوص الذي يمشون فوق صدور الفقراء ويرقصون على مشاعرهم .