انطلق بصري فرأى الجديلة المرمية خلفها.
الثامنة والنصف صباح كلّ يوم يرنُّ هاتفُنا ….افتح لها الباب، تلجُ مبتسمة، تسألنا عن الصحة والراحة، تُعلق معطفها، تغسل يديها، ثمّ تشدّ صدرية العمل على وسطها، ويأتيني سؤالها ككلّ يوم: ماذا اطبخُ لكم؟
نشطة ٌ مُتعاونة، لا يصلنا صوتُها الّا اذا استفسرت عن عملها. اظلُّ أتأملُ شعرها المسترسل على ظهرها، تبعده كلّ لحظة حين يضايقها. ففي كلّ يوم تتغيّر تسريحتُه. وقد تلفّه وتربطُ خصلاته فيبدو كرة ً صغيرة تعلو رأسها. أو تسجنُه أحياناً برابط يمنعُ تبعثره، لئلا يؤخر عملها.
هذا اليوم انطلق بصري فرأى الجديلة مرمية خلفها. عجبتُ، فسألها فضولي عن السبب. لم يُفاجئني الجوابُ.
لم أجد الوقت لاعتني به فجدلته .
هي في الثلاثين من العمر، أمضت نصفه في بلدها ، ونصفه الآخر هنا. انجبت ثلاث بنات، توصلهن كلّ يوم الى مدارسهن، وتسرع الينا، ثمّ ينتظرها عملٌ في بيوت أخرى. تعود في الرابعة عصراً فتهيء ما تحتاجه عائلتها.
وتعودُ بي ذاكرتي الى ما قبل خمس سنوات حين كلفتها الشركة التي تعمل فيها لمساعدتنا. فعرفتُ عنها الكثير. قلتُ لها يوماً : ان اسمك/ جورجينا / ، يطولُ ذكرُه على اللسان. أجابتني : يدعونني اختصاراً : /جينا/ .
أتدرون ما الأعمال التي تُمارسُها؟ صبحاً ، قبل أن تبدأ عملها في بيتنا تجول بسيارتها، توزّعُ أدوية كلفتها بها جهة مسؤولة، وتدرسُ في البيت على جهاز الكومبيتر لتغدو ممرّضة في المستقبل ، وتؤدي امتحانات بما تدرسُ، نجحتْ فيها جميعاً. سألتُها، وأنا خائفة من أن تترك عملها عندنا: أظنّك ستُمارسين عمل التمريض وتتخلصين ممّا أنت فيه من أعمال تُرهقك. أجابتني: لن أتخلّى عن عملي في الشركة التي أوصلتني الى مهنة التمريض، فلستُ بالجاحدة أفضالها. في حالة واحدة أفعلُ هذا، اذا هي استغنت عن خدماتي، أو استبدلت شغلها بمشروع آخر.
أكبرتُ فيها هذا الإخلاص والاعتراف بالجميل. فليت الآخرين يعون الدرس هذا.
ترتسمُ أمامي صورةٌ اشاهدُها كلّ يوم …. في الكافتريا ، في السوق، في الشارع : شبابٌ في عمرها ، او أكثر قليلاً يتسكعون بلا عمل. يستسهلون ما تمنحهم الدولةُ ،فيعيشون عليه وهم قادرون على العمل. لا أدري بأيّة ذرائع يتذرعون ليحصلوا على مآربهم. يردّعليّ صديقنا أبو غسّان : للغشّ طرقٌ لا نعرفها، وللكذب أجنحة يطيرون بها . فاجيبُه:
– حبلُ الكذب قصير، وقد تفوح رائحته ما دام الجوّ الذي نعيش فيه نقيّاً.
