غياب الرؤية الإستراتيجية الأمنية في العراق، تعد من الاسباب الرئيسية لحالة التدهور الأمني التي تعتري المشهد السياسي.. كما أن غياب الرؤية تؤدي الى عدم التوافق والتنسيق بين الأجهزة الأمنية وغياب الجهد الأستخباراتي والإعتماد على القوة أكثر من القدرة, فضلا عن ضعف المنظومة الأمنية وإدارتها بشكل مهني. مما يؤدي الى فزع هستيري لدى القادة والضباط في حالات الاختراق الامني لصفوفهم, لان بوصلة التنسيق والتعاطي بين الاجهزة الامنية مفقودة وذلك بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية الامنية .
وعلى الرغم من أن هناك تحديات خارجية وأجندات أقليمية تجاهر علنا باسقاط النظام السياسي في العراق, الا أن العجز والتقويض من الداخل والتدهور المستمر في الحفاظ على المنجز الامني البسيط, يعود الى التخبط الامني في رسم الخطط الامنية والارباك في المعالجات التي تؤشر على عدم امكانية ادارة الملفات الامنية لدى كابينة القيادة بصورة سليمة. فالقيادة الأمنية للأسف يبدو انها قدمت ما لديها من قدرات وخبرات وهي محدودة جداً مقياس بالدول المستقرة, علما أن العراق يعيش ظرف استثنائي متحرك. وهي الان عاجزة عن تقديم أهداف ستراتيجية مهمة أوحتى أهداف مرحلية لمواجهة المشاكل الامنية التي تهدد البلاد والعباد.
ومنذ أن بدء الارهاب يضرب مدن العراق المختلفة بعد سقوط النظام البعثي لم تتغير الاستراتيجية الامنية رغم التعبئة الاعلامية لاقناع الرأي العام بقدرة القوات الامنية ورفع الشعارات والترويج الاعلامي لها, الا ان اساليب وأدوات المعالجات تتكرر ولا تتغير أوتتطور. علما ان المؤسسات الأمنية في العراق تعد اكثر من عشرة مؤسسات مختلفة وبتعداد مليون وخمسمائة الف منتسب من ضباط ومراتب بميزانية تجاوزت 17 مليار دولار سنويا, الا أنها غير قادرة على تنمية كيانها الامني وأثبات ذاتها أمام الارهاب الذي يضرب الحياة يومياً بقوة, كما انها غير قادرة على مسك الارض بصورة جدية. حيث تبنى تنظيم دولة العراق الاسلامية 131 هجوماً في غضون اشهر بسيطة استهدفت معظمها قوات الامن ومقراتهم باساليب تكتيكية مختلفة كالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة والهاونات والهجوم المسلح .
وبغياب الرؤية الاستراتيجية تغيب كل الخطط العسكرية والاجراءات والاحترازات الامنية الناجعة والتكتيكات الملائمة لواقع المعركة التي تصبح للمشاهد معركة غير متكافئة من حيث التكتيك العسكري, كون العدو يملك من المهارات والخدعة أكثر من القوة الامنية ذات الامكانيات الكبيرة. ومن خلال هذا الغياب تفقد القوى الأمنية إستجماع عناصر القوة والقدرة لديها, المتمثلة في الجهد الاستخباراتي والجهد العسكري الميداني. والتمادي في السير على خطى الخطط التقليدية المتهالكة تفقد القيادة العسكرية العليا حالة الترابط بينها وبين القيادات الميدانية وبالتالي تصبح غير قادرة على التعاطي مع التحديات والمشكلات الامنية مما يحدث الارباك والتردد في المواجهة. مما يدفع القيادة العامة للقوات المسلحة بتغيير القيادات العسكرية الميدانية في كل عملية أختراق أمني والنزول المبرح للقوات الامنية في شوارع المدن او ربما تتخذ القيادة أسلوب المداهمات العشوائية كحالة رد فعل على العمليات الارهابية, وهذا الاسلوب يدلل على ضعف المنظومة الأمنية والتخبط في أداءها الاداري والميداني.
والساحة السياسية تعيش حالة من التشنج والانقسام بين القوى السياسية في الكثير من القوانين التي تؤمن حياة الناس وتحقن دمائهم, فهناك اختلاف كبير بين بعض القوى على قرار العفو العام واجبار الاطراف بصفقات سياسية على القبول به, وشمول الارهابيين وقراصنة الشعب العراقي بالعفو العام, وهذا مما يسبب الى ضعف الثقة بالمؤسسة السياسية والامنية التي تريد المساومة على دماء الابرياء.
والعراق اليوم كبلد ضعيف في منظومته الامنية يرتقب بعين خائفة تداعيات السقوط المتوقع في النظام السوري, في الوقت الذي تقوم بعض الدول الإقليمية بإفراغ المناطق الجنوبية من الاسلحة من خلال تهريبها الى مناطق أخرى او بأتجاه سوريا لاقحام أطراف الصراع في العراق في نزاع مسلح فيما بعد لتغيير موازين القوى بواسطة السلاح.
وهذا واضح جداً من خلال دفع أطراف إقليمية لبعض القوى السياسية بالاعتراض على تسليح الجيش العراقي, وكذلك تأثير تلك الدول الإقليمية على الإدارة الامريكية بوضع اشتراطات على كمية ونوعية التسليح. في الوقت الذي تعتبر السعودية من أكثر الدول في منطقة الشرق الاوسط تسلحا منذ صفقة اليمامة سيئة الصيت مع بريطانيا التي قدرت تجارتها عام 2001 بـ 40 مليار جنيه إسترليني, الى آخر صفقة امريكية بقيمة 33 مليار دولار عام 2011. وبالتالي يصبح العراقي غير قادر أمام هذه الترسانة وترسانة أسطنبول التي سخرت بيد الارهاب السياسي على حماية أمنه الداخلي والخارجي.
وللقضايا المأزومة والشائكة في أي بلد معالجات تقوم بها السلطة الحاكمة والمسؤولة المباشرة على حياة ومقدرات الناس كحلول ومخارج لها وللمجتمع, تستطيع من خلالها تعديل المسارات السياسية والامنية الخاطئة وتحشد الجماهير الى صفوفها وتهئ الرأئ العام للمخاطر المقبلة.
ولكن للاسف على الرغم من تلك التحديات التي تواجه العراق وشعبه لم نجد اي رؤية جادة تحملها مبادرات معينة لصناع القرار بتغيير مسارات العمل السياسي والامني, لتجنب الاخفاقات التي تحصل يوميا في الملف الامني الذي يعتبر محور الاستقرار والتنمية في المجتمع. كذلك لم نرى أي عمل جاد وحقيقي على كل المستويات سوى مزايدات ومهاترات وصراع سياسي يثير غبار طائفي ومناطقي يشق من خلاله وحدة الصف الوطني وهذا يدلل على غياب الرؤية الاستراتيجية السياسية والامنية معاً.