بداية لابد من ألتأكيد بأن ضعف نظام التعليم العالي وتخلف الواقع العلمي العراقي على مر العقود الماضية ومقارنة بدول المنطقة لا يعود كليا الى خطأ السياسات منذ استحداث وزارة التعليم العالي في عام 1970 وفقدان الجامعات لاستقلاليتها، وإنما يعود ايضا الى انعدام الاستثمار في الاطر البشرية وتدريب القوى الجامعية.
ادى ضعف التدريب للاطر البشرية الاكاديمية الى نشوء جيل من التدريسيين لا يهتم كثيرا بالمعرفة وانتاجها وانما في تسويقها فقط، بحيث اصبحت المعرفة تحصيل حاصل للدراسات العليا والتي هدفها منح شهادات الماجستير والدكتوراه. وكنتيجة لانتشار الفساد داخل المجتمع هيمنت اخلاق “الغاية تبرر الوسيلة” على مجمل العمل الاكاديمي والعلاقات الاكاديمية، وبدأت الجامعات في التسابق بإستحداث دراسات عليا من دون توفر القاعدة المعرفية والبنية التحتية والأموال الكافية، وفُرض على الجامعة العراقية حصار من داخلها فلم تعد ترى في التطوير والتغيير والاصلاح ضرورة لديمومتها وتحقيق لرسالتها، فرسالتها تعتمد فلسفة الكم، والنوايا الحسنة للقيادات الجامعية لا تجد مجالا او فرصا للتطبيق، اما اعضاء هيئاتها التدريسية فغالبيتهم ليس لديها الرغبة في انتاج المعرفة لعدم وجود الدوافع الاكاديمية والعلمية الفاعلة، ولتفشي الفساد من محسوبية ومنسوبية، والاهتمام بالمنصب الاداري والمنفعة المالية على حساب التحصيل العلمي والمعرفي.
ويبدو لي ان الوباء الذي ضرب التعليم الجامعي والبحث العلمي والذي ادى الى تدهور الواقع العلمي العراقي هو “الدراسات العليا” والتي فرضت نفسها بقوة على الجامعات للحاجة لاشباع رغبة “القيادة” في توسيع التعليم العالي وفي فترة الحروب والحصار والعزلة الدولية، والتي تميزت بهجرة العقول العراقية وافتقار الجامعات العراقية الى الخبرات الاكاديمية. استطاعت الدراسات العليا من “تأهيل” عدد هائل من اصحاب الشهادات العليا والذين لم يجدوا فرصا للعمل الا في اطار الجامعات بحيث بلغ عددهم حاليا ما يقارب 40 الف تدريسي معظمهم من حملة شهادة الماجستير. واني قد لا اجافي الحقيقة ان قلت اننا لا نجد الكثير بينهم من المؤهلين للتدريس الجامعي والبحث العلمي وان معظمهم تنقصه المعارف الكافية لكي يستطيع تأدية واجباته الاكاديمية بالصورة التي نتوقعها من التدريسي في جامعات الدول المتطورة ناهيك عن الابداع والابتكار والتي هي سمات اساسية لسعي الاكاديمي نحو التميز الحقيقي. وقد لا يعود نقص “التأهيل” سببا وحيدا لمثل هذه الحالة حيث تتداخل اسباب اخرى منها سياسية واجتماعية ومنها تنظيمية وادراية.
خرّب النظام الجامعي بهيكليته وتنظيمه وطرائقه البيدوغوجية البالية الدراسات العليا وحولها الى هيكلية بيروقراطية ومشروع يهدف الى انتاج اصحاب شهادات فقط، وليس، كما هو مفترض، الى قوى بشرية نخبوية علمية ومثقفة تتمتع بمهارات اكاديمية وبحثية، وتتحلى بصفات الاخلاص للمؤسسة التعليمية والتضحية من اجل رفع سمعة الجامعة والواقع العلمي. انتشر الفساد داخل مؤسسة الدراسات العليا فاصبح شائعا ان نرى:
أطاريح مسروقة او متضمنة لاقتباسات غير شرعية،
دراسات سطحية و هزيلة،
انفصام عن البيئة العلمية العالمية،
فردية العمل العلمي ونبذ للعمل الجماعي،
رشوة الطالب لمشرفه وللجان الامتحانية،
مهرجانات لمناقشة الاطاريح تملئ اخبارها مواقع التواصل الاجتماعي،
نشر “البحوث” في مجلات زائفة ووهمية مقابل دفع اجور،
نحر النوعية على مذبح العجز العلمي وانتعاش شبكة المصالح الذاتية والمحسوبية،
انتشار عقلية “الثواب” و”كتب الشكر” لما يسمى بالانجازات العلمية.
دعني أؤكد على عدد من الحقائق تتعلق بكيفية الحفاظ على مستوى جيد من التعليم العالي وعلى تحسين جودة الدراسات العليا، وهي:
1- لا يصح لمؤسسة علمية من منح شهادات الدكتوراه بدون توفر قاعدة بحثية متطورة وتمويل كافي.
2- ليس صحيحا ان تهدف الجامعات الى فتح برامج الدراسات العليا من دون الاخذ بالاعتبار حاجة السوق والصناعة الى حملة الشهادات العليا.
3- غرض دراسة الدكتوراه هو لتأهيل باحثين علميين يمارسون البحث العلمي عبر تدريبهم بطرق البحث العلمي والقيادة والابتكار وكتابة المشاريع ومراجعتها، وليس مجرد تلقينهم بمعلومات جديدة.
خلاصة الرأي هو ان الدراسات العليا لم تقدم اي شئ ذا فائدة لتطوير الواقع العلمي العراقي، وتأكد قواعد البيانات العالمية مسار الاحباط في الانتاج العلمي العراقي والذي هو بدون ادنى شك يعبر عن النواتج العلمية لبحوث الدراسات العليا التي تشكل الاكثرية الساحقة في مجمل هذا الانتاج. نجد ضمن هذه البيانات المؤلمة ان العراق يحتل المرتبة العاشرة ضمن 16 دولة شرق اوسطية لمعدل النشريات العلمية. تتصدر تركيا الترتيب بأكثر من 400 الف نشرية، تليها اسرائيل ثم ايران بحوالي 300 الف نشرية. اما العراق فلم ينتج الا اقل من 13 الف نشرية وهو معدل اعلى بقليل من عُمان وقطر. اما بالنسبة الى (H-Index) وهو المؤشر الذي يقيس كل من النوعية ودرجة الاقتباس (الاشارة) للأعمال المنشورة للعلماء فقد نزلت مرتبة العراق الى الدرجة الرابعة عشر، ولم يبقى إلا البحرين واليمن بمعدل ادنى. تؤكد هذه النتائج على اننا مهما كان انتاجنا ضئيلا مقارنة بعدد الباحثين الهائل، والذي يقدر ببحث واحد في السنة لكل 40 باحثا، فان هذا الانتاج يعاني من تدهور كبير في نوعيته مما يتطلب الجرأة والشجاعة في معالجة اخطار هذا الوضع الكارثي.
الدراسات العليا في العراق تعاني من خلل ليس في نوعية البحوث فقط وانما في التدريب ايضا، حيث تتضمن تدريس عدة مواضيع صفية بأسلوب التلقين والاجترار، ولا تختلف كثيرا عن الاسلوب التعليمي المتبع في الدراسات الاولية، وبانعدام تدريب المهارات كالعمل الجماعي والإدارة والتنظيم والقيادة والقابلية على التدريس والالقاء، بالاضافة الى عدم تأهيل الطالب لإشغال وظائف محددة وتركه ضحية البطالة لفترة طويلة. كما تعاني الدراسات العليا من خلل اخر في التنظيم حيث يدرس للحصول على شهادة الدكتوراه حوالي 35% من مجمل طلبة الدراسات العليا (الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه) مقارنة بنسبة 10% في المملكة المتحدة، وتبلغ نسبتهم 5.5% من عدد طلبة الجامعات الكلي مقارنة بأقل من نسبة 3% في الجامعات البريطانية. لربما يعود سبب هذه النسب العالية الى سياسات القبول التي لا تعتمد على المنافسة، والى انعدام التمويل الكافي من قبل الدولة بحيث ان تمويل البحوث يتم بدرجة كبيرة من قبل الطلبة انفسهم، ويعود ارتفاع النسبة ايضا الى الضغوط الكبيرة من قبل السياسيين، ورغبة التدريسيين في الاشراف على طلبة من دون الحاجة الى بذل جهود كبيرة في توجيهم واختيار بحوثهم تحقيقا لمتطلبات الاشراف الصحيح.
اكدنا سابقا، ولا زلنا على رأينا، على ضرورة اصلاح نظام الدراسات العليا وتحسين مستوى البحوث المتعلقة بها وتغيير الاسلوب الامتحاني المبني على مناقشة الاطروحة بصورة علنية. ونعيد اقتراحنا بضرورة ايقاف القبول في هذه الدراسات لفترة 5 سنوات حتى يتم بناء القاعدة العلمية البشرية والتكنولوجية والمرافق الضرورية وحل المشاكل العالقة بهذا النظام وبموضوع الترقية ونشر البحوث ومعالجة النقص الواضح في فرص التدريب لأعضاء هيئة التدريس والباحثين، وبناء القدرات العلمية واكتساب المعرفة في طرق واساليب البحث العلمي وبالمستوى العالمي.
المدى 2015/05/16- العدد (3360)