22 ديسمبر، 2024 4:02 ص

ضرورة الأمن الفكري وأثره في السلم المجتمعي دراسة مقارنة بين الالحاد والانحراف العقدي.

ضرورة الأمن الفكري وأثره في السلم المجتمعي دراسة مقارنة بين الالحاد والانحراف العقدي.

تمثل عقيدة أي مجتمع جزءا هاما من هويته, ومن الأمور التي يسعى المجتمع إلى تأمينها هي أفكاره ومعتقداته وما يؤمن به, لذا فإن الأمن الفكري حق اجتماعي لأنه يرتبط ببنية المجتمع وتماسكه, ومهددات الأمن الفكري تارة تكون خارجية كما في الغزو الفكري والثقافي, وأخرى تكون داخلية, وهو ما يتم تناوله في هذه الورقة البحثية, والمهددات الداخلية على نوعين:
الأول: الفتن الطائفية والخلافات المذهبية, والتي تحدث غالبا بسبب عوامل سياسية.
الثاني: حدوث متغيرات في العقيدة وهذه تتخذ منحيين:
المنحى الأول: الذي يأخذ جانب التفريط العقدي, كما في الإلحاد واللادينية, بمعنى الانسلاخ عن العقيدة ومغادرة المعتقد.
المنحى الثاني: الذي يأخذ جانب الافراط العقدي, وهذا ما سيتم التركيز عليه في هذا المقال, وهو ما يمثل الانحراف العقدي, وربما لم يتضح الفرق بين الملحد والمنحرف عقديا أو ربما ينبغي تحديد الفارق بينهما..
الملحد ببساطة هو من انسلخ عن اي اعتقاد.. ولا يمكن ان يكون الملحد -حسب مفهوم الالحاد / انكار الخالق- انسانا معتقدا بالضرورة, بل هو انسان رافض لأصل فكرة الاعتقاد, ومنكر لوجود الإله الخالق, بينما يمكن تحديد المنحرف عقديا بكونه من يعتقد اعتقادا باطلا ومنحرفا, خارج على المألوف والمتفق عليه داخل الدين الواحد, فمهما تعددت واختلفت المذاهب والملل, فإن الاعتدال يقتضي الحكم عليها بالعقائد الاسلامية التي يتم الاعتراف بها نسبيا ولو على مستوى التعايش والتصالح الاجتماعي, إنما المشكلة في الاتجاهات الفكرية التي تطرأ على الواقع الديني على هيأة حركة أو مذهب بنحو يعد انحرافا عن المسار العام للفكر الديني, واطلاق صفة الانحراف على تلك الحركات الطارئة من شأنه أن يمثل فارقا عن الحركات التي تسعى إلى التجديد في الرؤية الدينية بنحو هادف وعلمي, فحتى لا يتم الخلط بين حركات التجديد الديني التي تظهر بنحو طبيعي في كل مرحلة زمنية, والتي تختلف بالتأكيد عن الحركات التي تنبثق عن قراءة شاذة أو استثنائية للفكر الديني لتنبثق عنها ديانة أو مذهب جديد, وأغلب تلك الحركات الدينية أو المذهبية الجديدة تعاني من التشدد في خطابها, وطرحها, بالنحو الذي يتيح لصاحبها أن يرى أحقية اعتقاده، من خلال إضفاء القدسية والحقانية على طرحه المشوه، مما يستتبع جملة من الخصائص :
أولا: يعتقد بصحة اعتقاده رغم مخالفته للاعتقاد الحق او للاعتقاد المتفق عليه نسبياً.
ثانيا: يقطع ببطلان الاعتقادات الحقة والصحيحة والمتفق عليها.
ثالثا: قد يؤدي خطابه الى معاداة بقية العقائد وربما يمارس العنف والاقصاء لمن يخالفه في المعتقد.
رابعا: يمارس اصحاب تلك الحركات التضليل والتجهيل لاتباع العقيدة الحقة بنشر أفكارهم من دون أسس علمية ذات أوصل مشتركة للحوار, فيكون منحى التشدد وتغليب المعتقد هو السائد على حساب بقية الاتجاهات الراسخة في المجتمع.
إذن يمكن التمييز بين ظهور تيارات فكرية تجديدية قائمة على البحث العلمي والتي تسعى إلى تجديد الرؤية والفهم لجانب أو جوانب عدة من الفكر الديني, وتيارات دينية أشبه بالغنوصية القائمة على ادعاء علاقة ما مع الغيب, أو ادعاء صدارة ما على حساب جموع علماء الدين في المجتمعات الدينية, وهي أشبه ما يمكن التعبير عنه بالطفرة العلمية التي تحصل بنحو مفاجئ وطارئ على الساحة العلمية في مجال علوم الدين.
الفرق بين الملحد والمنحرف عقدياً على مستوى الخطورة:
– ان الملحد قد لا يظهر إلحاده او يظهره على مستوى الجدال والنقاش ولو بنحو غير علمي في حين يحاول المنحرف عقائديا أن يظهر عقيدته ويفرضها على الآخر ولو بالقوة ويكون ذلك باسم الدين وتحت غطاء مشروع ومضلل في الوقت نفسه.
– في الغالب لا يجبرك الملحد على اعتناق فكرته.. في حين غالبا ما يلجأ المنحرف عقائديا الى فرض رأيه وإجبارك عليه.
– قد لا يتسبب الملحد بخلق فتن دينية في المجتمع بقدر ما يسببه المنحرف عقائديا من خلال عسكرة المجتمع وخلق الفتنة وتكريس حدة الخلاف الفكري والعقدي في داخل المجتمع الديني.
– من اليسير ان يهتدي الملحد مع توفر عوامل داخلية في نفسه من قبيل الفطرة السليمة او يبقى في حدود الحاده من دون ان يؤثر على استقرار المجتمع وأمنه الفكري فليس بالضرورة ان يكون الملحد مثلا متنكرا للقيم الاجتماعية والاخلاقية, في حين يهدد المنحرف عقائديا السلم الاجتماعي من خلال ما يبثه من افكار تسعى الى استقطاب وعي المجتمع من اجل اعتناق افكاره الجديدة, وهو ما يبدي العسر في تغيير قناعته العقدية.
ولسنا هنا بصدد التقليل أو التهوين من خطر الالحاد بقدر ما نحاول الفات النظر والانتباه الى جانب مهمل نوعا ما من خطر الانحراف العقدي الذي يظهر على هيأة حركات فكرية وعقائدية تربك الأمن الفكري والعقدي للمجتمع، وتدخل الافراد في صراعات دينية داخلية لا تقل خطراً عن جانب التفريط في العقيدة الذي يمثله موقف الالحاد.
إذن جانب الإفراط العقدي –إن صح التعبير- لا يقل خطرا عن جانب التفريط في العقيدة, ويأتي إطلاق (الإفراط العقدي) من ملاحظة الغلو في فكرة جزئية ما, أو في المبالغة في تقديس شخصية ما, أو التكثير في فكرة ما, وما شاكل ذلك من مظاهر الإفراط في الميل إلى مجال محدود وضيق من الفكر الديني أو النماذج الدينية.
لذا بات من الضروري العمل على تفعيل جانب الأمن الفكري والعقدي الذي يسهم في حفظ السلم المجتمعي، وعدم ترك الباب مفتوحاً أمام الأفكار التي تخرج المجتمع عن تماسكه العقدي وتدخله في صراعات تمس أمنه الثقافي.
إن مجتمعنا اليوم يتعرض الى تلك الانحرافات بنحو غير لافت ويسري ببطء وخفاء بين فئات اجتماعية بسيطة, وهو ما تمثل بظهور بعض التيارات المنحرفة باسم الدين والتي من غير الممكن التصريح ببعض منها، بل تكفي الاشارة الى بعض سماتها من قبيل ظهور من يدعي النبوة او المهدوية أو بعض الحركات التي تضرب مسلمات هامة في الاعتقاد الديني، واذ نسلّم ببعض الاختلافات المذهبية التي استقر المجتمع على استيعابها واحتوائها والتعايش معها على اساس التنوع العقدي والتعدد المذهبي, فظهور الجديد الطارئ يختلف بالطبع عن الموجود والمستقر سلفاً..
فثمة اختلافات سائغة من قبيل اختلاف الديني والعلماني واختلافات المذاهب والملل وهو أمر طبيعي غالبا ما يخضع لأخلاقيات الحوار والنقاش والمجتمع الراهن قادر نسبياً على تجاوز دوائر الاختلاف تلك بنحو لا يؤثر على الامن الفكري والثقافي، لكن المجتمع الراهن ربما لا يمكنه تجاوز الاختلافات الطارئة التي تظهر بنحو مفاجئ وبأقنعة دينية تعمل على بث روح العداء والفرقة بين افراد المجتمع.
إن موضوع الأمن الفكري ذو مديات واسعة وهامة تستدعي بحثا مستقلا, لكن قدر تعلقه بمفردتي الالحاد والانحراف العقدي هو ما تم التركيز عليه في هذه السطور, آملين أن يلقى الموضوع اهتماما بالغا من الجهات المعنية, من مؤسسات دولية أو اعلامية أو دينية.