23 ديسمبر، 2024 8:02 ص

ضرورات تجديد الشريعة الإسلامية ومناهجها

ضرورات تجديد الشريعة الإسلامية ومناهجها

دراسة مشتركة بقلم:
العلامة الشيخ محمد علي التسخيري وعلي المؤمن
علاقة التراث بالمستقبل
لأجل ضمان مستقبل تطبعه الأصالة وسمات الهوية الإسلامية الخاصة؛ لا بدّ من مراجعة أنماط تعاملنا مع التراث ورؤيتنا له؛ لتوفير الحالة المعتدلة من التواصل. وهنا ستمثل أمام الباحث إشكاليات عدة: تحديد بنية التراث، طبيعة الحركة داخل التراث، النظم المعرفية التي تكونه، سلطة العقل والنقل، جدلية المعرفي والسياسي وموقعها من التراث، صلة التراث بجذور إلهية وإنسانية وطبيعة علاقته مع مناهج العلم المعاصر، وغير ذلك.
فكيف يمكن التعامل مع هذه الإشكاليات بالصورة التي يمكن أن تكون مدخلاً لتشكيل علاقة مستقبلية مع تراثنا؛ سعياً إلى بناء أرضية تؤهل لتنمية شاملة تكون بمستوى تحدّيات المستقبل؟
تراث الأُمّة هو مصدر إلهامها، والمحرك الذي يدفعها باتجاه بناء حاضرها وضمان مستقبلها، والتراث هو الأساس الذي تشيّد عليه الأُمّة صرح حضارتها. وهو خزينها الدائم والمضمون، والأُمّة التي تقطع علاقتها بتراثها فإنّها تريد هدم الأساس الذي تقف عليه وتجتث جذورها بنفسها وتفصل نفسها عن ماضيها. هذا في الجانب المشترك مع كل الأُمم التي تحترم نفسها وتنزع نحو البقاء والاستمرار. فكيف بهذا التراث إذا كان يتمتع بأبعاد مقدّسة إلهية ودينية، كما هو الحال مع التراث الإسلامي! ولكي نحصر مفهومنا للتراث، فإنّ الذي أفهمه من السؤال هو التراث الإسلامي العلمي الديني، وليس مطلق التراث، إذ إنّ للمسلمين تراثاً يشتمل على مجالات متعددة وهو عماد حضارتهم ومدنيتهم. ومن هنا فسأحصر الحديث هنا عن التراث العلمي الديني.
هناك مدخل لا بدّ من بيانه ابتداءً، ويتمثل بقضية الفصل بين التراث الديني الإسلامي والثوابت الإسلامية المقدّسة، أي النصوص الدينية المتمثلة بالقرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة، هذه الثوابت إذا اعتبرناها جزءاً من التراث. فسيكون في التراث جانب إلهي مقدّس لا يمكن تجاوزه والوقوف أمامه والاجتهاد في مقابله، وفي الحقيقة فإنّ هذه الثوابت هي إرث المسلمين وزادهم الذي لا ينفد في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.
أمّا الجانب الآخر، فهو الذي له بعد إنساني، أي النتاج الإسلامي للمسلمين، والذي يعبّر عن تفسيرهم وشروحاتهم للثوابت الإسلامية، والتفصيلات التي يستنبطونها من النصوص، واجتهاداتهم التي يدفعون بها الحياة لتستظل بأحكام الشريعة. فهذا النوع من التراث نشاهده في: علوم القرآن، وعلم الفقه، وعلم أُصول الفقه، وعلم الكلام، وغيرها. وهي متغيرات بنسب معينة، أي إنّها ليست كالثوابت في موقعها، بل هي مساحات يمكن التحرك فيها بحرية، من ناحية الأخذ بها أو تطويرها أو تجاوز جزء منها وفقاً لما تفرضه متطلبات العصر وضغوط الزمان والمكان. وأؤكد على أنّ هذه العملية، أي التطوير والتجديد والتنقية في مجالات التراث، هي عملية متخصصة، فكما أنّ تراث المسلمين الذي نقبله ونعتدّ به هو الذي تركه لنا المتخصصون وليس عامة المسلمين أو غير المتخصصين، فإنّ الاجتهاد في مقابل هذا النوع من التراث أو الانتقاء منه هو عملية تخصصية أيضاً، ولا يمكن أن يقوم بها إلّا الذين يمتلكون آليات الاجتهاد بكاملها.
وهناك لون من التراث تعبِّر عنه ثقافة الأُمّة واتجاهاتها الملتزمة بالشريعة، وهو ما يطلق عليه بـ«سيرة المتشرعة» وغيرها من التسميات. وهذا الجانب من التراث يخضع لحقائق اللون الذي سبقه، أي أنّه من المتغيرات أيضاً. ولا يمكن أن نعبِّر عن هذه المتغيرات بأنّها سلطة نهائية ضاغطة، بل إنّ السلطة النهائية هي سلطة الثوابت المقدّسة، أي سلطة النص الإلهي المقدّس وامتداده في السنة الشريفة.
وعلى العموم فإنّ تعاملنا مع تراثنا لا بدّ أن يكون تعاملاً علمياً، أي يخضع للضوابط العلمية التي نستنبطها من الثوابت نفسها ومن العقل السليم، وبالصورة التي نحقق من خلالها مراد الشارع وتمكين الشريعة من بناء حاضر المسلمين ومستقبلهم، وليس تعاملاً عشوائياً وعفوياً ومزاجياً ومن خلال مناهج مستوردة أو هجينة، والإنسان المسلم الذي هو محور التنمية الإسلامية الشاملة التي تبني الحاضر والمستقبل، عليه أن ينطلق محصّناً بالشريعة السمحاء وبالاجتهاد وبوعيه لمراد الشارع في تعامله مع قضايا المستقبل.
وهنا نؤكّد على نقطة مهمة وهي أنّ الجانب المتغير في التراث يجب أن لا يكون عائقاً أمام هذه الانطلاقة، فلا بدّ من التحرر من ضغوطه؛ لأنّه ــ بالأساس ــ متغير وليس سلطة نهائية، فإنّ بقاءه عائقاً أمام النمو والتطور والانطلاق نحو ضمان المستقبل يتناقض مع روح الشريعة ومرادها. وبالتالي فإنّ كشف مراد الشارع من خلال التعامل مع النص والتراث هو الغاية التي ينشدها الفرد المتدين والمجتمع المتدين؛ بهدف تحقيق مقتضى التدين.
وفي ضوء تعدد أنواع التراث ومراتبه، ووجود جانب متغيّر وإنساني كبير فيه، فضلاً عن تحوّل هذا الجانب إلى سلطة أيضاً أو كوابح أمام ما نهدف إليه من تعامل مستقبلي مع التراث؛ عبر تحول الجانب المتغير إلى كوابح؛ يمكن كشف مراد الشارع في تعاملنا المستقبلي مع التراث، من منطلق ضرورات الاحتياط في قضايا الشريعة، والكوابح لا تعرقل المسير أبداً ولا تعيق عجلة التطور، بل إنّ حسن استخدامها سيجعلنا نقف في الأماكن التي لا بدّ أن نتوقف عندها؛ لخطورة الاستمرار في السير. ولكننا في النتيجة سنستأنف السير.
أمّا بشأن تعداد مراتب التراث، فالصحيح هو أن نعطي كل نوع أو مجال حقّه على أساس درجة وضوحه في كشف مراد الشارع. فقد يكون الكشف من خلال نصّ قطعي، وهنا لا مجال للاجتهاد، وهنا تكمن السلطة المعرفية التي من شأنها حماية الدين من التحريف أو محاولات العبور على بعض ثوابته، بحجة تنقية التراث، ورفع العقبات أمام التطور، وإلّا سوف يأتي اليوم الذي لن يبقى في الدين حكم ثابت. أمّا إذا كان الكشف ناقصاً، أي في حالة عدم وجود نصّ قطعي أو اعتقاد المتخصص بعدم قطعية النص، فنحتاج هنا إلى ما يدعم أو يتمم هذا الكشف بشكل قطعي للوصول إلى الحقيقة القاطعة، وليتم لنا عنصرا «التنجيز» و«التعذير».
وبكلمة واحدة، فإنّنا نرى أنّ تعاملنا مع التراث في جانب المتغيرات يجب أن لا يكون انفعالياً، ونتجنب فيه الإفراط والتفريط، ونتعامل معه تعاملاً علمياً موضوعياً، فلا نجمد عليه ونتكلس ونتعصب له، ولا نفرّط فيه ونسخر منه ونرفضه بالمطلق، أيّاً كانت الحجج. والحقيقة أنّ هذا التعامل الانفعالي بكلا وجهيه سيؤدي إلى فقداننا لطاقة تحركنا المطلوب والمناسب باتجاه المستقبل.
تجديد علم الكلام
علم الكلام هو جزء من تراثنا. ويخضع تعاملنا معه للأُسس التي ذكرناها. وهو في الواقع نتاج معرفي ينتمي إلى واقع فكري سابق. ومع انتقال هذا الواقع إلى مرحلة جديدة حافلة بالتطورات والمتغيرات والتحدّيات، فإنّ علم الكلام ملزم بمواكبة هذه المرحلة، حتى يتجاوز الفصام بين الأُصول المعرفية وتحدّيات العصر، ويوضح أثر فاعلية الإيمان عبر كشف الترابط الوثيق بين الرؤية الكونية للعالم والمسألة الاجتماعية.
والدعوات لتأسيس علم كلام جديد يجعل من الفكر الديني محوراً لحركة التغيير والدولة والحرية والتنمية والعدالة، وبالتالي تحديد مسار التاريخ وتوجيه حركة المجتمع وتوفير فرص استقبال التحدّيات العقائدية والفكرية التي ستظهر في المستقبل، والتي تفرزها معطيات الحاضر؛ يمكن تقويمها على أساس مضامينها ومخرجاتها؛ لأن المصطلحات هي قضية لا طائل من الحديث المطول عنها.
نرى أنّ بعض الكتّاب والمثقفين والأكاديميين المسلمين ــ بغض النظر عن تعدد منطلقاتهم ــ لديهم نزوع نحو تحويل التجديد في الأسماء والمصطلحات إلى هدف بذاته وليس وسيلة علمية نتيجتها تحقيق الهدف من البحث والعلم. ولذلك؛ نراهم يلوكون صباحاً ومساءً المصطلحات الجديدة، سواء المخترعة من قبلهم أو المستوردة أو المصنّعة محلياً، وكثير منها مبهم. ويثقلون على مخاطبيهم بهذه المصطلحات، بل إنّ قسماً من هؤلاء يحاول أن يتحذلق وهو يتطفل على الموائد الفكرية، ويخرج علينا كل يوم بعلم جديد وأفكار جديدة، وكم نتمنى لو أنّها كانت علوماً حقيقية وأفكاراً نافعة، حينها لن أتردد في الوقوف إلى جانبهم والتصفيق لهم، وأن أعتبرهم أبطالاً، ولكن للأسف الواقع غير هذا.
ولنأتِ الآن على علم الكلام تحديداً؛ هذا العلم مهما اتسعت موضوعاته وتضاعفت أهدافه وتطورت مناهج البحث فيه وأدوات الاستدلال، فإنّ هويته العامة لن تتغير.. غاياته الأصلية لن تتغير. وهذا ليس شأن علم الكلام وحده، بل كل العلوم الإنسانية والتجريبية والتطبيقية والنظرية، فمن الممكن أن تتسع العلوم وتنقسم على نفسها، ويتأسس علم جديد منشعب من العلم الأُم، ولكن العلم الأُم يبقى محتفظاً بهويته.
لنأخذ ــ مثلاً ــ علم الفقه أو علم النفس، علم الفقه منذ مئات السنين وحتى الآن تضاعف وتضخم وتطور بشكل كبير، ولكن يبقى يحمل الاسم والهوية والغايات نفسها، خذ أيضاً علم الطب أو علم الفيزياء أو علم الرياضيات، علم الفيزياء ليس هو اليوم كما كان في العصور القديمة، بل إنّه تطور بشكل كبير، بل وانقسم على نفسه أكثر من مرة، وظهرت من بين ثناياه علوم جديدة، ولكنها حملت أسماء أُخر، مثل: علم الفيزياء النووية، وعلم الفيزياء النظرية، أو الميكانيك، وغيرها، ولكن لم يدعُ أحد إلى تأسيس علم فيزياء جديد. ومن هنا لا أرى مسوغاً موضوعياً وعلمياً لبعض المصطلحات التي يحاول بعضهم إضافتها لبحوث وعلوم عريقة. وهذا لا يعني أنّني أتعصب للتسميات أو أدعو للجمود عليها، فإنّا لا أتعصب ضد أو مع أي مصطلح أو بحث، جديداً كان أم قديماً، بقدر ما أتعصب للحقيقة، والحقيقة تكمن في ضرورة تحقيق علم الكلام لغاياته، وعدم التضحية بأيّ من العناصر التي تحدثنا عنها في جواب السؤال السابق، أي الأهداف الأصلية والمنطلقات الأساسية، والقوانين المنطقية في الاستدلال. فبدونها لا يمكن أن نسمّيه علماً أصلاً.
ولعل هناك من يتساءل: كيف سيتمكن علم الكلام من مواكبة المتغيرات المتلاحقة في كل مجالات الحياة، وما يترتب عليها من تحولات فكرية، وشبهات جديدة، وموضوعات لم يكن لها وجود في السابق، بل وظهور علوم ومناهج وأدوات استدلال جديدة شكّلت التحدي الأساس لعلم الكلام وأدواته التقليدية؟
لا شك أنّ ميدان علم الكلام ومساحة حركته اتسعا بمرور الزمن، وتطور الفكر الإنساني. ومن هنا يجب إحداث هزة قوية على مستوى تنمية موضوعات علم الكلام وتطوير أدواته في الاستدلال، فيأخذ هذا العلم شتى الاتجاهات الفكرية في العالم بعين الاعتبار، سواء كانت نظريات أو مناهج أو أفكاراً، ويأخذ الاكتشافات العلمية وما يترتب عليها من تطور فكري بعين الاعتبار أيضاً. والنتيجة أنّ علم الكلام معني بالإجابة عن كل التساؤلات الجديدة أيّاً كان إطارها ومنهجها ودوافعها، ولكن شريطة أن تكون الهزة التي ندعو لها مدروسة بعناية علمية.
ونحن نؤيد وندعم الاتجاه الفكري الناضج الذي يدعو الى ضرورة استقبال علم الكلام للتحدّيات الفكرية والعقائدية التي ستظهر في المستقبل، من منطلق إمكانية استشراف هذه التحدّيات الآن؛ لأنّ المتغيرات الفكرية التي تتسارع يوماً بعد آخر في الواقع الإنساني ستظهر نتائجها في المستقبل: وكأنّنا نلمس هذه النتائج الآن.
ضرورات تجديد علم الكلام
علم الكلام هو جزء من تراثنا. ويخضع تعاملنا معه للأُسس التي ذكرناها. وهو في الواقع نتاج معرفي ينتمي إلى واقع فكري سابق. ومع انتقال هذا الواقع إلى مرحلة جديدة حافلة بالتطورات والمتغيرات والتحدّيات، فإنّ علم الكلام ملزم بمواكبة هذه المرحلة، حتى يتجاوز الفصام بين الأُصول المعرفية وتحدّيات العصر، ويوضح أثر فاعلية الإيمان عبر كشف الترابط الوثيق بين الرؤية الكونية للعالم والمسألة الاجتماعية.
والدعوات لتأسيس علم كلام جديد يجعل من الفكر الديني محوراً لحركة التغيير والدولة والحرية والتنمية والعدالة، وبالتالي تحديد مسار التاريخ وتوجيه حركة المجتمع وتوفير فرص استقبال التحدّيات العقائدية والفكرية التي ستظهر في المستقبل، والتي تفرزها معطيات الحاضر؛ يمكن تقويمها على أساس مضامينها ومخرجاتها؛ لأن المصطلحات هي قضية لا طائل من الحديث المطول عنها.
نرى أنّ بعض الكتّاب والمثقفين والأكاديميين المسلمين ــ بغض النظر عن تعدد منطلقاتهم ــ لديهم نزوع نحو تحويل التجديد في الأسماء والمصطلحات إلى هدف بذاته وليس وسيلة علمية نتيجتها تحقيق الهدف من البحث والعلم. ولذلك؛ نراهم يلوكون صباحاً ومساءً المصطلحات الجديدة، سواء المخترعة من قبلهم أو المستوردة أو المصنّعة محلياً، وكثير منها مبهم. ويثقلون على مخاطبيهم بهذه المصطلحات، بل إنّ قسماً من هؤلاء يحاول أن يتحذلق وهو يتطفل على الموائد الفكرية، ويخرج علينا كل يوم بعلم جديد وأفكار جديدة، وكم نتمنى لو أنّها كانت علوماً حقيقية وأفكاراً نافعة، حينها لن أتردد في الوقوف إلى جانبهم والتصفيق لهم، وأن أعتبرهم أبطالاً، ولكن للأسف الواقع غير هذا.
ولنأتِ الآن على علم الكلام تحديداً؛ هذا العلم مهما اتسعت موضوعاته وتضاعفت أهدافه وتطورت مناهج البحث فيه وأدوات الاستدلال، فإنّ هويته العامة لن تتغير.. غاياته الأصلية لن تتغير. وهذا ليس شأن علم الكلام وحده، بل كل العلوم الإنسانية والتجريبية والتطبيقية والنظرية، فمن الممكن أن تتسع العلوم وتنقسم على نفسها، ويتأسس علم جديد منشعب من العلم الأُم، ولكن العلم الأُم يبقى محتفظاً بهويته.
لنأخذ ــ مثلاً ــ علم الفقه أو علم النفس، علم الفقه منذ مئات السنين وحتى الآن تضاعف وتضخم وتطور بشكل كبير، ولكن يبقى يحمل الاسم والهوية والغايات نفسها، خذ أيضاً علم الطب أو علم الفيزياء أو علم الرياضيات، علم الفيزياء ليس هو اليوم كما كان في العصور القديمة، بل إنّه تطور بشكل كبير، بل وانقسم على نفسه أكثر من مرة، وظهرت من بين ثناياه علوم جديدة، ولكنها حملت أسماء أُخر، مثل: علم الفيزياء النووية، وعلم الفيزياء النظرية، أو الميكانيك، وغيرها، ولكن لم يدعُ أحد إلى تأسيس علم فيزياء جديد. ومن هنا لا أرى مسوغاً موضوعياً وعلمياً لبعض المصطلحات التي يحاول بعضهم إضافتها لبحوث وعلوم عريقة. وهذا لا يعني أنّني أتعصب للتسميات أو أدعو للجمود عليها، فإنّا لا أتعصب ضد أو مع أي مصطلح أو بحث، جديداً كان أم قديماً، بقدر ما أتعصب للحقيقة، والحقيقة تكمن في ضرورة تحقيق علم الكلام لغاياته، وعدم التضحية بأيّ من العناصر التي تحدثنا عنها في جواب السؤال السابق، أي الأهداف الأصلية والمنطلقات الأساسية، والقوانين المنطقية في الاستدلال. فبدونها لا يمكن أن نسمّيه علماً أصلاً.
ولعل هناك من يتساءل: كيف سيتمكن علم الكلام من مواكبة المتغيرات المتلاحقة في كل مجالات الحياة، وما يترتب عليها من تحولات فكرية، وشبهات جديدة، وموضوعات لم يكن لها وجود في السابق، بل وظهور علوم ومناهج وأدوات استدلال جديدة شكّلت التحدي الأساس لعلم الكلام وأدواته التقليدية؟
لا شك أنّ ميدان علم الكلام ومساحة حركته اتسعا بمرور الزمن، وتطور الفكر الإنساني. ومن هنا يجب إحداث هزة قوية على مستوى تنمية موضوعات علم الكلام وتطوير أدواته في الاستدلال، فيأخذ هذا العلم شتى الاتجاهات الفكرية في العالم بعين الاعتبار، سواء كانت نظريات أو مناهج أو أفكاراً، ويأخذ الاكتشافات العلمية وما يترتب عليها من تطور فكري بعين الاعتبار أيضاً. والنتيجة أنّ علم الكلام معني بالإجابة عن كل التساؤلات الجديدة أيّاً كان إطارها ومنهجها ودوافعها، ولكن شريطة أن تكون الهزة التي ندعو لها مدروسة بعناية علمية.
ونحن نؤيد وندعم الاتجاه الفكري الناضج الذي يدعو الى ضرورة استقبال علم الكلام للتحدّيات الفكرية والعقائدية التي ستظهر في المستقبل، من منطلق إمكانية استشراف هذه التحدّيات الآن؛ لأنّ المتغيرات الفكرية التي تتسارع يوماً بعد آخر في الواقع الإنساني ستظهر نتائجها في المستقبل: وكأنّنا نلمس هذه النتائج الآن.
منهجية فلسفة الفقه
في مجال الفقه أيضاً هناك معطيات مستجدة دائماً تستدعي ربما انبثاق مناهج جديدة في التفكير. فعلم الفقه يشهد منذ بدايات تأسيسه تحولات مستمرة في المنهج والأُفق وأساليب التفكير، تتناسب مع مرونة الشريعة، بالصورة التي تجعله يتفاعل بشكل مناسب مع الواقع المتحرك بسرعة هائلة، حيث لا يكفي ترديد شمول الشريعة لجميع الوقائع الحياتية، دون المبادرة للمزيد من الاكتشاف في أبعاد الشريعة. هنا يبرز الحديث عن طبيعة التحولات اللازمة في مناهج التفكير الفقهي وأساليب الاجتهاد الفقهي وآفاق حركة الاجتهاد، والتي يمكن من خلالها استيعاب إشكاليات المستقبل نظرياً وتقنياً، والموقف الفكري من انبثاق منهج جديد في التفكير الفقهي عنوانه: «فلسفة الفقه» يهدف إلى جدولة تلك التحولات والقيام بتنفيذها.
لقد أُريد للفقه منذ بدايات تأسيسه أن يكون القانون الدائم الذي يقود الحياة وطبيعتها، أي أنّه علم آلي وعلم تطبيقي وليس علماً نظرياً. وعلى هذا الأساس، يجب أن نتعامل مع غاية الفقه في كل عصر، فنوفر للفقه كل المقومات اللازمة من أدوات وأساليب لقيادة الحياة، فضلاً عن النظرة الشمولية المتجددة التي ينظر الفقه من خلالها إلى الحياة ومكوناتها: الإنسان، المجتمع، الطبيعة، العلاقات، ونقصد بالمكون الأخير العلاقات التي تربط الإنسان بالله تعالى وبالإنسان الآخر والمجتمع والطبيعة. هذه النظرة الشمولية الدينامية ستحفظ للفقه أصالته، وستدخله إلى هذا العصر وكل عصر من أوسع الأبواب. ومن خلال احتفاظه بخاصيتي الأصالة والمعاصرة يستطيع الإسلام أن يحقق مقولة: «الإسلام يقود الحياة» كما نظر لها أُستاذنا الإمام الشهيد محمد باقر الصدر.
و نعتقد أنّ الثورة المنهجية الفقهية التي قام بها الإمام الخميني والإمام الصدر، والمدرسة الفقهية التي يلتقيان عندها، من شأنها أن تتكفل بتحقيق التحول المطلوب في الفقه. وانبثاق ما عرف بـ«فلسفة الفقه» هو نتيجة للضغوط المتوالية على الفقه التي تركتها التحولات المعقدة في شكل الحياة، وازدياد الموضوعات وازدياد أسئلة الإنسان، فالإنسان يطالب الفقه أن يجيبه عن كل إشكال شرعي يواجهه. وإذا كانت منهجية «فلسفة الفقه» تدعم هذا الاتجاه وتحاول تمكين الفقه من ترتيب الإشكاليات وأولوياتها والكشف عن مراد الشارع ومقصده، فهي منهجية مطلوبة، بغض النظر عن التسمية؛ فهي تلتقي في أهدافها مع مدرسة الصدر ـ الخميني التجديدية في الفقه، ولكن يبقى علينا حيال كل الأفكار الجديدة، كما في «فلسفة الفقه» أن نحتفظ بأصالة المنهج، فلا نضحي بها في سبيل الأهداف، أو في سبيل محاكاة بعض المنهجيات المستوردة، بالصورة التي يحاولها بعض كتّابنا ومثقفينا من استخدامهم منهجية الفلاسفة والمفكرين الغربيين في تفسيرهم للدين، ومنها منهجياتهم في «فلسفة الدين» وغيرها.
إنّ غايات الفقه الإسلامي وأهدافه واضحة كل الوضوح، كما أنّ أدواته وآلياته وأُصوله، حتى التي يتدخل الإنسان (المتخصّص طبعاً) في تأصيلها، تلتقي بروح الشريعة ومقصدها. ومن هنا فإنّ كل منهجية جديدة لا بدّ أن لا تتقاطع مع روح الشريعة ومقاصدها. وأود هنا أن أُشير إلى ملاحظة أساسية في هذا المجال: نحن ليس لدينا عقدة من الأفكار، أو المنهجية التي يكتشفها ويبلورها الآخر، سواء كان هذا الآخر غربياً أو من أيّة نحلة وملّة كان، ولا نتخوف منها ولا نتحرج من استثمارها إذا كانت ـ أولاً ـ لا تجافي مبادئنا ومعتقداتنا وقواعدنا الشرعية، وكانت مفيدة ـ ثانياً ـ وغير مبهمة وغير معومة في صياغتها ـ ثالثاً.
وبالعودة إلى أهداف الفقه في استيعاب جميع الوقائع الحياتية؛ فلا شك أنّ التسميات غير مهمة؛ بل الأساس هو أصالة المنهج الذي تعتمده النظرية الجديدة أو الفكرة الجديدة أو الآلية الجديدة. ويمكن للفقه أن يحتفظ بخاصتي الأصالة والمعاصرة، وبالتالي تحقيق هدف: «الإسلام يقود الحاضر والمستقبل»، عبر الكثير من الخطوات والآليات العلمية، وأهمها:
أولاً: تطوير ما عرف بـ«فقه المقاصد» الذي يعطي للفقه دفعاً قوياً نحو وعي مقاصد الشريعة؛ بهدف استيعاب مختلف القضايا الفقهية الإشكالية، وتحويل فقه المقاصد الشرعية إلى جزء علمي من علم أُصول الفقه، وتحريره من المنهج الخطابي ومن المفاهيم العامة.
ثانياً: تطوير ما عرف بـ«فقه النظرية» من استقراء الحالات الفردية، والخروج بتصور نظري لموقف الإسلام من القضايا الحياتية المهمة، وهو ما نسميه بالنظرية الشمولية التي تستوعب كل خلفيات وأبعاد القضية، ومساحات تطبيقها والنتائج التي ترتبت على ذلك، وعلاقاتها بالقضايا الأُخر. ولا شك أنّ الخروج بالتصور النظري المطلوب لموقف الإسلام يتم عبر استنباط علمي رصين يحمل كل العناصر الاجتهادية، ويعتمد على مجموع آراء العلماء بعد التنسيق بينها؛ لأنّها كلها جاءت حصيلة لاجتهاد مقبول إسلامياً، وهو ما فعله الإمام الشهيد الصدر.
ثالثاً: اعتماد الاجتهاد الجماعي أو المجمعي، وهو الاجتهاد الذي يتوصل إليه مجموعة من الفقهاء في قضية معينة أو أكثر، بعد أن يناقشوا موضوعها معاً ويناقشوا مدارك حكمها ويخرجوا بنتائج مشتركة تعبّر عن رأيهم الفقهي جميعاً.
رابعاً: إصدار معاجم أو نشرات علمية مهمتها توضيح الموضوعات الحياتية المستحدثة بالتفصيل؛ ليكون الحكم على الموضوع مستوعباً لكل أبعاده، أي على بصيرة كاملة.
وتعتمد بعض المناهج الفقهية السائدة إلى إهمال دخالة عنصري الزمان والمكان في تشكل موضوعات الأحكام الشرعية؛ نتيجة تمسكه الحرفي بالنصوص وبالأساليب في فهم النص، مما يؤدي إلى منح الكثير من الأحكام أو الفتاوى إطلاقية غير مبررة، لا تعمل على احتجاز الواقع في إطارها فحسب؛ بل تؤدي إلى تفويت الملاكات الملحوظة في جعل الأحكام. ويمكن هنا تحديد آلية لاكتشاف تأثير عنصري الزمان والمكان في قراءة الشريعة وتوظيفها لمواجهة ضغوط المستقبل.
واعتماد عنصري الزمان والمكان في فهم الموضوعات واستنباط الحكم الشرعي الذي يناسبها؛ يعني تدخلاً للفكر الإنساني في العملية الفقهية، ولا يمكن أن يتم هذا إلّا في إطار ما تسمح به الشريعة نفسها، وإلّا فقدنا خصيصة الأصالة في فقهنا وتحوّلنا إلى فقه وضعي. وما تسمح به الشريعة هي مجالات المرونة فيه. ونؤكد هنا أنّ عنصري الزمان والمكان لا يغيران الأحكام، ولا يتدخلان في صنع الأحكام، بل يؤثران في فهم الفقيه للموضوعات، ويؤثران في ماهية الموضوعات، مما يؤدي إلى تحول فيها، وهذا التحول في الموضوعات تترتب عليه أحكام جديدة.
إنّ هذا الفكر الاجتهادي التجديدي أسّسه وبلوره الإمام الخميني، الذي قال بتأثير الزمان والمكان في الموضوعات الفقهية. ولا سيّما في الفقه الاجتماعي الذي يتجاوز الأفراد. وهنا تحضرني مقولة للإمام الخميني مضمونها: إنّ القضية التي كان لها حكم محدد في السابق، يمكن أن يكون لها في الظاهر حكم جديد، وذلك فيما يتعلق بالعلاقات التي تحكم السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما، بمعنى أنّ نتيجة المعرفة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تحوّل الموضوع الأول الذي لم يتغير في الظاهر، تحوّله إلى موضوع آخر يترتب عليه حكم جديد بالضرورة. وقول الإمام الخميني هذا يعني أنّ فهم الفقيه هو المتغيّر نتيجة التراكم المعرفي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، هذا أولاً.
وثانياً يعني أنّ التطور في مجالات الحياة وعلى مختلف الصعد يخلق بمرور الزمن وباختلاف المكان وضعاً جديداً ومشاهد جديدة، أي أنّ الموضوعات تتجدد وتتغير بمرور الزمان وباختلاف المكان. ويترتب على ذلك تغيير في الأدلة الشرعية لأحكامها، سواء كانت هذه الموضوعات قديمة أو متجددة أو جديدة. أمّا القول بتغيّر الأحكام نتيجة ضغوط الزمان والمكان فهو قول غير صحيح تماماً، فالأحكام الثابتة تبقى ثابتة والأحكام المتغيرة تتغير بتغير موضوعاتها أو بتغير فهم الفقيه لها أو بتغير أدلتها الشرعية.
قراءة الشريعة بذهنية المستقبل
على مستوى دخالة عنصري الزمان والمكان في المساحات المرنة من الشريعة؛ نود أن نطرح مقولة «الإسلام يقود المستقبل»؛ ففيها تخصيص لا ينفتح على مطلق الحياة دون تحديد المسافات الزمنية، بل إنها قيادة تتعلق بالمستقبل ومحدداته الزمنية ومشاهده التي تم استشرافها، وفي إطار تخطيط علمي لهذه القيادة من خلال مناهج الدراسات المستقبلية، آخذين بنظر الاعتبار الأهداف العامة للإسلام في قيادة الحياة؛ لأنّ «المستقبلية الإسلامية» التي نتحدث عنها لا تستشرف المستقبل فحسب، بل تهدف إلى صناعته وصياغة مشاهده، أو التأثير فيه كحدّ أدنى. وبالتالي ففقه «المستقبلية الإسلامية» هو الفقه الذي يؤثر في بناء المستقبل بمحدداته الزمانية والمكانية.
ولكن ينبغي تحديد المفاهيم على نحو الدقة، وندخل في الجانب الإجرائي والتطبيقي، ولا نتحدث عن أمانٍ ورؤى فقط. وتحديد المسافات الزمانية والمكانية في عملية استباق الفقه للحوادث التي ستقع هو أمر في غاية الأهمية، وهو أمر ممكن كما ذكرنا؛ لأنّ هذه الحوادث يمكن استشراف كثير منها الآن، ويمكن التأثير فيها وفي اتجاهاتها وفقاً لمستويات قدرة المسلمين وما يستطيعون إعداده من القوة. أمّا مجالات المرونة في الشريعة، أي المساحات التي تسمح الشريعة بالتحرك فيها بحرية نسبية، فهي كثيرة؛ ونذكر أبرزها هنا مع المقترح الذي نضعه لتنميتها:
أولاً: فسح المجال للعرف والفكر لاستكشاف مصاديق جديدة للقواعد والأمارات الشرعية، من قبيل اكتشاف مصاديق اجتماعية حديثة لقاعدة «لا ضرر ولا ضرار»، وقاعدة «الضرورات تبيح المحضورات»، وقاعدة «التزاحم» و«التعارض» وغيرها.
ثانياً: فسح المجال لاكتشاف آليات جديدة لأحكام اجتماعية ثابتة، من قبيل حرمة الربا، وحرمة الإسراف، وتنفيذ العقود، وأساليب تحقيق الشورى وغيرها.
ثالثاً: استثمار دائرة مشاريع الأحكام الثانوية التي تفرزها الظروف الضاغطة على الأحكام الأولية، وتخصيص ما يرتبط بولي الأمر وما يرتبط بالمجتهدين عموماً.
رابعاً: العمل على ملء ما يسميه الشهيد الصدر ـ مجازاً ـ بـ«منطقة الفراغ» التشريعي المتروكة للحاكم الشرعي، واكتشاف مساحات جديدة ستظهر في المستقبل في منطقة الفراغ؛ للاستعداد لملئها. وهناك أيضاً مجالات مرونة أُخر أقل أهمية أو تتفرع عن المجالات السابقة.

تطوير فقه المقاصد
تزداد أهمية موضوع فقه المقاصد أو مقاصد الشريعة، بمرور الزمن، وقد نظَّر لهذه المنهجية الفقهية كلا الفريقين السني والشيعي منذ مئات السنين، بيد أنّ الشاطبي هو الذي أطلق هذا المصطلح وبلور مفاهيمه. وهذا الحقل ـــ كما نفهم ـــ يعني في مدلوله الأساس الحكمة التي لحظها الشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، وغايته النهائية من التشريعات عموماً، ومن خلال وعي هذه المداليل والحكم والغايات، يمكن استنباط أحكام الموضوعات المستحدثة واستقبال الحوادث التي ستقع. وقد انطلقت دعوات متعددة لتطوير هذا الحقل في سبيل فهم أشمل للشرع يستوعب أبعاده بنظرة كلية، ويقصي الفهم الحرفي والتجزيئي الذي يفوِّت العديد مما لاحظه الشارع الحكيم.
ولا يستطيع أي متخصص واع أن ينكر أهمية موضوع فقه المقاصد أو مقاصد الشريعة، وهو موضوع يشترك في كثير من الأوجه مع فلسفة الفقه وعلل التشريع. ونستشهد هنا بكلمة للإمام الخميني يقول فيها ما مضمونه: إنَّ كثيراً من الطرق المتعارفة في إدارة أُمور الناس، ستتغير في السنوات القادمة، وإنّ المجتمعات الإنسانية ستحتاج إلى المسائل الفقهية الجديدة لحل مشاكلها، فيجب على علماء الإسلام العظام التفكير في هذا الموضوع من الآن.
فالإمام الخميني هنا يؤكد على ضرورة أن يستبق الفقهاء الزمن ويضعوا الحلول للمشكلات الفقهية التي ستظهر مستقبلاً. وأعتقد أنّ منهجية مقاصد الشريعة كما هو الحال مع فلسفة الفقه وتطوير علم الكلام ـ بإمكانها أن تدعم جهود الفقهاء في وضع الحلول للمشكلات الفقهية القادمة. ولكن قبل توظيف هذا الحقل، لا بدّ ــ أولاً ــ من تطويره وبلورته وتحويله إلى منهجية علمية حقيقية، ذلك أنّ هذا الحقل ما زال بعيداً ــ بنسبة معينة ــ عن العلمية التي تتطلب تحديد المصطلحات وتحديد الموضوعات، وتأصيل القواعد، والالتزام بعملية الاستنباط وقوانينها. والحقيقة أنّ تطوير هذا الحقل علمياً بحاجة إلى تظافر جهود مشتركة للعلماء والفقهاء في إطار مجمع فقهي أو حلقات فقهية تخصصية.