22 ديسمبر، 2024 1:58 م

ضرورات الحفاظ على هيئة التعليم التقني من الإلغاء

ضرورات الحفاظ على هيئة التعليم التقني من الإلغاء

استبشر العراقيون خيرا بتعيين الأستاذ الدكتور عبد الرزاق العيسى وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي كونه من التكنوقراط وله خبرات تمتد لعشرات السنوات في قطاع التعليم العالي ، ومما أثلج صدور المخلصين في التعليم التقني انه يمتلك دراية وإدراك كبيرين بهذا النمط من التعليم وملائمته لإحداث التطور المنشود في العراق الذي يهدف إلى الأعمار والبناء ، وقد عرض معاليه أفكاره للنهوض بواقع التعليم التقني من خلال التوسعين الأفقي والعمودي خلال لقائله بفخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء ، كما أعرب لإخوانه العاملين والمختصين في التعليم التقني عن استعداده لتقديم أشكال الدعم لتفعيل التعليم المهني والتقني من خلال استثمار التجارب المحلية الناجحة التي تراكمت منذ عام 1969 والتوأمة مع جامعات الدول المتقدمة في هذا المجال ، ونتوقع أن تتحقق الاستراتجيات بهذا الخصوص سيما ما يتعلق بتغيير هيكل القبول في التعليم الجامعي من خلال زيادة عدد المقبولين في التعليم التقني ليحتل نسبة كبيرة قياسا بمجموع المدخلات السنوية للجامعات باعتبار إن التوجه للدراسات الأكاديمية لا يحل المشكلات الكبيرة المتعلقة بتفاقم البطالة وقلة فرص العمل للخريجين وشحة أو انعدام حاضنات الأعمال التي يمكن أن تكون رافدا مهما لتطوير الاقتصاد الوطني الذي يعتمد بشكل كبير على صادرات النفط التي باتت تشكل مصدرا للازمات.
إن من العوامل التي تدعم توجهات السيد الوزير بهذا الخصوص هي الخطوات التي اتخذت قبل استيزاره بإعادة هيكلة التعليم التقني من خلال إنشاء الجامعات التقنية الأربعة عام 2014 ( الوسطى ، الفرات الأوسط ، الجنوبية ، الشمالية ) وقيام هيئة التعليم التقني بتوقيع وتنفيذ اتفاقية أل TVET مع الاتحاد الأوروبي التي تمتد لغاية عام 2023 ، فالجامعات التقنية باشرت أعمالها بالفعل وبدأت بتخريج الطلبة وهي تطبق السياقات العلمية والتربوية المطلوبة ومن الممكن الاعتماد عليها في تنفيذ الاستراتيجيات التي يتم تبنيها في توسيع قاعدة التعليم التقني وتطبيق هدف الجامعة المنتجة وزيادة إيراداتها من خلال الفعاليات الإنتاجية وتوجيه الطلبة لولوج الفرص المناسبة في أسواق العمل ، أما هيئة التعليم التقني فقد تم ترشيقها بما يناسب مهامها الجديدة وهي تمتلك موقعا جيدا وسمعة على الصعيدين المحلي والخارجي ولها خبرات واسعة في مجالات المناهج والتدريب وقبول الطلبة والعلاقة مع المؤسسات المناظرة في العالم وبذلك يمكن الاستعانة بها لمختلف الفعاليات كونها مؤهلة لذلك ولا تكلف الدولة اعباءا مالية ضخمة وتتوافر لها المستلزمات كافة من الكوادر والأبنية والأثاث والتجهيزات الأخرى ، أما بخصوص الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي فقد تمت المباشرة بها بعد مصادقة مجلس الوزراء على مضامينها ، ومن شان هذه الاتفاقية تبادل الخبرات مع الدول المتقدمة في محال التعليم التقني في مجالات جلب الخبرات والتدريب ونقل التجارب الناجحة لتعزيز دور ومكانة التعليم التقني ليكون ساندا وشريكا لكل القطاعات الإنتاجية والخدمية بما يرفع من الناتج المحلي الإجمالي ويعالج مشكلة البطالة واستثمار وتشغيل الطاقات .
وقد توقع الكثير بان يتم زيادة السعي للمحافظة على هوية التعليم التقني والحفاظ على الانجازات الممكنة التي تحققت بهذا الخصوص من خلال إيجاد علاقة تنظيمية وثيقة بين الجامعات التقنية الأربعة بارتباطها بهيئة التعليم التقني لان ذلك من شانه :
. الاستفادة من التجربة العراقية في مجال التعليم التقني وهي من التجارب الرائدة التي حققت العديد من الانجازات رغم الظروف والمعاناة التي مرت بها عبر العقود السابقة إذ بنيت بتضحيات التقنيين المخلصين ويضيق المجال لذكر تفاصيلها في هذا المنشور .
. الحفاظ على وحدة وهوية التعليم التقني ومنع أية محاولة للتفريط بهذه الهوية الوطنية التي كلفت الدولة الكثير من الأموال وفي سبيلها بذلت الكثير من الجهود فهذه الهوية تمت محاولة طمسها من خلال تحويلها الى وحدات عسكرية بعيدا عن المنهج العلمي .
. توحيد مواقف الجامعات التقنية في المحافل الرسمية في الداخل والخارج نظرا للخصوصية التي يتمتع بها هذا النمط من التعليم فهو يختلف في الكثير من الأمور عن التعليم الأكاديمي من حيث المناهج والتطبيقات التي تحتل نسبة كبيرة من عدد الوحدات .
. تسهيل التنسيق مع المنظمات الدولية المعنية بالتعليم التقني لان الاتصال مع جهة واحدة تعبر عن الرأي المشترك للجامعات الأربعة أفضل وأكثر جدوى من تعدد جهات التنسيق وقد أبدت العديد من الجهات الخارجية عن استعدادها لتقديم العون التقني .
. تكامل وترابط الإمكانيات والجهود في مجال تطبيق الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي لتحقيق أعلى استفادة وطنية ممكنة وبما ينعكس على واقع التعليم التقني والاستراتيجيات الموضوعة بهذا الخصوص فتشتت الجهود وتبعثرها يعطي الانطباع للغير بعدم الجدية .
. التعاون في مجال إعادة النظر في المناهج وأساليب وطرائق التدريس والتدريب وبما يواكب آخر التطورات العلمية السائدة في العالم ومن خلال اللجان القطاعية للتخصصات باعتبار إن مناهج التعليم التقني لا تتشابه مع مناهج الجامعات الأخرى في الكثير من المفردات وتوزيع الوحدات والتوقيتات وقد سبق لهيئة التعليم التقني بتبني إستراتيجية تبديل كامل المناهج خلال 5 سنوات .
. الاستفادة القصوى من أشكال الدعم التي تقدم للتعليم التقني من خلال أيجاد جهة قادرة على تحقيق التوازن والعدالة وبما يساهم في ولوج المقاييس الدولية للمؤشرات المعتمدة بمختلف المجالات لان تطور جامعة على حساب أخرى يظهر تباينات غير مرغوبة .
. العمل على الاستقلالية العلمية وغير العلمية للجامعات التقنية من خلال إتباع اللامركزية التي تعطي الهامش المطلوب لتبني المبادرات والإبداع وابتكار أساليب جديدة ترقى إلى مستوى العالمية وتشجيع التأليف والنشر والترجمة وإنتاج براءات الاختراع وإشاعة روح العمل الجماعي بهيئة فرق العمل وتبني المبادرات الفردية التي تقر بقدرة الإنسان على توظيف واحترام طاقاته .
. إلغاء المظاهر البيروقراطية في مجالات الأداء ومساعدة العاملين والطلبة على إنتاج أفكار تنمي حب العمل وتعزز الانتماء والمواطنة بإشعارهم إنهم جزءا حيا ومتكاملا من الوطن وإنهم عراقيون يتمتعون بالمساواة والعدالة في الحقوق والواجبات .
وفي ظل التوقعات والتطلعات أنفة الذكر تفاجأ الكثير باتخاذ هيئة الرأي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي قرارا يقضي بالتوصية بإلغاء هيئة التعليم التقني ورفع تلك التوصية إلى الجهات المعنية لاستصدارها بتشريع ضمن التعديل التاسع لقانون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي رقم 40 لسنة 1988 ، ويمثل هذا القرار توقعا يغاير الأمنيات والوعود بتطوير وتفعيل التعليم التقني في العراق ، وقد ينظر البعض للموضوع على انه انجازا لأنه يعني تقليصا في الإنفاق الحكومي ومعالجة ضمن معالجات الترهل الإداري لان البعض بات يؤيد أي تقليص على أساس انه يدخل ضمن الإصلاح الحكومي ، ولكن الأمر ليس كذلك تماما لان هيئة التعليم التقني بوضعها الحالي لا تضم 16 ألف موظف كما كانت قبل أكثر من سنتين لان هؤلاء تم توزيعهم على ملاك الجامعات التقنية الأربعة عام 2015 وان عدد العاملين في الهيئة حاليا لا يتجاوز 100 موظف ويعملون بنفقات اعتيادية جدا ولا يشكلون أي هدرا بالمال العام ويشغلون بناية حكومية مجهزة لتؤدي مهام الهيئة التي تؤدي إلى وحدة التعليم التقني ، وعلى العكس فان هناك من يعتقد بان إلغاء الهيئة يشكل هدرا بما انفق عليها خلال 47 سنة لتصل إلى المكانة والنضوج والخبرة التي هي عليها اليوم ، آخذين بنظر الاعتبار إن التعديل الثامن لقانون وزارة التعليم العالي الصادر في 2014 الذي تم بموجبه إنشاء الجامعات التقنية لم يتطرق إطلاقا إلى تغيير مهام وواجبات واختصاصات هيئة التعليم التقني ، لأنه خول مجلس الوزراء استحداث الجامعات بناءا على اقتراح من وزارة التعليم العالي بدلا من حصر الصلاحية بمجلس النواب كما كان الوضع عليه قبل التعديل .
ولغرض الحفاظ على هوية وانجازات التعليم التقني فهناك من يرى إن من الواجب المهني إعادة النظر بهذا القرار ليس من الجانب الإنساني أو المحافظة على حقوق ومصالح العاملين في الهيئة ، لان أمورهم يمكن تسويتها من خلال توزيعهم على تشكيلات الوزارة حسب الحاجة والاختصاص ، كما إن الأمر لا يتعلق بشخص رئيس الهيئة أو منصبه لان إحدى المقترحات التي روجت كانت تتجه صوب أن تكون رئاسة الهيئة دورية لرؤساء الجامعات التقنية ، وإنما من دافع وطني ومهني وعلمي لان الهيئة هي الضامنة للحفاظ على خصوصية التعليم التقني وعدم طمس تلك الهوية بمرور السنين ، فوجود الهيئة لا يمكن أن يؤدي إلى الضرر مطلقا ولكن إلغائها يجعل هناك احتمالية في وقوع الضرر المؤكد عندما تبقى الجامعات التقنية تصارع للحصول على احتياجاتها ومتطلبات عملها الموضوعية والضرورية في المحافل الجامعية ، لان حجم أصواتها يبلغ 4 من 36 وربما يتقلص بمرور السنين عند زيادة عدد الجامعات ، وحين نذكر ذلك لا نقصد التحيز للتعليم التقني ولكننا نؤكد خصوصية هذا النمط من التعليم وحاجته إلى الاهتمام عندما يتم التعويل عليه في إجراء النقلة النوعية في أسواق العمل كما حصل في تجارب ألمانيا وماليزيا واندنوسيا والصين واليابان وغيرها من الدول التي نهضت من غبار الحروب والأزمات المالية التي عصفت بها في السابق من العقود لتتحول إلى قوة في الاقتصاد العالمي ، ونأمل من معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي أن يكون كما عهده الجميع صدرا رحبا لإعادة مناقشة هذا الموضوع ، سيما وان القرار اتخذ في غياب رئيس هيئة التعليم التقني في الاجتماع الذي تم فيه التصويت كونه مكلف بواجب رسمي ، وقد كنا ولا نزال نقرأ ونسمع منشورات وأطروحات للأستاذ الدكتور عبد الرزاق العيسى فحواها إيمانه وتمسكه بتطوير التعليم التقني ونهوضه وتوأمته مع الجامعات العالمية ولا نعلم كيف يتم ذلك في ظل غياب جهة ضابطة لهذه التوجهات .