من الواضح أنّ الإدارة الأميركية الجديدة لن تتردّد في الانخراط في المشهدية الليبية، وإسقاط مشروعها التقسيمي على الساحة الليبية، والذي سينساب صلب جغرافيات رخوة في المغرب العربيّ وما أكثرها.
حين تكشف مصادر إعلامية بريطانية موثوقة نقلا عن مسؤول أميركي بارز تحضير إدارة الرئيس دونالد ترامب لسيناريو تقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم مناطقية، وهي الجنوب والشرق والغرب، دون أن تعقّب واشنطن بالنفي فهذا دليل على أنّ سيناريو تقسيم ليبيا قائم بقوّة ويعدّ واحدا من بين الخيارات المطروحة من قبل الإدارة الأميركيّة.
إحياء تاريخ ما قبل الدولة الوطنية من أجل ضرب جغرافيا الوطن والمواطنة، قد تكون هي العبارة الأكثر انسحابا اليوم على السياسة الأميركية في أكثر من قُطر عربي اكتوى بنار المحافظين الجدد في عهد جورج بوش، وسيكتوي بلهب التجمع الصناعي والعسكري والإعلامي المكوّن للطغمة السياسية الدائرة بترامب.
لم تتردّد الولايات المتحدة لحظة في تسويق فكرة التقسيم بالعراق تأسيسا على الفيدرالية الناعمة ومأسسة الطائفية والمذهبية دستوريا وسياسيّا وإداريا، الأمر الذي حوّل عراق اليوم إلى مجموعة من الكنتونات الطائفية والإثنية المتناحرة والمتنافرة.
وما إعلان أكراد العراق إجراء استفتاء تقرير مصير كردستان العراق في نهاية العام الجاري سوى تكريس لفكرة التقسيم الناعم والمباشر على حدّ السواء.
لم تكن واشنطن أيضا بعيدة عن مشروع انفصال جنوب السودان عن الخرطوم، صحيح أنّ سياسة الرئيس عمر حسن البشير أعجز من استدرار وحدة أو استجلاب مواطنة أو استقطاب عقد اجتماعي ضامن، إلاّ أنّ قرارا دوليا بقيادة واشنطن استفاد من قابلية الانفصال ليصادق على خروج الجغرافيا الهجينة من الجغرافيا التاريخية.
أمّا في يوغسلافيا، فكان تدخّل الناتو ومن ورائه واشنطن كفيلا بإدخال البلاد إلى مرحلة الجمهوريات الوليدة والجديدة على وقع سقوط جدار برلين والتوديع النهائيّ لمشروع لينين في الساحة الحمراء.
اليوم، تلعب واشنطن ورقة الأكراد في سوريا تأسيسا لمشروع كردستان الكبرى، ليس انتصارا للأكراد الذين عانوا من قصور في ثنائية المواطنة الثقافية وثقافة المواطنة، وإنما سعيا لإحياء الجغرافيات الاستعمارية القديمة في الشام.
ولئن أمّنت الطائفية المقيتة والمذهبية الهجينة سبل الشرذمة الاجتماعية على وقع التباينات الدينية، فإنّ تسليح أكراد القامشلي والحسكة كان كفيلا بإحياء مشروع الدولة القومية الكردية كنقيض استراتيجي للفكرة القومية للدولة الرسميّة.
لم تكن ليبيا بدورها بعيدة عن منظومة ضرب الجغرافيا بالتاريخ، فكان المبعوث الدولي الأوّل اللبناني طارق متري يجترح لتسوية الحرب الدائرة في البلاد حكومة بـ10 وزراء، 5 من الغرب ومثلهم من الشرق.
بقيت ثنائية الغرب والشرق مسيطرة على تمثل ووجدان وتفكير الليبيين، صحيح أنّ التوازنات والحسابات في عمقها سياسية ولكنها مبنية على أساس من التشرذم المناطقي بعد أن عجزت سلطة القذافي عن جسر هويته، كما قصرت تداعيات 17 فبراير عن تقديم البديل المواطني لكافة أبناء الوطن.
ولا أدل من وجود ثلاث حكومات في ليبيا، واحدة في طبرق بالشرق وأخريان في طرابلس، وغرفتان نيابيتان واحدة بعنوان مجلس النواب في الشرق، وأخرى باسم المؤتمر الوطني المنتهية ولايته في الغرب، إضافة إلى هياكل عسكرية متمركزة بين الغرب والشرق.
قد يجادل البعض بأنّ التركيبة الديمغرافية للحكومات والمؤسسات العسكرية مختلطة جغرافيا، ولكن الحقيقة أنّ جزءا معتبرا من التشرذم السياسي والعسكري يأخذ طابع النفوذ الجغرافي والتوسّع المناطقي ويحيي شواهد تاريخية سابقة.
وطالما أنّ الحلّ السياسي في ليبيا يعيش حالة من الاستعصاء والمكاسرة السياسية والعسكرية بين الفرقاء الليبيين، وصل إلى حدّ إعلان فايز السراج الحرب على المشير خليفة حفتر متوعدا بتحرير قاعدة البراك في الجنوب من قوات الجيش الليبي.
وطالما أيضا أنّ المبادرات الإقليمية وآخرها المبادرة التونسية لم تقنع كافة الأطراف الليبية، فإنّ واشنطن المتمركزة في جيبوتي والسنغال لن تتردّد في التدخّل لفرض التقسيم الجغرافي قد تكون الفيدرالية أحد أشكاله، على أساس الانقسام السياسي والعسكري الحاصل واستردادا للجغرافيا القديمة التي يحيل إليها العلم الليبي الجديد.
من الواضح أنّ الإدارة الأميركية الجديدة لن تتردّد في الانخراط في المشهدية الليبية، وإسقاط مشروعها التقسيمي على الساحة الليبية، والذي سينساب صلب جغرافيات رخوة في المغرب العربيّ وما أكثرها.
نقلا عن العرب