26 ديسمبر، 2024 10:29 م

ضربة أمريكية إستهدفت الحوثيين بقاصفة عملاقة

ضربة أمريكية إستهدفت الحوثيين بقاصفة عملاقة

 خبير إستراتيجي وعسكري… دكتوراه في التأريخ”

في ليلة 16/17 تشرين الأول (نوفمبر) 2024 فوجيء الحوثيون في عقر ديارهم بقصف أمريكي ثقيل طال مواقع صواريخهم البالستية بعيدة المدى التي بلغ عدد منها أجواء الكيان الصهيوني خلال الأشهر المنصرمة… فما الذي جعل الولايات المتحدة تعزم على هكذا ضربة؟ وما الأداة التي إستثمرتها لتحقيقها؟؟

سؤالان نحاول تسليط بعض الضوء عليهما في هذه المقالة المختصرة.

لماذا القصف؟

لا بد وأن “إسرائيل” هي الدولة الأهم لدى الولايات المتحدة، والتي إنزعجت على إثر بلوغ الصواريخ البالستية الحوثية بعيدة المدى -بما فيها الفرط صوتية ذات المنشأ الإيراني- أجواءهاعدة مرات، رغم عدم سقوطها على هدف ذي أهمية، بل إما في العراء أو إنفلقت في الجو بتأثير الدفاعات الأرضية وتشَظّت أجزاؤها من دون أن تحدث أضراراً تُذكر في الأرواح والممتلكات، حسب الإدعاء الإسرائيلي.

ولكن هذه الخطوة الحوثية لم تكن متوقعة لكون المسافة الأفقية بين هذا الكيان وبين مناطق الحوثيين منذ إنقلابهم على الحكومة الشرعية في العاصمة “صنعاء” سنة 2014 تبعد 1800 كلم على خط مُنحَنٍ أو مستقيم مباشر، وأكثر من ذلك إن كانت هناك إنحرافات في مسار الصاروخ.

وفي حين أن العشرات من الطائرات الأمريكية والبريطانية المقاتلة/هجوم أرضي (FIGHTERGROUND ATTACK) الأمريكية والبريطانية ومن دول أخرى أعضاء في تحالف “حارس الإزدهار” أجرت ضربات جوية ليلية عديدة على أهداف حوثية، وكذلك قصفت إسرائيل ميناء الحُدَيدةومطارها الدولي وأهدافاً في “صنعاء” مرتين بإستخدام العشرات من المقاتلاتهجوم أرضي… إلاّ أن الحوثيين لم يُردَعوا مطلقاً سوى بضعة أيام قبل أن يلملموا جراحاتهم ليعودوا لإستهدافمواقع إسرائيلية مجدداً سواءً بالطائرات المًسَيَّرة أو بالصواريخ أرض- أرض البالستية بعيدة المدى.

وحسب المعلومات المُسَرّبة أن الإستخبارات الفضائية مع المعلومات المستحدثة الأدق عن طريق طائرات الإستطلاع الإختصاصية قد رصدت الحوثيين وهم ينقلون صواريخم البالستية بعيدة المدى المحمولة على منصاتها الضخمة من مواضعها السابقة وسط هضاب ومرتفعات محافظتَي “صنعاء وذمار” إلى وديان ووِهاد وشقوق بين الجبال الشاهقة في أعماق محافظتَي “صعدة وعمران”، وقد بدأت تستقر في مواقعها البديلة إستعداداً لإطلاقها نحو “إسرائيل” على وجه الخصوص... وكذلك ينقلون خزين مقذوفاتهم المضادة للسفن من مناطق متفرقة إلى مغارات وكهوف طبيعية صخرية يصعب إستهدافها وتدميرها.

ولذلك كان لا بد من إجراء سريع قبل أن تستقر المنصات والصواريخ المحمولة على ظهرها وتستعد للإنطلاق… ولما كانت “إسرائيل” بعيدة جغرافياً، ومديات مقاتلاتها هجوم أرضي لا تبلغ أجواءاليمن إلاَ بإرضاع جوي للوقود عند التوجه نحو اليمن وعند العودة، وذلك من الطائرات الصهريجالأمريكية المُفرَزة لخدمة إسرائيل، وأن هذه العملية تتطلّب خطة معقدة نوعاً ما، كالتي إتبعتها القوة الجوية الإسرائيلية في ضربتَي “الحُديدة”، ناهيك عن أن المقاتلات الإسرائيلية لا تستطيع حمل قنابل ثقيلة للغاية وخارقة للأعماق من تلك المسمّاة “أم القنابل”، لذلك أُنيطت هذه المهمة على عجل للقوات الجوية الأمريكية الداعمة لإسرائيل.

القاصفة الأفضل التي أُستُثمِرت

من المعروف أن القوات الجوية الأمريكية تمتلك ثلاثة أنواع رئيسة من الطائرات القاصفة الثقيلة(BOMBERS HEAVY) العملاقة، والتي بإمكانكل منها بلوغ مناطق نائية تقرب من نصف محيط الكرة الأرضية، وتقطع من دون هبوط في مطار أو إرضاع جوي أثناء التحليق آلاف الكيلومتراتإنطلاقاً من قواعدها في الوطن الأم وصولاً إلىأهداف محددة، أمثال القاصفة النفاثة القديمة العملاقة الأضخم في التأريخ ذوات 8 محركات(سِتْراتوفورتْرِس (B-52 المُستحدَثة، والقاصفة العملاقة التالية ذات الـ4 محركات (لانسَر B-1) الأسرع من الصوت… وأخيراً القاصفة العملاقة الثالثة الأحدث (سبيريت B-2) المتميزة بكونها من الطراز الشبح الخفية عن الرادارات.

ولكن القوة الجوية الأمريكية إنتقت القاصفة (B-2) الشبح لتحقيق هذه المهمة لأسباب لم تعلنها، والتي قد تكون:-

1. الخشية من إمتلاك الحوثيين مقذوفات دفاع أرضي لإستهداف طائرات ستراتيجية باهظة الثمن على إرتفاعات عالية وإسقاطها في أسوأ الإحتمالات، لذلك فالقاصفة الشبح (B-2) التي يصعب على الرادارات رصدها وتعقّبها، هي الأفضل والأنجع والأبعد عن المخاطرة.
2. زجّ هذه القاصفة الشبح الحديثة في خِضَمّهذه المهمة الدقيقة، سيبعث أكثر من رسالة ردع وتهديد إلى الأعداء والخصوم في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص “إيران” وأذرعها وأتباعها من فصائل المقاومة المسلّحة من جهة، ورسالة أوضح للحلفاء والأصدقاء بأن الولايات المتحدة داعمة لها وتسند ظهرها من جهة ثانية.

قدرات الشبح B-2

عام 1989 أنتجت مصانع شركة “نورث روب كرومان NORTHROP GRUMMANنموذجها التجريبي من القاصفة الشبح B-2 وفقاً لشروط مثالية أقرب إلى الخيال العلمي، حتى رضيت بها القوة الجوية الأمريكية وإقتنت 20 قاصفة منها بتكلفة 737 مليون دولار لكل واحدة، ودخلت تأريخ الطيران الحربي الحديث بشكلها العجيب الذي أشبه ما يكون لجناحَي طائرة من دون بَدَن واضحومحركات مُعَلّقة ودَفّة (RUDDER) عمودية ضمن مجموعة الذيل، وأضحت “القاصفة الشبح البِكر” من هذا الطراز، والتي لم تولَد شقيقتها أو شبيهتها كي تدخل الخدمة الفعلية لغاية يومنا الراهن، رغم العديد من المحاولات الدؤوبة لإنتاج قاصفة شبح شبيهة أفضل من طراز (B-21 رَيدَر) تحت التجارب العملية، ولم يُتّخَذ قرار نهائي لإقتنائها.

المُستغرَب في القاصفة (B-2 سبيريت) موضوعة بحثنا وعلى العكس من القاصفات العملاقة من الطرازَين القديمَينرغم ضخامتها ومدياتها وحمولاتها من أنواع القنابل والمقذوفات النووية والإعتياديةأن طيارَين إثنين فقط في مقصورة القيادة لا ثالث لهما، هما من يقودانها بمفردهما، ويتحكمان في القيادة والملاحة والإتصالات وإسقاط القنابل والمقذوفات، وذلك من عِظَم ما جُهِّزَت بها من 16 عقل ألكتروني وتكنولوجيات قيادة وملاحة فائقة تحدّدالإتجاهات والمواقع والأهداف وتثبت نوعية القنابل والمقذوفات المطلوب إسقاطها من جوف القاصفة،قبل أن تتوجه أوتوماتيكياً بإستثمار منظوماتتسيير نحو الأهداف بالإفادة من أقمار صناعية تحوم في الفضاء وتحقق هذا الغرض تحديداً.

يبلغ المدى الأقصى للقاصفة 12،225 كلم، أي ما يزيد على المسافة بين “واشنطن وطهران” من دون إرضاع جوي، ويتضاعف حوالي مرتين بعملية إرضاع جوي واحدة عند الحاجة، وبحمولة قصوى تبلغ 22.5 طن من القنابر الذكية ومقذوفات “كروز” المُسَيّرة والقنابل النووية المختلفة، وبإمكانها أن تعمل على إرتفاع 53،000 قدم (17 كلم) من سطح البحر… سرعتها القصوى 960 كلم/ساعة -أي أدنى من سرعة الصوت التي لا تحتاجها “القاصفات/BOMBERS” الضخمة وجوباً، وقد تعاقدت القوة الجوية الأمريكية في التسعينيات لإقتناء العشرات من هذا الطراز خلال 20 سنة،شريطة تطوير إمكاناتها التكنولوجية تباعاً مع تصاعد العلوم والإمكانات نحو الأفضلوذلك كي تحلّ محلّ عدد مماثل من القاصفات العملاقة الأقدمB-52 ستراتوفورترس ذات الطرز القديمة،والتي آنَ أوانها أن تُقذَف بإحترام في مقابر الطائرات الأمريكية تمجيداً لخدمتها... ولكن تلك القيادة عادت وإكتفت بـ21 قاصفة فقط، ريثما يتم إنتاج أعداد مُجدِية من القاصفة الأجدد (B-21) على ما ذكرناه.

تمتاز الـ(B-2) موضوعة بحثنا، بأن جميع حمولاتها من القنابر والقنابل ومقذوفات كروز، تُرَكّب في جوفها بشكل مطلق على عكس القاصفات الأقدم، إذْ لا تتوفر تحت جناحَيها وبَدَنِها أية نقطة تعليق، وذلك لكونها مصممة من الأساس أن لا يتوفر أي جسم ظاهر ولو كان صغيراً أو ضئيلاً يحتكّ مع الهواء ويعكس إشعاعات الرادار فيكون سبباً في ظهور الطائرة على شاشته.

لقد جُرِّبت هذه القاصفة الشبح “B-2” ميدانياًللمرة الأولى في حرب حقيقية خلال حرب “كوسوفو” (1994)، وأعقبتها على رؤوس العراقيين وممتلكاتهم عند الغزو الأمريكي المدمّر سنة 2003 لأرض بلاد الرافدين، والتي أمست حقل تجارب حقيقية لأحدث أسلحتهم ومقذوفاتهم غير المجرّبة في حروبهم المتواصلة.

فمن قاعدة “دييغو غارسيا” الأمريكية- البريطانية المستأجرة وسط المحيط الهندي، أقلعت بضع قاصفات سبيريت/B-2 لتهمر العراقالمنكوب بشتى حمولاتها الأحدث والأنكى والأمَرّ والأثقل خلال غزوهم غير المُبرّر وإحتلاله (2003)، قبل أن يتبعوها -إلى جانب قاصفاتهم العملاقة الأقدم والمئات من مقاتلات الهجوم الأرضي بصحبة طرز أخرَيات خصّصتها القوة الجوية الأمريكية لقصفهم العشوائي الثقيل وغير الدقيق وغير المسبوق على الأحياء المكتظة بالمدنيين وسط مدن “الرَمادي، الفلوجة” وسواها، قبل أن ينهالوا بجام أحقادهم وبالتنسيق مع القيادات العسكرية الحاقدة على مدينة “الموصل” وسواها أيام الحرب التدميرية على تنظيم “د.ا.ع.ش” -المزعوم- في غضون الأعوام (2015- 2017).

القصف الأمريكي على الحوثيين

من المُعتاد لدى قيادة القاصفات ووزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أن لا تعلنا تفاصيل دقيقة عن مثل هذه المهمات... ولكن الذي يخصنا أن هناك من أشار إلى أن هذه القاصفات قد أقلعت من إحدى القواعد الجوية التي تتمركز فيها بالجانب الشرقي من الولايات المتحدة، فيما أتى آخرون على إنطلاقها من قاعدة “دييغو غارسيا” وسط المحيط الهندي لإختصار المسافة والوقت.

وأينما كان موقع القاعدة الجوية التي أقلعت منها القاصفات (B-2) مساء يوم 16 ت الأول (أكتوبر) 2024، فإن عددها لم يُعلَن، ولكن المنطق يشير أنها حلقت بخط طيران شبه مستقيم وبسرعة إقتصادية على إرتفاع عالٍ لتوفير الوقود، قاصدة الأجواء اليمنية والتي إخترقتها بالعديد من القنابر المركبة في جوف كل منها، وكلّها من طراز “أم القنابل” ولكنها متنوعة الأوزان.

وبالتنسيق بين الطيارَين القائدَين مع الأقمار الصناعية الإستطلاعية التي شخّصت لهما المواقع التي نُقِلَت إليها صواريخ الحوثيين البالستية المحمّلة على منصاتها الضخمة التي إستقرت وسط الوديان العريضة بين شقوق الجبال، وخُزِنت في مغاراتها وكهوفها مختلف أنواع الأعتدة والذخائر والمقذوفات الصاروخية المستخدمة للعديد منالأغراض، وبالأخص الأنواع المصممة لمقارعة السفن والقطع البحرية، حين أسقطت القاصفات المتتابعة من جوفها قنابل خارقة للأعماق تُوَجّهبدقة متناهية بإستثمار منظومة GPS نحومنصات الصواريخ ومستودعات الذخائر وتدمّر الطرق العامة والترابية وسط تلكم الجبال الصخرية الشاهقةوخلال بضع دقائق كانت العشرات من محتويات الخزين في خمسة مواقع مستهدفة قد إنفلقت وتصاعدت نيرانها نحو السماء، وذلك قبل أن تعود القاصفات خلال الساعات العديدة التالية إلى قاعدتها سالمة.

هل يردّ الحوثيون؟؟

من الناحية النظرية والعملية فالجانب الأمريكي على يقين أن مثل هذه القاصفات الشبحية المتطورة قد أنهت مهمّتها بنجاح لا شكّ في نتائجها ومن دون أية خسائر… ولكن الحوثيون تحدّوه كعادتهم في كل مرة- بِرَدٍّ موجع علينا إنتظاره، لذلك فإنهم –في غضون أيام لا تتعدى أسبوعاً واحداًأطلقوا صاروخاً بالستياً ولو واحداً بعيد المدى، سواء تجاه إسرائيل أو نحو أي هدف ذي علاقة بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة وبالأخص لدى دول الخليج العربي، فهذا يعني أن الضربة الأمريكية لم تكن ناجعة 100% ولم تحقق محواً لممتلكات الحوثيين من هذه الصواريخ العزيزة على قلوبهم… أما إذا لم يطلقوا خلال شهر أو أكثر فمعناه أنهم فقدوا هذا السلاح، إلاّ في حالة إنتاجه في مصانعهم المزعومة، أو تم تهريبه من إيران بطريقة ما إليهم… وتنطبق الإحتمالات ذاتها بحق المقذوفات سطح- بحر التي إستثمروها مرات عديدة وإستهدفوا سفناً حربية أو تجارية في جنوبيّ البحر الأحمر ومضيق باب المندب وكذلك في خليج عدن مرات عديدة ومتتالية…. وإن غداً لناظره قريب.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات