17 نوفمبر، 2024 1:39 م
Search
Close this search box.

صيرورة وإفرازات العولمة

صيرورة وإفرازات العولمة

من ناحية تاريخية فإن العولمة ليست وليدة زمننا الراهن، وإنما هي ظاهرة اجتماعية عمرها عمر حضارة بني البشر، تتخذ مظهراً جديداً في كل مرحلة تاريخية بشكل يتسق مع مستوى نضج شبكة علاقات البشر فيما بينهم داخل أي مجتمع بشري، وبين المجتمعات البشرية فيما بينها على المستوى الأكثر اتساعاً. وبشكل أكثر تشخيصاً فإن العولمة ظاهرة قديمة قد يكون أحدث أكثر أهم أمثلتها الراسخة في عمق حيواتنا اليومية هو عولمة الإبداع الحضاري والمعرفة وحتى الأدب الشعبي، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل عميق في كل حرف لاتيني يستخدم في اللغات الأوروبية المعاصرة، والتي تعود في أصلها إلى الأبجدية الفينيقية التي استنبطها كنعانيو الساحل في بلاد الشام منذ الألف الثاني قبل الميلاد، وأخذها عنهم الإغريق ليطوروا من خلالها أبجديتهم الخاصة، وهي التي اعتمد عليها الرومان و الروس من بعدهم لتخليق أبجديتهم التي يكتب بها أكثر من نصف البشرية راهناً بالحد الأدنى. وكذلك يستقيم النظر إلى الأرقام العربية التي يكتب بها جل البشر في عموم أرجاء الأرضين، والتي استقاها العرب من تواصلهم الحضاري مع حضارة وداي السند العريقة في القرن السادس الميلادي، وقاموا بتعزيز آلية استخدامها العلمية من خلال أعمال جابر الخوارزمي والكندي الرياضية، والتي كان البناء عليها مع نظرية الأرقام التي وضعاها، المقدمة التي أسست للنهضة المعرفية في أوربا وخاصة في فلورنس في القرن الرابع عشر، إذ أنها مثلت الحل السحري الذي كان لا بد من استنباطه لأجل تسهيل عملية الحساب والتوثيق لإبداعات وديون الأفراد بطريقة تتجاوز الطريقة البدائية والمعقدة للترقيم اللاتيني الذي كان متبعاً في روما. ونفس التوصيف السالف يستقيم أيضاً على التقدم العلمي الطبي في أوربا بدءاً من عصر النهضة في أوربا بدءاً من القرن الخامس عشر الذي اتكأ بشكل متعدد الجوانب على النتاج العلمي لابن سينا وكتابه القانون في الطب الذي ظل يدرس في الجامعات الأوربية كمصدر أساسي للمعرفة الطبية حتى القرن الثامن عشر.
وكذلك الأمر بالنسبة لتعرف واكتشاف الأوربيين للفلسفة اليونانية من خلال اطلاعهم على كتب ابن رشد ومجلداته التي لخص فيها منطق أرسطو، وانتقلت إلى الأوربيين من خلال الحضارة العربية في الأندلس.
والحقيقة أن عولمة المعرفة والإبداع الفكري والعلمي ضرورة لا بد من الاجتهاد لتعزيز أقنيتها لما لها من دور هام في حرق المراحل التي لا بد منها للبشر للصعود في سلم التحضر الإنساني والاجتماعي، وذلك عبر الاتكاء على تجارب وخبرات واستخلاصات المجتهدين في مجتمعات أخرى والبناء عليها.
ولكن العولمة المنبوذة هي ذاك الشكل المتطفر عنها في سياق تغول الإمبريالية المتوحشة عليها، وإدخالها في منظومتها الأخطبوطية ممثلة بالشركات العابرة للقارات التي قد يصعب حتى على المراقب الحصيف معرفة رأسها من أذرعها واستطالاتها وتشابكاتها المعقدة، والداخلة في رأس وبنيان المجتمعات في غير موضع جغرافي من خارطة المعمورة، بشكل سلبي ظاهر للعيان أو مخاتل في الغالبية المطلقة من الأحايين جراء عقيدتها التي لا تتغاير في السعي لتحقيق الربح السريع، وعدم النظر إلى أي خسائر جانبية لا بد من حدوثها وفق منظارها القصير النظر لضمان تحقيق الربح السريع، حتى لو كان ذلك يعني تدمير التوازن البيئي، ووأد إمكانيات الحياة الطبيعية غير المحكومة بالهروب من كارثة بيئية للوقوع في أخرى للأجيال القادمة في المستقبل غير البعيد، بالإضافة إلى الحقيقة المرة بأن الغالبية المطلقة من تلك الشركات لا تساهم بأي دور في ترقية مستوى حياة البشر في المجتمعات التي تستغل مواردها وقوة عمل بشرها وأسواق تصريفها إذ أنها لا تعرف أوطاناً لوجودها الأخطبوطي، وهو ما يمكنها من التهرب عملياً من دفع أي ضرائب في أي من البلدان القائمة على خارطة جغرافيا كوكب الأرض؛ وهو ما أسهم ويسهم في تردي مستوى حيوات البشر في جل أرجاء المعمورة جراء تحميلهم جل الأعباء الضريبية التي تحتاجها تلك الدول لضمان قدرتها على القيام بوظائفها في بناء وإدارة البنى التحتية في مجتمعات تلك الدول من طرق ومشافي وجسور وخطوط سكك حديدية وخدمات صرف صحي وموانئ ومطارات، و التي لا تستحي تلك الشركات العابرة للقارات من الاستفادة منها إلى الدرجة القصوى ولكن دون أي مساهمة اجتماعية منها في تحمل أعبائها عبر سداد واجبها من الفواتير الضريبية التي لا يوجد أي مبرر لتهربها منه سوى الشواه البنيوي لمنظومة العولمة بشكلها الإمبريالي المتوحش المعاصر.
وما يزيد الطين بلة في ذاك الواقع الأليم هو حصول نفس تلك الشركات الأخطبوطية العابرة للقارات على شروط ميسرة للعمل في الغالبية المطلقة من دول العالم، تتمثل في تعهد الدول بتأسيس البنى التحتية التي تحتاجها تلك الشركات للعمل في تلك الدول، سواء كانت بنى تحتية على شكل طرق وموانئ ومطارات، أو على شكل أراض يتم منحها بشكل مجاني، لأجل ترغيب تلك الشركات في ما يدعى الاستثمارات الأجنبية، والتي هي في جوهرها استثمارات خلبية لا فائدة للمجتمعات المحلية منها، إذ أن أرباحها يتم تصديرها إلى مصارف خارجية، معظمها في جزر مجهرية، تقوم بدور جنات التهرب الضريبي كما في الجزيرة المجهرية في لج المحيط الأطلسي التي تدعى (Cayman Island) كايمان أيلاند، والتي تمثل المقر الرئيسي لألوف المؤسسات المصرفية العالمية، على الرغم من عدم وجود أي موظفين أو مقرات فعلية لتلك المؤسسات في تلك الجزيرة المجهرية والتي لا يتجاوز عدد سكانها 65000 نسمة، إذ أن كل ما يدخل تلك المؤسسات المصرفية مصفى من أي التزامات ضريبية وفق القوانين المحلية السارية في تلك الجزيرة المجهرية، والتي تخضع للحماية العسكرية والأمنية من الحكومة البريطانية، جراء اعتبارها جزءاً من بريطانيا العظمى ودون إخضاعها للقوانين البريطانية المحلية، في حذلقة و تلفيق قانوني تعجز الكلمات عن توصيف عمقه الريائي، و ذلك لإبقائها خزاناً لا قعر له لتكديس الأموال المسروقة والمنهوبة من قِبل الشركات العابرة للقارات، و هي الأموال التي سوف يتم حقنها واستثمارها في اقتصادات الأقوياء عبر اتفاقات مهولة في خبثها على شكل قروض من المؤسسات المصرفية في تلك الجزيرة للمؤسسات المالية في دول الأقوياء نتيجتها النهائية إدخال تلك الأموال غير الشرعية في الجهاز الدوراني للمؤسسات المالية في دول الأقوياء، وحرمان المفقرين في المجتمعات المنهوبة التي تم تخليق تلك الأرباح عبر الاستثمار فيها من الاستفادة منها بأي شكل ذي مدلول منطقي أو أخلاقي أو قانوني في حال كان أس التشريع القانوني هو السعي لتحقيق العدالة والإنصاف.
وهو الواقع البائس الذي يتم ترسيخه بشكل مضطرد على المستوى الكوني بقوة اتفاقات تحرير التجارة العالمية من قبيل اتفاقية منظمة التجارة العالمية التي يتم صياغة شروطها المجحفة بحق المجتمعات المفقرة بقوة الإمبريالية العسكرية لدول الشمال الغني التي تفاوض عنها دائماً حكوماتها التي تتحكم بمفاتيح الحل والعقد فيها نفس تلك الشركات العابرة للقارات عبر تمويلها وتسويقها للحملات الانتخابية والإعلامية للسياسيين المناط بهم القيام بدورهم الوظيفي في بنى الديموقراطيات الشكلية القائمة في مجتمعات دول الشمال الغني، والمتمثل أساساً في خدمة أولياء نعمتهم وحافظي وجودهم السياسي والإعلامي ممثلاً بنفس الشركات العابرة للقارات التي تصعدت بهم إلى سُدة التصدر السياسي في بادئ الأمر، لتكتمل الحلقة الأخطبوطية الشيطانية التي ما يزال يذهب ضحيتها الملايين من حيوات بني البشر في مجتمعات المفقرين المنهوبين الذين لم يقدر لهم الاستمرار في هذه الحياة الدنيا جراء تآكل كل إمكانيات الحفاظ عليها بعد نهب كل المقدرات التي لا بد من وجودها للقيام بتلك المهمة بعد أن تم نزح تلك المقدرات بقوة الإمبريالية المعولمة المتوحشة إلى أحشاء الشركات العابرة للقارات وتلافيفها وأخاديدها وألاعيبها الشيطانية الخبيثة.
والعولمة الراهنة بشكلها الإمبريالي المتوحش الذي تتصدره الشركات الأخطبوطية العابرة للقارات عولمة خانقة للإبداع والابتكار عبر استدماج نهج الاحتكار والهيمنة كجزء جوهري في تكوينها وبنيانها، مثاله النموذجي الهيمنة التي تطبقها الشركات التقانية العابرة للقارات من قبيل فيسبوك، غوغل، مايكروسوفت، أمازون، وما كان على شاكلتها بشرائها لكل الشركات الصغيرة الناشئة التي يحتمل أن تشكل منافساً لها في قابل الأيام، وهو ما يؤدي في المآل الأخير إلى انعدام المنافسة وحرية العرض والطلب التي تمثل جوهر الرأسمالية التقليدية بشكلها الذي ارتآه آدم سميث في كتابه ثروة الأمم، وتصوره «لليد الخفية» التي تقوم بتنظيم حركة الاقتصاد الرأسمالي ذاتياً عبر تفاعل العرض مع الطلب، إذ يصبح العرض محتكراً ومحدوداً بخيارات محدودة و ضيقة في ظل العولمة بشكلها الإمبريالي الاحتكاري، كما هو في المثال الصارخ عن حال عصب اقتصاديات العولمة المعاصرة، و أعني هنا ثورة الاتصالات و الشبكة العنكبوتية، و التي يكاد يكون المدخل الأول لكل ما فيها هواتف محمولة يشغلها نظامان لا ثالث لهما، ومحرك بحث واحد، ونظام تشغيل واحد للغالبية المطلقة من الحواسيب المكتبية، مع شبكة فيسبوك التي تهيمن على جل التواصل الاجتماعي الإلكتروني لأكثر من نصف البشرية من البالغين.
وتلك العولمة المعاصرة أيضاً عولمة بربرية ليس فيها أي بقايا من ذلك الميل الفطري للرأسمالية الوطنية للاستثمار في أوطانها بحسب تصور آدم سميث نفسه مفكر الرأسمالية الأول عن الرأسمالي الوطني الذي يحدوه ميله العفوي إلى ترقية حياة المجتمع الذي ينتمي إليه للاستثمار فيه بدل الهجرة إلى مجتمعات أخرى قد يمكن فيها تحقيق عائد أعلى من الربح. وذلك الواقع الوحشي أفرز حالات مرعبة من تهافت الشركات العابرة للقارات للاستثمار في الدول النامية الأقل التزاماً بحماية مستضعفيها ومفقريها، وهو ما حولهم في الكثير من الحالات إلى أجراء لا يختلفون عن أسلافهم من العبيد المظلومين، سوى بعدم وجود أصفاد حديدية في أياديهم، إذ أنها قد تعيق عملهم الدؤوب، مع عدم نسيان أباطرة تلك الشركات العابرة للقارات بتركيب شبكات ووسائد حماية تحت نوافذ معاملهم الاستثمارية حتى لا يتمكن أي من العمال المظلومون القفز منها هرباً بأكثر الوسائل العدوانية تجاه الذات، وأعني هنا الانتحار كما هو الحال في معامل شركة فوكستون Foxton في الصين، والتي تقوم بتصنيع هواتف شركة آبل وحواسيب شركة Del. والأمثلة على ذلك البؤس المقيم عصية على الحصر كما هو الحال في عديد الحالات اليومية من الحرائق في معامل تفتقد أساسيات السلامة المهنية، في غير دولة من العالم المفقر المنهوب، والذي يذهب ضحيتها مئات وآلاف الأرواح دون أن يلتفت لها أي من وسائل الإعلام المتسيد إذ أنها أصبحت من طبائع الأمور وعلائق الحياة بشكلها الوحشي المعولم الذي نعايشه راهناً.
ولا بد في هذا السياق من الإشارة أيضاً إلى أن هذا النموذج من العولمة الاحتكارية المتوحشة هو عولمة ركودية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، إذ أنها لم تفض من الناحية الإحصائية منذ تبنيها على المستوى الكوني من خلال اتفاقيات تحرير التجارة العالمية من قبيل اتفاقية منظمة التجارة العالمية وغيرها، إلا إلى الإيغال المنفلت من كل عقال في استغلال المفقرين على المستوى الكوني، وهو ما تجلى في حقيقة أن رواتب العمال ما زالت تراوح في مكانها منذ سبعينيات القرن المنصرم بعد تقسيم قوتها الشرائية راهناً على معدل التضخم التراكمي خلال العقود الخمسة المنصرمة، والذي يشي بأن رواتب العمال حقيقية سواء في العالم المتقدم أو النامي لم تزد فعلياً بأي شكل يذكر بينما ثروات الشركات العابرة للقارات وشخوص واجهاتها البشرية ممثلة بمدرائها ومالكيها تعاظمت ثروتها بشكل متوالية هندسية، حتى أصبحت ثروة حفنة من أولئك الشخصيات تفوق ثروة أكثر من نصف البشرية. وهو واقع أعوج لا يستقيم استمراؤه بأي نهج كان، وهو الذي أفصح عن نفسه بالواقع المزري المتمثل بأن أكثر من 15% من أبناء البشر وغالبيتهم من الفئات المستضعفة منهم أطفالاً ونساءً وشيوخاً يعيشون في فقر مدقع بأقل من دولارين يومياً، وأن أكثر من 56% من عموم أبناء البشر يعيشون في حالة من الصراع الوجودي لتفادي السقوط إلى قعر الفقر المدقع، ويجاهدون للإبقاء على قدرتهم على الاستمرار في صراعهم اليومي للبقاء على قيد الحياة بدخل لا يتجاوز عشرة دولارات في اليوم في أحسن الأحوال، بينما يتربح شخص مثل جيف بيزوس رئيس مجلس إدارة شركة أمازون في اليوم الواحد أكثر من 13 مليار دولار، على الأغلب لا يساهم بأي جزء منها في سداد أي فواتير ضريبية في أي دولة في العالم بحسب قوانين العولمة الاحتكارية المتوحشة التي تقتضي أن عدالة الغنم بالغرم تسري فقط على المفقرين والمستضعفين فقط، وليس على أقانيم الثراء الفاحش الذي أقل ما قد يوصف به بأنه سحت وظلم وإجحاف بحق المليارات من البشر المستضعفين الذين يعتبر كثير منهم أن أسمى أحلامهم في حيواتهم البائسة هو الرحيل والاندثار البيولوجي منها بعد إن لم يعد لهم مخرج من دائرتها الأخطبوطية الشيطانية سوى ذلك الخيار الظالم الأليم.

أحدث المقالات