23 ديسمبر، 2024 1:04 ص

في صباح ذلك اليوم استيقظ أفراد العشيرة، فلم يجدوا شيخهم، الذي كان يملك من الحلال، والأراضي بحجم إمكانيات دولة صغيرة، وكان كريماً جداً مع أفراد عشيرته، وغيرهم من العشائر الأخرى، ولم يبق له من الأملاك والأموال ما يستطيع به الاستمرار في إدارة شؤون العشيرة، وأصبحت عائلته، هي الأدنى معيشة بين عوائل العشيرة، ولم يبق في العشيرة أي عائلة تشكو من الفقر، حيث كان الشيخ يغدق عليهم بكل ما يحتاجونه.
فنزل الشيخ الهارب من قومه، عند أحد شيوخ العشائر البعيدة الأخرى، وبعد استضافته ثلاثة أيام، أحبه الشيخ، ولم يقتنع إنه رجل عادي، نظراً لما وجده منه من رجاحة العقل، وبعد النظر الذي يمتاز به، وحسن المعشر، وحلاوة اللسان، فقال الشيخ لضيفه: والآن اطلب مني ما يريحك، أنا أتمنى أن تبقى معي، فقال له أنا أريد أن أعمل وأعيش أنا وعيالي من عملي، فقال له ابشر، فأكرمه الشيخ ببناء بيت له قريباً من قلعة الشيخ، ومنحه أرض للزراعة، وعزل له من الحلال ما يكفيه، وزيادة، ودارت الأيام، وقد أكرم الله الشيخ الهارب من عشيرته، حيث نجح في زراعة الأرض، وزيادة الحلال، وكان قريباً من الشيخ جداً، بحيث أصبح الشيخ لا يستطيع أن يسهر في الديوان، أو يحل مشكلة ما لم يكن الشيخ الهارب بالقرب منه، ولم تبتعد خاصية الكرم عن الشيخ الهارب، فقد كان دائماً ما يبادر إلى نحر الذبائح من حلاله، عندما يحل ضيوف على شيخ العشيرة الذي أكرمه، وكان الله سبحانه وتعالى يزيد له في الكرم، تكريماً له على كرمه…
ومرت سنوات طويلة على هذا الحال، وقد أصاب القحط والجزع والندم أفراد عشيرته، التي هرب منها، وفقدوا الأمل بالعثور على شيخهم، بعد أن ظلوا سنوات يبحثون ويسألون عنه من دون جدوى..
وذات يوم، وبينما كان أحد الدوارة الذين يبيعون بضاعتهم، أو يستبدلونها في القرى والأرياف مع العشائر المترامية، عرف هذا الدوار الشيخ الهارب، وتأكد من مكان سكنه، عاد مسرعاً إلى عشيرة الشيخ الهارب، وقد أبلغهم بتواجد شيخهم الذي يبحثون عنه منذ سنوات، وخرج معه أربعين فارساً قاصدين ديرة شيخهم الجديدة، ونزلوا ضيوفاً عند شيخ العشيرة، وبعد أن نحروا الذبائح لهم، قصوا قصتهم في الديوان، واعتذروا من شيخهم، وطلبوا منه أن يعود معهم لكي يقود العشيرة من جديد، بعد أن شرحوا لكل الحاضرين ما أصابهم من قحط وتشتت، بعد رحيل شيخهم، هنا صدم الشيخ بهذه الأخبار، وقال: والله يا شيخ راضي، منذ اليوم الأول الذي نزلت فيه بقربي عرفت إنك أبداً لم تكن إلاّ شيخاً، وابن جواد، وطيب الأصل، ولو خيروني اليوم بين كل ما املك حتى عيالي، وبينك لما ندمت على تفضيلك عليهم جميعاً، ولكن يبقى الأمر أولاً وآخراً لك في تقرير ما تراه مناسباً، وهاهم اهلك يتوسلونك أن ترجع معهم، لكن الشيخ رفض العودة معهم، ولم يذكر أي سبب لرفضه، وعاد القوم من حيث أتوا، وبعد مرور شهر، كرروا المحاولة، وذهبوا ومعهم عشرة، من شيوخ العشائر الكبيرة، والمعتبرة، وكانوا مائة وخمسين فارساً، ونزلوا في ضيافة شيخ العشيرة. واجتمع القوم جميعاً في باحة قلعة الشيخ، وبدأت المناشدات… وأخيراً قرر الشيخ الهارب العودة إلى عشيرته، ولكنه اشترط عليهم شرطاً واحداً أمام كل الحاضرين، فقفز رجال عشيرته، وقالوا له رقابنا هذه اليوم فداءً لك يا شيخنا، وأي شرط مجاب، ومن دون تردد. فاشترط ما يحلو لك، فقال الشيخ راضي الهارب، شرطي هو أن تصيرون أوادم، وسط ذهول الجميع، من هذا الشرط العجيب…
والحقيقة ان كل أفراد عشيرته لم يكونوا أوادم فعلاً، فقد رفعهم في كل شيء، وكان كريماً معهم، وكل أراضيه التي يملكها، وحلاله، وأمواله كانت تتناقص أمام الجميع، إلا أن وصل به الحال لا يستطيع أن يعيل نفسه، وعياله، ولكن لم ير الشيخ أحداً من عشيرته، يتقدم لمعاونته، علماً أن كل ما يملكون هو من خيره، وكرمه، معهم.لذلك اشترط عليهم أن يكونوا أوادم، كي يقبل بالعودة لقيادتهم، ولم شمل العشيرة…
هذه القصة حقيقية، وقد رواها لي أحد المشايخ، بعد أن خرجنا من دار أحد الشيوخ، وكان هذا الشيخ يتحكم في كل شيء، ويأمر وينهى، حتى بما لا يستطاع، علماً أن هذا الشيخ لم يذبح دجاجة في حياته لأفراد عشيرته!
ولا اليوم عمي: مو بس ما ذابح دجاجة ويتأمّر على العشيرة، باكَ العشيرة ويتأمّر عليها، ويتحدث باسمها، ويقرر مصيرها، والمئات يموتون يومياً، وينصب خيم للحفلات الصنمية، فبئس الرئيس، وبئس المرؤوسين.