كان ذلك مطلع تموز عام 1991 . حيث كنتُ بمحاذاة مبنى وزارة الاعلام (مبنى محافظة بغداد حالياً) ، عندها لفت نظري وجود رجل بقامة نحيلة ، وشعر رأس طويل يتشابك مع اللحية والشارب ، ليكونا مهابة رجل هندوسي .
هذه الهيئة كانت كافية لأن تشدني لصاحبها . لكن وجوده في محطة انتظار ، جعل السيارة مفتوحة الأبواب ليدلف الرجل لداخلها ، متخلصاً من وطأة الانتظار المصحوب بحر تموزي شديد .
داخل السيارة المكيَّفة تنفس الصعداء . وقد تقاسم المقعد مع إبنه الصغير ، وكان ثالثهم (مسواگ) العيد المتواضع الذي لم يفارق يدَهُ . كان الرجل الذي دعوتُه لمصاحبتي ، أوْ لكي أُصاحبه ، هو الكاتب زهير أحمد القيسي .
وحين أطبقت عليه سيارة (أللاّندكروز) ، أوْ حين أطبق عليها ، إرتاح القيسي ، حسبما لاحظتُ ، فقد حقق حلماً صغيراً ، لكنه كبير بحساباته : أن يصلَ دارَه دون إنتظار مصحوب بالحر .
وبعد استراحة ، تلمس فيها مشتريات العيد البسيطة ، واطمأن عليها ، حتى بادرتُه بسؤال عن دوافع مقالٍ كتَبهُ آنذاك ، قال فيه : (سأنقطع عن صنعة القلم ، وسأمزق مؤلفاتي ، وأبيع كتبي لعطًار في السوق ، وسأبحث عن عمل أعتاش فيه في الشورجة) . وفات القيسي أن ليس من السهولة أن يحصل على مكان أو فرصة عمل في
الشورجة ، إذ أن مكان (متر مربع) لبائع رصيف ، يحتاج الى (خلو) بآلاف الدولارات ! .
لم اكن ادري ، انني بسؤالي عن خلفيات هذا القرار ، سأضغط على جرح نازف . وها هو نزيف الشكوى المعززة بالحقائق المرة ، يتدفق ساخناً سخونة يوم تموزي عراقي . قال ، بألم مصحوب بدمعة انحدرتْ لِتخضِّب لحيتَهُ : ماذا أفعل ، لي سبعة من الاولاد الذكور ، وأم وزوجة . علي أن أُهيئ (36) وجبة طعام يومياً ، وتقاعدي (150) ديناراً .
واصطدمتْ عيني بعينه ، وهو يقول : نسي الشعراءُ أنني شاعر ، ونسي الروائيون أنني روائي ، وتجاهلني كتاب التراث واللغويون . ولم يدري القيسي ، وهو يستدر الذكريات والوقائع المرة عن حياته في الماضي والحاضر ، أنني – كصحفي – أطبقتُ على صيد ثمين .. .
أمام داره ترجل ، تاركاً مقعداً خالياً ، إلاّ من تساؤلات مشروعة : لماذا هذا النسيان ، أو التناسي . وحين قرأتُ نعيه في الصحف ، تأكدتُ أن القيسي إنقطع عن (صنعة القلم) نهائياً ، لقد غادرنا بصحبة الزائر الاخير .