18 ديسمبر، 2024 6:45 م

وأنا مع صديق مقرب لي نسير إلى إحدى المطاعم الشعبية بظاهرها والفخمة بأكلاتها لتناول الغذاء. على بعد ما يقارب 100 متر من المطعم صادفنا ولداً بحدود العاشرة من عمره يجلس على قارعة الطريق. يفترش الأرض بقماش صغير يبع عليها مناديل ورقية وأقلام وأشياء بسيطة أخرى وبيده هاتف صغير بسيط من الموديلات الأولى (الصرصر).
أنا وصديقي تأثرنا للغاية لحاله وهو يجلس في هذا الحر الشديد يبيع أشياءً حتى وإن ربح منها، فكم سيكون ربحه هذا؟ لكنه بالتأكيد له مأساة يعانيها اكبر مما نتخيل ما يجبره على تحمل كل هذا المشاق. اقترح صديقي أن نأتي له بطعام من المطعم الذي نحن نقصده. وأنا اقترحت بأن نأخذه معنا إلى المطعم ليأكل معنا وأن يطلب ما يريد في جو أخف حرارة من لهيب الشارع.
دنونا منه وتحدثنا إليه وعرضنا عليه رغبتنا في أن يأكل معناً في المطعم. تردد في البدء إلاّ أن الحاح صديقي جعله يتبعنا إلى المطعم. جلس على طاولة بجانبنا والمسافة قريبة بيننا. نادينا العامل ليسأل الطفل عن الذي يريد تناوله، إلاّ أنّ الطفل هذا لا يعرف ما يطلب وهو خجل جداً وينظر إلينا بإستحياء شديد واضح على وجنتيه. تردده هذا جعلنا نطلب له ما طلبنا لأنفسنا تماماً دون نقصان.
جاء الطعام وقد تناول هذا الطفل أيضاً إلاّ أنه لم يكمل كل الطعام الذي كان زائداً على معدته الصغيرة. طلبنا منه إكمال الطعام، فقال أنه قد اكتفى وقد شبع تماماً وشكرنا على هذا. ونحن نشرب الشاي رنّ هاتفه الصغير وإذا هو يتحدث مع أمه والتي يبدو أنها تسأله فيما إذا كان قد أكل شيئاً أم لا. الولد أجاب أمه ليقول لها (أي يوم أكلت لفة فـلافــل).
استغربنا نحن الاثنين.. فبعد كل هذا الأكل الدسم يقول لقد أكلت لفة فلافل. كيف له أن يكذب وينكر الجميل؟ أنه أمر ناكر للمعروف.
سارع صديقي وسأله، لماذا لم تخبر أمك بما أكلت وقلت لها إنك قد أكلت لفة فلافل؟
هذا الصغير لم يرد على التساؤل سوى بابتسامة خفيفة كأنها مصطنعة ونهض بعد أن أكمل شرب الشاي واقترب منا قائلاً (الله يزيدكم عمي) ويبتعد بعد ذلك خارجاً من المطعم إلى محل عمله.

تذمر صديقي الذي امتعض مما قاله الولد الصغير وشــقّ عليه الأمر. قمنا لندفع الحساب وللحق أقول أن صاحب المطعم رفض أن يأخذ حساب الولد لكي يساهم في الخير إلاّ أننا أبينا إلاّ الدفع.
ونحن خارجون من المطعم مررنا بالولد الذي كان يجلس في نفس مكانه. أصّر صديقي ليسأله عن سبب ما قاله لأمه. اقترب وسأله، لماذا قلت لأمك أنك أكلت الفلافل هذا كذب وهذا عيب. عليك أن لا تكذب وخاصة على أمك.
الولد الصغير اضطر الدفاع عن نفسه قال أنا لا أكذب.. إلاّ أن عائلتي في حالة صعبة ولا نملك ما نأكل حتى إننا لا نأكل أحياناً. فإذا قلت لأمي أنني أكلت اللحم المشوي مع الخبز الحار وهذا الرز واللبن الطري فإن نفسها سوف تشتهي ذلك ونحن ليس بمقدورنا شراء اللحم. لهذا فضلت أن لا تشتهي أمي وأختي التي قد تسمعني وأنا أتحدث إليها. فضلت أن أقول لها أنني أكلت الفلافل كعادتي كل يوم.. ليس إلاّ.
جواب كالصاعقة لي ولصديقي.. لم نتمالك أنفسنا.. لا ندري ما نقول. ضم صديقي هذا الصبي على صدره وقبله وبدأت عيناه تدمع. ابتعدنا من المكان وكأننا نريد الهروب من هذا الولد. نحن لا ننظر في أعين بعضنا خجلاً من اتهامنا له بالكذب دون تقدير الموقف. كان الوضع أصعب من أن أصوره في مقال قصير كهذا وبضعفي في التعبير، أننا ركبنا سيارتنا وما زلنا لا نتحدث لهول ما سمعنا وبقينا نلازم الصمت المطبق.
عندها تذكرت كل الأخوة الذين ينشرون صور ما يأكلون ويتباهون بمأكلهم ومشربهم أمام الملأ، دون مراعاة من لا يملك رغيفاً يسد به رمقه. ولا حول ولا قوة الا بالله.