19 ديسمبر، 2024 3:30 ص

1 – ساشا
كلُّ شيء في هذا البلد الطيّب يستفزّني على أن أكتب .
هذه المرّة نحنُ في مستشفى داندريد / قسم القلب / حيث يرقد مرضى جلّهم من كبار السنّ .  لكنّ القلوب لا تتحرّش بهم وحدهم ، فسُمّيت قلوباً لتقلبها .. لذا لا يسلم منها حتى الشباب والأطفال .
ما يحدثُ في عالمنا من مفاجآت علمية ، سياسية ، لا عقلانية ، لا انسانية هو فوق طاقة الكائن النابض الصغير .  فلا غرو أن يحتجّ فيُضاعفُ نبضاته أو يهدأ يائساً ثمّ يثور ويصمت .
كنتُ هنا في الطبقة الرابعة عشرة ، نقلني المصعدُ اليها.. طالعتني وجوهٌ كثيرة .. مسرعة .. مبتسمة . واحدة ٌ منها تُثيرُ فيك أكثر من انشداه . بسماتها جديدة ، وجهها يفيض رقة ً وحنوّاً ، تقتربُ منها فتسمعُها تقول : ساشا…. فتأخذك الى حيث سريرك ، الى غرفة تستقبلُ ثلاثة مرضى : رجلين وامرأة . تأبى شفتاها أن تلتقيا . تسيرُ عدواً وكانّها تخذت من الريش حذاءً . ما كنتُ اظنّ أن غير الأم مَنْ تحنو على طفلها المريض .. ارى ساشا ترعاهم وهم في سبعينياتهم او ثمانيناتهم وكأنّهم اطفالها الصغار . تُدلّلهم .. تربت على اكتافهم . . تُحدّثهم بلغة يفهمونها . حتى العربية تُسمعنا كلمات منها وهي منفرجة الشفتين : / تعلمتُها حين كنت في القدس … قالت / . . هيأت الدواء في كأس بلاستك صغيرة ، وضعتها على الطاولة القريبة من سرير زوجي،  وهمست بالعربية : خدْ خبّة واخدة / خذ حبّة واحدة / وهي تمسحُ على رأسه .
وحين نقل لاجراء عملية صغرى له / كانت تُعدُّ قبل سنوات من العمليات الكبرى / ودّعته ساشا قائلة : بالنجاخ .
وإذْ تمشي في الممر تُحسُّ أنها توزّع صحة وعافية على المرضى .
عندئذ ٍعرفتُ أن ليس الدواء وحده ما يُشفي المريض .
يقول زوجي عنها : ليلاً تُطلُّ علينا مرّات ، لا تفتح الضوء خشية ايقاظنا ، بل تحملُ مصباحاً يدويّاً صغيراً ، وان ارادت اعطاءنا دواءً تتحدّث همساً ، بيد تضع حبة الدواء في فمي ، وباليد الأخرى تناولني الماء . ثمّ تُغادر بهدوء بعد أن تربت على كتفي أو رأسي . وحين خرجتُ من غرفة العمليات انحنت عليّ وقبلتني هامسة : الخمد لله على السلامة .
هذا الملاك الطائف بين غرف قسم القلب تمضي ساعات عملها بهذه الأريحية والمثابرة . وان كنتُ اتحدّث عنها بهذه الحماسة ، فليس معنى ذلك أنّ بقية الممرضات دون مستواها اخلاصاً ومهارة وانسانية . لكنّ ساشا شيْ آخرُ تبرعت بغسل زوجي في حمام غرفته قبل اجراء العملية . الا أنّه خجلَ فتبرّع ابني في مساعدته . قال : لا أدري لم احسستُ أنّها تعاملني بهذه الرقة ؟ الكونها تُتقن كلمات من العربية ، ام لأنّ واجبها يُملي عليها ذلك . هنا في السويد كونٌ آخرُ تتقدّمُ فيه العلاقاتُ البشرية على سواها في عالمنا المشرقي . ويُواصل كلامه : وان انسَ لا انسى ساشا التي هرعت من مسافة بعيدة وامسكتْ بي قبل أن اتهاوى أرضاً بسبب دوخة عرتني فجأة . لقد سمعتْ صفير الشاشة المعلقة على الجدار ، والمتصلة بجهاز احمله معي مربوط بصدري خلل عدد من الاسلاك . مدّت ذراعيها واحاطتني وانهضتني من كبوتي ، وضمتني اليها حتى اوصلتني الى فراشي .
ساشا سويدية من اصل هولندي ، تعلمت بعض العبارات والكلمات العربية .
هي انسانٌ تؤدي عملها وفق معايير انسانية . وليس لديها مشكلة ان كان اسم زوجي احمد َاو كان من اصل عراقي . هو مريض وحسب . وساشا تحبّ وتحترم كلّ مرضاها …

2- العاشق                                                                           

لا أدري لمَ أطلقتُ عليه هذا الاسم .. منذُ أن جاءوا به اليّ نطقتُ باسمه / تيتون / .. شعرٌ أسودُ لامعٌ ، عينان بلون عشب الربيع .  مكتنزٌ ، أليفٌ ، تلقيتُه منهم .. أجلستُه في حضني امسّدُ رأسَه وهو يُحرّكه بانتشاء . اعاد اليّ طفولتي حين كانت لي عائلة ٌ من القطط . الصغارُ يكبرون ، الفتهم فلم يُمكنني فراقهم . يكبرون ، فيختارون حياتهم . يتنقلون بين البيوت والدروب . حينذاك لا تكون لي سطوة ٌ عليهم .. يزورني بعضُهم اداعبهم فيتقلبون فرحاً ، اطعمهم ، يمسحون وجوههم ويُغادرون .  تيتون اليومَ أعاد لي أيامي قبل عشرات السنين .
اكثر من اسبوع ظلّ يتطلعُ الى أجواء بيتي . يأكلُ وينامُ ، أظنّه يودُّ أن يحلم بأهله الذين غادروا البلد وتركوه .  لم اهمله قطُّ ، كنتُ اداعبه واتحدّثُ اليه . ا ُكثرُ من التلفظ باسمه حتي اوشك أن يعرفه .. وهو نائمٌ في سلته . اناديه : تيتون ، فيفتحُ بكسل عينه . ينقضي شهرٌ وهو يتقرّبُ اليّ .. مرّة ً وأنا جالسة ٌ على المقعد مندمجة ً بما يعرضه التلفازُ . واذْ به يقفزُ الى حضني .  حين يعنُّ له أن يخرج الى الحديقة ، يذهبُ الى الباب ويظلُّ واقفاً ، اسمعُ مواءه فأفهمُ ما يُريد .  افتحُ الباب فيركض، ينبطحُ على العشب ، يتقلبُ عليه ، ثمّ ينهضُ مُتجوّلاً حتى أراه راغباً في اغفاءة ، حيثُ الشمسُ الشحيحة تزورنا ذلك اليوم .  انظرُ اليه من النافذة ، اتفقده كأني اراقبُ ابني ، يفتحُ عينيه حين يُحسُّ أن احداً يمرُّ بقربه .  ثمّ يُعاودُ النوم .  وقورٌ لا يُزعج ، ولا يطولُ نومُه .. أراه ينفضُ عن رأسه ما علق به ، ويأخذ جولته بين الشجيرات ، يصعدُ الدرجات الأربعة حيثُ باب ُ البيت .  اسمعُ مواء ً ناعماً يوصلُ اليّ رسالة ان اسمحي لي بالدخول . مشتاقاً يدورُ حولي فامسحُ على رأسه . احسُّ نشوته . فاطيل الحركة ذي وهو يُديرُ رأسه بانحرافات يميناً ويساراً . آخذه في حضني فيسكتينُ … لحظات ويقفزُ نحو إناء طعامه  . يُصغي الى الحركة والأصوات ، يقفز الى النافذة ، يتأملُ اناساً لم يرهم قبلاً . ينقلون اغراضاً من شاحنة كبيرة . يُطيلُ النظر ..تختفي الشاخنة فيغادرُ مكانه ليدور حولي . وعلمنا أن عائلة سكنت جنب بيتنا .
ذات صباح لم يأتني تيتون كعادته الى حيث اهيء الفطور واملأ صحنه بطعامه . ناديتُه فلم يظهر ، خشيتُ من أنّ مكروها المّ به . ذا هو قرب الباب وقد شنّف اذنيه كما لو يُصغي الى حديث ، طالَ مكثُه ، يئس حين لم يسمع ِ الصوتَ ثانية . جاء اليّ وظلّ يدورُ حولي ويرفعُ راسه ، كأنّ مواءه يسألني عن مصدر الصوت الذي سمعه .  احتضنته ومسّدتُ على رأسه فأوشك أن يغفو . تذكّر طعامه فنزل اليه . 
ما زالت البراعم في الحديقة الواسعة خلف بيتنا تختبيء . تُخفي رؤوسها .. الربيعُ مُدللٌ لن يُطالعنا الا بعد أن يرى شوقنا اليه . لا يعبأ بانتظارنا الطويل . 
حملتُ تيتون وخرجتُ ، الأشجارُ دائمة الخضرة تملأ الأفق أملاً . جلستُ وإياه على مصطبة بين شجرتين . أيشمُّ تيتون رائحة الانثى ، فتح عينه ، قفز نحوها تنامُ وحدها ، رأيتها تنبطحُ على ظهرها تُداعبُ قدميها ، كأنّهما كان على موعد ، مواءٌ هاديء يصل سمعي في تلك الحديقة الوسيعة .
لم ينسَ تيتون يوماً موعده ، يمضيان اكثر من ساعة بين الأشجار ، انظر اليهما من النافذة والفرح يغمرني . الحياة ُ تمنحنا رفقة نحلم بها دائماً .. تيتون يعود الى البيت سعيداً ، يقفز الى حضني ، يُداعبني اكثر ممّا كان يفعله قبلاً .
ذات مساء رأيتُ حقائب سفرهم تنزلُ الى سيارتهم ، تُرى هل سيصطحبون قطتهم معهم ؟ لعلهم اودعوها عند قريب لهم .. لم تكن العلاقة بيننا قد توطدت حتى يودعونها عندي . فكرتُ بتيتون وبرفيقته . ما وسيلته الى الاتصال بها ؟
هذا الصباح وقف يموءُ : أن افتحي لي الباب .. فتحته فاسرع الى الحديقة ، يحدوه شوقٌ ولهفة .. مسكينٌ انت يا تيتون ، لا تدري ان صديقتك قد غادرتك من دون وداع . انظر اليه من النافذة ، تركتُ عملي في المطبخ وظللتُ ارقبه ، وفي نفسي غصّة ٌ عليه .. اراه يتلفتُ ، يُغادرُ مكانه باحثاً .. اصغي الى موائه الحزين كما لو كان يبكي .  كان يشمُّ العشب حيث كانا يلعبان ، ثم خمد في مكانه . عيناه تمسحان ارجاء الحديقة ، ثم غادرمكانه وظلّ يدور فيها . حتى رأيتُه ينفض عنه العشب العالق بجسمه ثمّ يعود اليّ . وقبل ان افتح له الباب وقف امام بيتهم يموء ويموء ثمّ دخل من دون ان يحفل بي ..

أحدث المقالات

أحدث المقالات