23 ديسمبر، 2024 10:19 ص

صورة كردستان القاتمة بعد الاستفتاء!

صورة كردستان القاتمة بعد الاستفتاء!

بعد يوم واحد من استعادة القوات العراقية التابعة للحكومة الاتحادية سيطرتها على مدينة كركوك ومناطق أخرى تابعة لها، وجه رئيس اقليم كردستان المنتهية ولايته مسعود البارزاني، رسالة الى الشعب الكردي، حملت بين طياتها وثناياها الكثير من الإحباط واليأس، واشتملت على اتهامات واضحة وصريحة لقوى وشخصيات كردية بالخيانة، وانطوت على اشارات يأس من امكانية الوصول الى ما كان يخطط له من وراء الاستفتاء الذي أجري في الخامس والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر الماضي.

بعبارة اخرى، رسمت رسالة البارزاني صورة قاتمة وسوداوية للوضع الكردي بعد السادس عشر من تشرين الاول/ اكتوبر الجاري.

لا شك ان رئيس الاقليم وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، اراد ان يعطي للاكراد جرعة امل بالغد في خضم اجواء الاحباط والتخبط والاستياء والقلق، بيد انه ـ وبدون ان يشعرـ قال لهم بصورة ضمنية “ما هو قادم سوف يكون أسوأ”، وبالفعل فإن الواقع كذلك، إلا إذا أعاد أصحاب القرار الكردي حساباتهم وقراءاتهم، وتعاملوا بواقعية مع مجريات الأمور، حتى يضعوا حدًّا للتداعيات السلبية على الشعب الكردي، ويعيدوا ترتيب اوراقهم مع الحكومة الاتحادية والمحيط الاقليمي والمجتمع الدولي بطريقة تتيح لهم تعويض بعضا مما فقده الاكراد ـ ماديا ومعنويا.

ولعل الصورة القاتمة للوضع الكردي الراهن تتجلى بمظاهر متعددة، سياسية واقتصادية ومجتمعية.

واذا كان الاستفتاء الكردي قد اوجد اختلافات وتباين في المواقف والتوجهات بين الفرقاء الاكراد، من دون ان تصل تلك الاختلافات الى درجة الصدام، فأن ما يمكن ان نسميه “ازمة كركوك” افضت الى حالة من التشظي والانقسام السياسي الحاد، ليس بين الكيانات السياسية الرئيسية فحسب، بل في داخل كل منها، وبلغت اتهامات التخوين مستوى خطير، اعاد الى الذاكرة احداث ووقائع الصدام الدموي المسلح بين حزبي البارزاني والطالباني، في منتصف تسعينيات القرن الماضي.

فحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي عاني الكثير من التخبط والفوضى والاضطراب خلال الأعوام الخمسة الماضية، انفرط عقده بالكامل بعد رحيل زعيمه جلال الطالباني، ليتحول الى فريقين احدهما وجه بوصلته نحو بغداد، ليجنب الاكراد حربا أخرى لا جدوى منها، وفريق آخر راح يتقرب ويقترب من البارزاني، ناهيك عن حركة التغيير(كوران)، والكتلة الجديدة التي شكلها القيادي المنشق عن الاتحاد برهم صالح المسماة بـ”التحالف من اجل الديمقراطية والعدالة”.

وكان واضحا، ان الفريق الساعي لتجنب الحرب، بزعامة هيرو احمد عقيلة الرئيس الراحل، ونجله بافيل، ومعهما نجلي شقيق الطالباني، لاهور شيخ جنكي رئيس وكالة الحماية والمعلومات في الاقليم، واراس شيخ جنكي، السكرتير الشخصي للرئيس الراحل، هو الاكثر تأثيرا وعقلانية واتزانا وواقعية.

وفي الجانب الاخر، أي في الحزب الديمقراطي الكردستاني، تتوالى التسريبات، عن تأزم كبير بين مستشار أمن الاقليم مسرور البارزاني، وابن عمه رئيس حكومة الاقليم نيجرفان البارزاني، فبينما كان الاخير يسعى جاهدا الى الاذعان للارادات الاقليمية والدولية وتأجيل الاستفتاء، وبالتالي تجنيب الاقليم مشاكل وازمات هو في غنى عنها، كان الاول، من اكثر المتحمسين لاجراء الاستفتاء بعد والده رئيس الاقليم، وقد تفاقمت الخلافات والتقاطعات بين مسرور ونيجرفان بعد “ازمة كركوك”، وتصاعد الصيحات المطالبة، بتنحي البارزاني، وبتشكيل حكومة انقاذ وطني في الاقليم تمهيدا لاجراء انتخابات عامة تحت إشراف عراقي ودولي.

وعلى عكس اجواء الانتصار التي غالبا ما تذوب فيها الخلافات، وتنحسر خلالها التقاطعات، فانه في ظل اجواء الهزيمة والانكسار، تتصاعد حدة الاتهامات، وتحتدم المشاكل والازمات، ولا يبدو في الافق ما يشير الى ان المناخات السياسية في الاقليم تتجه، في المدى المنظور، نحو التهدئة والحوار.

وما يعمق المشاكل والازمات، ويوسع الهوة بين الفرقاء، هو الاختلاف الحاد في التعاطي مع الاطراف المعنية، وتحديدا بغداد وانقرة وطهران، اذ ان هناك فريقا منفتحا على الحوار، ويبحث عن حلول ومعالجات واقعية، يقابله فريق اخر، غير مستعد حتى الان لتقبل ما حصل والتعامل معه بحكمة وعقلانية.

وفي خضم ذلك، فإن الضغوطات تتزايد على الشعب الكردي، لاسيما الاقتصادية منها، جراء تراجع الحركة الاقتصادية الى حد كبير في الإقليم، بعد الاجراءات التي اتخذتها بغداد والدول المجاورة بحق كردستان، نتيجة اصرار القيادة الكردية على اجراء الاستفتاء، والتي افضت الى ارتفاع حاد في اسعار السلع والبضائع، وانخفاض مستوى السيولة النقدية، في ظل تلكؤ وتأخر توزيع رواتب موظفي ومتقاعدي الاقليم الذين يتجاوز عددهم المليون.

ولعل واقع الارقام يؤشر بوضوح الى ان الاكراد فقدوا خلال اسابيع قليلة، مساحات واسعة كانوا يحكمون سيطرتهم عليها في كركوك ومدن اخرى، يطلق عليها المناطق المتنازع عليها، وهي تحتوي على عدد كبير من الابار والمنشات النفطية التي توفر موارر مالية ضخمة، وفقدوا كل اوراق الضغط والتفاوض مع بغداد، وفقدوا فرصة التعامل مع المكونات الاخرى، ككتلة سياسية واحدة متماسكة، تحمل رؤية موحدة وموقف منسجم، وفقدوا دعماً مادياً ومعنوياً وسياسياً غير قليل من اصدقاء وحلفاء اقليميين ودوليين.

ويخطئ من يعتقد ان الخاسر الاكبر هم دعاة الاستفتاء والانفصال، بل الخسارات لحقت بالجميع، وحتى الحكومة الاتحادية. كما أن المكونات السياسية المختلفة في العراق، ليس في مصلحتها ان يسود التشرذم والتفكك والانقسام بين شركائهم الاكراد، وتعم الفوضى والاضطراب في الاقليم، لان ذلك يبدد فرص وامكانيات تحقيق الاستقرار السياسي والمجتمعي الحقيقي في البلاد.

وربما تشهد صورة الواقع الكردي، الذي يحتاج الى وقت طويل ليستعيد الهدوء والاستقرار، تعطيل اجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في الاول من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وربما تشهد تصاعد المطالب بتنحي البارزاني ـ وربما محاكمته ـ وقد تشهد غياب وانحسار تأثير وحضور شخصيات سياسية مخضرمة، لاسيما في الاتحاد الوطني الكردستاني، مثل كوسرت رسول علي، وملا بختيار، وتزايد حضور وتأثير عناصر شبابية معتدلة، مثل بافيل الطالباني، وقد نشهد عودة خيار الادارتين للاقليم في اربيل والسليمانية، من دون استبعاد خيار اخراج السيوف من اغمادها بين الاخوة الاعداء!.