18 ديسمبر، 2024 7:18 م

صناع الدكتاتور في كردستان

صناع الدكتاتور في كردستان

ذات يوم من عام 1997 اجتمع الزعيم الراحل مام جلال برئيس وأعضاء المكتب الاعلامي لحزبه الاتحاد الوطني الكردستاني . وحين ذهبنا إليه كان يحمل بيده نسخة من جريدة ( كوردستانى نوى ) لسان حال حزبه . وبدأ كلامه بإعراب امتعاضه من كثرة صوره الشخصية المنشورة في عدد ذلك اليوم وقال ساخرا ” ما هذا ؟ مام جلال مسلوقا ومقليا ومطبوخا “!. في اشارة منه إلى الصور الثلاث التي نشرت في العدد المذكور . وأوصى مكتبه الاعلام بالامتناع عن نشر صوره في الجريدة ما عدا الملحقة بالأخبار السياسية وفي الحدود الدنيا . ورغم أنه كان من أعظم الزعماء السياسيين الكرد كرس جل حياته في خدمة قضية شعبه ، لكنه لم يسمح أبدا لأي شاعر كردي أن ينظم قصيدة مدح وثناء بحقه ولا لأي مطرب أن يتغنى به تمجيدا وتعظيما . بل أنه لم يتحرج بجلالة قدره وهو رئيس الجمهورية أن يروي النكات التي تطلق بحقه في المجالس .

أرسل لي صديق مقطع فيديو لأغنية جديدة سجلها أحد المطربين الخليجيين بعنوان ( كردي أنا ) . وغمرتني الفرحة وأنا أقرأ العنوان فسارعت إلى فتح الفيديو للاستمتاع بكلمات الأغنية التي انطلقت موسيقاها مع صور من مناظر خلابة تصور طبيعة كردستان . ولكن حين وصلت إلى المقطع الثالث والأخير وجدت كلماتها تتغنى برئيس حكومة الاقليم ونجله وينتهي بتمجيد رئيس الاقليم السابق مسعود البارزاني .

تذكرت وأنا أستمع إلى الأغنية تلك الأناشيد التي غزت أسماع العراقيين في التلفزيونات والاذاعات ابان حكم الدكتاتور الطاغية صدام حسين منذ توليه السلطة في العراق ، فشعرت بحزن عميق لا لأن هذا المطرب الخليجي يتنكر لانتمائه العروبي ويعتبر نفسه كرديا حسب عنوان الأغنية ، بل لأنه يتزلف لأقطاب نظام فاسد حد النخاع أوصل حال شعبه إلى الدرك الأسفل بسبب غروره وعنجهيته وسلطته القمعية لكل أنواع الحريات العامة والفردية حيث تحولت كردستان في ظل هذا النظام القبلي إلى جحيم لا يطاق يغادره مئات الآلاف من شبابها هربا من ظلم وطغيان السلطة.

قد لا ألوم أولئك المتزلفين وماسحي الأكتاف من أشباه المطربين الذين يدبجون القصائد والأغاني تمجد رؤوس هذا النظام الفاسد ، لأنهم حفنة من الساقطين اللاهثين وراء السحت الحرام ، ومنهم من يسمون أنفسهم ( فرقة الانشاد العالمي ) الذين قلدوا فناني صدام المقبور بتأليف أغنية بعنوان ( صگر الزلم ) لتمجيد مسعود البارزاني على غرار أنشودة ( صگر البيدة ) التي أطلقت في الثمانينات لتمجيد صدام حسين . بل أنهم يرددون أغاني لتمجيد أطفال البارزانيين أيضا ! ولكني ألوم مطربا كبيرا خليجيا ليس بحاجة بالتأكيد لا إلى هدية ولا إلى الأموال المسروقة من أفواه أطفال كردستان لقاء تلك الأغنية السمجة التي تعظم رجال أقل ما يقال عنهم أنهم رؤوس الفساد في كردستان .

كان صدام يدفع للكتاب والفنانين والفنانات العرب الممجدين له ولسلطته كوبونات نفطية في عز الحصار الاقتصادي الخانق المفروض على العراق في تسعينات القرن الماضي في وقت كان شعبه يئن من الجوع ، واليوم يشبه حال كردستان أحوال البلاد في تلك الفترة حيث توقفت صادرات النفط ولم تعد الحكومة تملك أموالا حتى لدفع رواتب موظفيها ماعدا الضرائب الضخمة التي فرضتها على المواطنين ، ويبدو أن ايرادات هذه الضرائب القسرية تدفع لشراء مرتزقة أفاقين على حساب حاجة وجوع الشعب الكردستاني .

لقد قلت مرارا وتكرارا أن الدكتاتور لا يصنع من ذاته ولا من خلايا متوارثة ، بل أن من يصنع الدكتاتور هم هؤلاء الطبالين والزمارين وماسحي الأكتاف من المرتزقة والطفيليين ، ومن العيب أن ينحدر مطرب خليجي كبير إلى هذا المستوى الواطيء ، والعبرة لمن يعتبر . والسلام على من أتبع الهدى .