يعيش عالمنا اليوم سيلا جارفا من المشكلات والأزمات على جميع الأصعدة، جعلت من الحياة الإنسانية أكثر تعقيداً خاصة وسط تطور أساليب التكنولوجيا.
وقد تحولت الثقافة في الحياة الى ترسخ عميق في التعايش مع الازمات وافرازاتها، مما تسبب بتضخم الازمات وتغولها وتحولها مستنقعا لليأس والبؤس. وذلك بسبب الاستغراق التام في الانانيات والأيديولوجيات والتعصب والانحياز الاعمى والانشطارات والصراعات وغياب التعاون التام الذي يقود باستمرار نحو الكوارث الكبرى.
فلماذا لا يقوم العقلاء والمفكرون والعلماء والمثقفون وأصحاب القرار بالاستدارة نحو التعايش مع الحلول والبحث عن آفاق للتغيير الإيجابي القائم على الثقة والتعاون، أي ان يتحول التعايش مع الحلول الى استراتيجية مستدامة.
لمجرد أن نصطدم بالأزمات والمشاكل، في محيطنا الصغير (العائلة)، أو الكبير (المجتمع)، او على صعيد العمل او المجتمع، بل حتى على صعيد النظام السياسي، حتى نلجأ فوراً الى الحل او قارب النجاة الذي يوصلنا الى بر الأمان، وهي مسألة تبدو طبيعية وفطرية لا غبار عليها، بيد أن المشكلة في مدى نجاح الحلول المطروحة، وهل تكون بالفعل طريقاً الى النجاة والاستقرار؟ أم تكون لها نتائج عكسية عندما تكون غير مدروسة ولا واقعية، إنما المهم لدى البعض المحاولة لتحقيق الأدنى من الحلول وإن كانت ترقيعية..! بينما الرؤية العلمية تشير الى دراسات وابحاث وتجارب تسير على درب طويل يؤدي الى النجاة والاستقرار وما يطمح اليه الانسان في البناء والإصلاح والتقدم، لكنه بحاجة الى التروي، وكل ذلك يصبّ في فنّ الإدارة، وتحديداً إدارة الازمات والمشاكل..
جميعنا يعرف طبيعة المجتمع الذي عاش فيه الرسول الأكرم، صلى الله عليه واله، وهو يصدح بالرسالة السماوية السمحاء التي تعطي أكثر مما تأخذ للإنسانية، بالمقابل كان هنالك الجهل والكفر والنفاق والظلم وحزمة من العادات والتقاليد السيئة. فما كان رد فعل النبي إزاء أزمة انسانية واخلاقية وعقائدية في المجتمع العربي آنذاك…؟
تقول المصادر التاريخية وكتب السير أن النبي الأكرم، كان يستثمر موسم اجتماع الناس عند بيت الله الحرام لعرض رسالته عليهم، فكان يطلب من الناس الحديث إليهم وعرض رسالته بما تحمل من قيم ومبادئ تصب كلها في مصلحة الانسان، أنه بهذه الطريقة تعرف عليه “الخزرج” قبل الهجرة الى المدينة، وربما كانت النبتة الصالحة والمباركة لأن يهتدوا الى الطريق وينهوا صراعاً دموياً مع قبيلة “الأوس” دامت سنين طوال.
هذا فضلاً عما لاقاه النبي من سوء التعامل من المجتمع المكّي، وبدرجة أقل المجتمع المدني، فأنه في كل الاحوال والظروف كان ملتزماً مبدأ المداراة والمسايرة لتحقيق الهدف والغاية الأسمى.
ان منطقة الشرق الأوسط، ودول مثل العراق ومصر وسوريا ولبنان خاصة وغيرها من البلاد الاسلامية تعجّ بالأزمات الخانقة مما يجعل الجميع في حالة استغاثة مريرة لإيجاد الحل السريع على شكل حبل انقاذ من الهلاك والضياع. بيد ان في الوقت ذاته تقع المسؤولية على النخبة المثقفة والمسؤولين الحكوميين في الدولة لأن يتدبروا الامر ويفكروا في ادارة الازمة ومداراتها الى جانب وضع الحلول والمخارج السريعة لتكون النتيجة أضمن للنجاح على المدى البعيد.
لقد اسست الأنظمة المستبدة ومن قبلها الدول الاستعمارية في العراق نظامها معتمدة على نظرية (صناعة الازمات) فلم يمر يوم على العراقيين الا وتواجههم ازمة من نوع ما، فتارة ازمة زراعية أو أزمة الطاقة مثل الكهرباء او البنزين والنفط او أزمات المياه او السكن، والكثير على الصعيد المعيشي. اما على الصعيد الاجتماعي فاليوم ازمة الحنطة المسمومة وغدا ابو طبر، وغيرها الكثير، اما على الصعيد السياسي فلم يمر يوم الا ويسمع العراقيون عن نبأ الكشف عن مؤامرة ضد العراق حاكتها قوى خارجية، كأن تكون ايران مرة او الغرب واسرائيل مرة اخرى، وهكذا، اما سياسة الحروب العبثية التي ورط الطاغية بها العراق فحدث عنها ولا حرج، فلا زالت ذاكرة العراقيين عالقة بالحرب في شمال العراق ضد الشعب الكردي او الجنوب ضد الشيعة، ثم تبعتها الحرب مع ايران واخيرا حرب احتلال الكويت التي انتهت بغزو العراق من قبل الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها.
سياسيا، كان نظام صدام حسين يفتعل الازمات مع الاحزاب السياسية ومع المرجعيات ومع التجار وغيرهم وبالتناوب، بطريقة يغطي فيها كل سنوات العقد الواحد من حكمه. ولقد كان النظام يحتفظ بمجموعة من الدهاة لهذا الغرض تسمى بمجموعة (خلية الازمة) مسؤولة عن تقديم النصح والمشورة والخطط للطاغية بما يخص صناعة الازمات عند الحاجة ليتناسب حجم الازمة في كل مرة مع حجم الخطر الذي يهدد عرشه وسلطته، ان كانت في زمن السلم او في زمن الحرب.
انها الاستراتيجية القائمة على نظرية صناعة الازمات، التي يتصور من يتبناها من الزعماء بانها الطريقة المناسبة لإلهاء الشعب عن التفكير بمصيره وواقعه ومستقبله، وبالتالي فهي تحول دون ان يفكر بإحداث اي تغيير ومن اي نوع كان.
وعندما سقط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003، ظن العراقيون بان استراتيجية (صناعة الازمات) قد انتهت بانتهاء الحكم الشمولي وولت والى الابد ومن غير رجعة، فلم يعد من بين الزعماء الجدد الذين ورثوا السلطة بعد الطاغية، من يفكر بهذه الصناعة، بعد ان اثبتت فشلها وعدم قدرتها على حماية لا الزعيم الاوحد ولا النظام الديكتاتوري الشمولي ولا البلاد ولا العباد، فهي صناعة فاشلة بامتياز، قد تنفع الزعيم اذا لجأ اليها ووظفها في حل بعض مشاكله الداخلية او مع شركائه في العملية السياسية، مرة او مرتين، الا انها لا يمكن ان تنجح في كل مرة، فهي ربما تنجح في حل ازمته الشخصية اذا وظفها كتكتيك اما اذا تحولت الى استراتيجية فهي لا تنفع ابدا.
هذا ما كان العراقيون يتصورونه وهم يدخلون ببلدهم في عملية سياسية جديدة، يفترض ان تقوم على الوضوح والشفافية والمصلحة العليا للبلاد، شعارها الانجاز والنجاح الذي يتحدد من خلال راي الشارع الذي يدلي بصوته في كل مرة في صندوق الاقتراع. الا ان ما يؤسف له حقا هو انه لا زال هناك من بين جمع الزعماء الحاليين من لا يقدر على ان يعيش الا في ظل الازمات، ولذلك تراه يصنع الازمة تلو الازمة، ما شل عمل مؤسسات الدولة العراقية.
إن الزعيم الناجح يبذل قصارى جهده لتطويق اية ازمة تحصل في البلاد، اما الزعيم الفاشل فيدفع ثمنا لصناعة الازمات في البلاد، لان الناجح راس ماله الانجاز، الذي لا يتحقق الا في ظل الاستقرار، اما الفاشل فرأس ماله الاستمرار في السلطة في ظل الازمات.
لماذا عجلة النظام السياسي وخصوصا في العراق مستغرقة في الأزمات….؟ ما هي الوسائل التي نحتاج تفعيلها سياسياً واجتماعياً وثقافياً لإدارة الازمات والعبور منها نحو الحل والتنمية؟
سؤال يعبر عن جوهر معضلة الدول القلقة، والمجتمعات التي تعاني من التفرقة وانتشار المشاكل الاجتماعية في مجتمعاتنا المضطربة، وقد تكون العلة الحقيقية التي تجعل هذه الدول تعشعش فيها الازمات هو ان هناك محددات داخل هذه البيئات تجعل من استمرار وجودها هو بإثارة الازمات والمشاكل على مختلف المستويات ومنه المستوى السياسي والمستوى الاجتماعي، وحتى وان وضعت حلول فهي لا تكون إلا حلولا ترقيعية وقتية، وفي حالات اخرى تكون إثارة الازمات ماهي الا تنفيس لازمة اكبر واعمق داخل الوحدة الماسكة بزمام الامر سواء كان على مستوى السلطة او المجتمع فيلجأ لإثارة الازمات للتورية عن الحالة الازموية التي يمر بها نظام الحكم يضاف إلى ذلك الأدوار التوظيفية القادمة من الخارج تحت أجندات ومخاوف تختلف من زمان إلى اخر ومن نظام إلى اخر، من هنا فاذا عرف السبب تكون النتائج متوقعة بمعنى ان اشعال الازمات وخلق أجواء الازمة لا نتوقع بعد ذلك إلا بحلول لا تختلف عن ذهنية إثارة الازمة، وهذا ما يعرف في علم السياسة الإدارة بالأزمة.
وبذلك فإن مثل هكذا جو سياسي ومجتمعي خطير من الضروري ان يواجه بثقافة مختلقة تنطلق من مراكز بحثية تضم مفكرين وباحثين ونخب من تخصصات مختلقة تحاول ان تطرح رؤى تشخيصية بعد ذلك تعرض الحلول والمعالجات، وتكون دراساتها بمثابة مختبرات يستفاد منها في معالجة الازمات وعلى مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
الحياة بحد ذاتها أزمة ووجودنا فيها هو سر وجود هذه الأزمة! لم يُخلق الإنسان في هذه الأرض لكي يكون في جنة، لأن الحياة بدون مشكلات جنة ولكن لا جنة في الأرض!.
قدرْ الأنسان أن يعيش أزماته والعبرة هو أن يخرج منتصرا متحديا لهذه الأزمات، لا أن يبقى غارقا مشلولا فيها. جعل الله تعالى الحياة اختبارا وتحديا فمن يريد أن يرضي الله ويرضي الناس والوطن والضمير عليه أن يسعى ليخرج من أزماته مبيض الوجه بالعمل الصالح والعطاء المثمر والسعي المخلص والفعل السليم.
أزمات الإنسان تقع بنوعين: أزمات ذاتية تختص بذات المرء وحيثياته وأزمات عامة مجتمعية. فالأزمات الذاتية تكون إدارتها بيد الإنسان نفسه، فهو الذي يقدر أن يخرج منها منتصرا بجهده وسعيه ومثابرته وحسن إدارته وسلامة تصرفاته وتحديه للمصاعب والمحن، فهنا ينطبق قول الله تعالى “كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ”. أما الأزمات المجتمعية من حالة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وغيرها فللفرد الواحد أثر جزئي فيها لأن الدور الأكبر والأثر الأعمق والفعل المؤثر هو بيد قادة المجتمع ومن لديهم زمام أموره.
كي لا تحصل الأزمات المجتمعية ولكي نخلق الحلول الناجعة إن حصلت هذه الأزمات، فعلى المجتمع أن يحسن اختيار قادته الذين يصلون بمجتمعهم الى شاطئ السلامة والنجاة فيكونوا أداة لحل الأزمات لا سببا في جوهر وجودها!.
1- الأزمة تعني المشكلة المعقدة، وأصعب الأزمات تلك التي تستحوذ على اهتمام الجميع، فكلما كان الاهتمام أكبر وأوسع بالأزمة، يكون الانشغال بها أكبر، ويأخذ مساحة واسعة من الشرائح المختلفة، وأكثر الأزمات استعصاءً وغموضا تلك التي تقف وراءها الحكومات والحكام الفاشلون.
وطالما أن النظام السياسي هو نتاج الطبقة السياسية وطبيعتها ومواصفاتها، فإن نوع هذا النظام من حيث الجودة والهشاشة، يتبع جودة أو هشاشة الطبقة السياسية. عجلة النظام السياسي في العراق هشة غارقة في الأنانية، فالأحزاب لا تفكر بمصلحة الشعب، ولا تعنيها قضية بناء الدولة أو تحسين الخدمات الأساسية أو دعم التعليم وتمكين الشعب من مواكبة ما يجري من تطورات هائلة في العالم.
ما يعني الطبقة السياسية في العراق مصالحها أولا، وهذا ديدن الأحزاب الفاشلة، لذلك أمر طبيعي أن يخرج منها نظام سياسي قائم على الأنانية والنفعية والصراعات المفتعلة لتأجيج الأوضاع السياسية والاقتصادية، وذلك لخلق الأزمات واحدة تلو الأخرى وإدامتها، حتى تجعل الجميع في دوامة لا تسمح بالخروج منها، ليتسنى لهذا النظام وطبقته السياسية الاستئثار بالسلطة وامتيازاتها على حساب الشعب العراقي.
2- لكي تصبح لدينا قدرة على حل الأزمات، يحتاج الأمر إلى إرادة سياسية أولا، ومنها تنطلق الحلول إلى المستويات الأخرى، فهذا الأمر ممكن رغم صعوبته، فحين تتوفر الإرادة السياسية يمكن التخطيط الفعلي الجاد لمعالجة الأزمات، وليس اختلاقها وإدامتها.
إذاً الوسيلة الأولى التخطيط لحل الأزمة على المستوى السياسي، وأمر طبيعي سوف يكون هناك تأثير للحلول والمعالجات السياسية على الاجتماع والاقتصاد، الوسيلة اللاحقة النهوض بالمجتمع ثقافيا، ومحاصرة الفتن بكل أنواعها، وإشاعة روح الثقة والتعاون بين الجميع، والكف عن التطرف والصراعات العشائرية التي أعطت صورة مؤسفة عن الشعب العراقي المعطاء العريق.
التنسيق بين النخب السياسية والاجتماعية والثقافية، أمر بالغ الأهمية في معالجة الأزمات والتصدي لها بروحية جماعية حريصة، ولعل عقد المؤتمرات والحوارات ووضع البنود والنقاط التي تشمل حلول الأزمات، من أهم الأساليب التي تساعد العراقيين على بناء أنظمة سياسية اقتصادية اجتماعية متماسكة، ولكن قبل كل شيء يجب أن تتوافر الإرادة السياسية، والتعاون والتنسيق والتخطيط النخبوي على كشف أسباب الأزمات وتجفيف منابعها بالتخطيط والتنفيذ المنظّم والجاد والمبرمج.
ان ساسة العراق ومن هم في موقع المسؤولية، يصنعون الازمات بهدف الهيمنة على المجتمع والبقاء في السلطة، اذ يعتمدون إستراتيجية الحلول طويلة المدى في ادارة الازمات التي يصنعونها والامثلة عديدة كأزمة الموازنة، ازمة الكهرباء، ازمة المحاصصة وغيرها الكثير، وهذا ما سيؤدي الى تجدد الازمات وتكاثرها، لذا سيتعين على العراقيين حل مشاكلهم لوحدهم من خلال استثمار الكفاءات وطاقة الشباب ووفرة الثروات، والسعي الى تعزيز الشراكة المجتمعية والاقتصادية والوطنية، للقضاء على اكبر تحدي وآفة عرفها العراقيون الا وهو الفساد الذي كان سببا رئيسا في ولوج البيروقراطية والهدر والإرهاب الى البلد، لذا العمل على مكافحته يمثل خطوة مهمة تعزز النزاهة الوطنية والتعايش السلمي الذي يبني المواطنة ويضمن الحقوق والحريات لجميع العراقيين.
السؤال المهم الان هو كيف يخرج المجتمع العراقي من دوامة الازمات الاستنزافية على شاكلتها السياسية والاجتماعية والثقافية، الجواب هو العمل بجهد جهيد لبناء المجتمع من خلال العمل بقيم التقدم والحد من قيم التخلف، ووضع منهجية فعالة لاستثمار التنمية المستدامة، الى جانب نبذ العنف والتطرف والقبول بالآخر واحترام الرأي والتعدد والاختلاف وما شابه، من أجل بناء دولة مؤسسات قوية تحترم القانون من لدن الجميع وأولهم كبار القوم.
لذا الخطوة القادمة يجب ان تكون رسم مسارات فكرية استراتيجية لتحرير البلد من مخلفات الفساد والعنف والمشكلات الاجتماعية بمختلف انواعها، والعمل على تعزيز قيم الدولة القوية بمشروعها الوطني والثقافي، وبحصانتها القانونية والمؤسساتية، لأنّ هذه المعركة تجسّد حقيقة الصراع ما بين قوى ما قبل الدولة وما بعدها، كما تجسد الصراع القيمي والفكري بين اتجاهين وثقافتين، تنتمي الأولى الى تاريخ أصوليات الجهل والرعب والقتل، بينما تنتمي الثانية الى ما هو إنساني وأخلاقي وتحرري.
وعليه فإن مستقبل العراق السياسي والأمني وفي المجالات الأخرى كافة، يحتاج أولاً إلى رؤية استراتيجية وتنمية مستدامة، ثم سياسات وآليات تنفيذية، وأن هذه المرحلة من تاريخ العراق تحتاج إلى جهود نهضوية استثنائية عبر الاستثمار الامثل للطاقة البشرية والموارد الطبيعية والحاجة الأهم الى مسؤولين وأصحاب قرار غير تقليديين لأننا في مرحلة غير تقليدية.
الصدمات مثل انهيار البلدان والحروب والأوبئة هي أحداث عنيفة تدفع الدول والأنظمة الاجتماعية والاقتصادات إلى اقصى الحدود من اجل قدرتها على التكيف. لكن بنفس الوقت لا يمكن التنبؤ بهذه الصدمات لذا ففي كثير من الأحيان تتحول لاحقاً إلى نعمة أو كارثة.
من هنا العراق لا تختلف ظروفه عن البلدان التي مرت بمخاض التغيير والتي أثرت على سير عجلة النظام السياسي المستغرق بالأزمات. في وقت لازال أصحاب القرار في العراق غير قادرين على فهم التفاعلات المعقدة بين السياسات المتقلبة والديمقراطيات غير المستقرة والعنف وعدم المساواة الاجتماعية والأداء الاقتصادي غير المتكافئ.
وباستمرار يتم التنبؤ بنتيجة العملية السياسية في العراق وفرص نجاحها أو فشلها. ومع ذلك، لاتزال التعقيدات والتحديات إلى جانب الصدمات غير المتوقعة للعديد من الأزمات العالمية المتزامنة تجعل من الصعب للغاية الوصول الى حل جذري.
إذ تتجلى تأثيرات المتغيرات السياسية المحلية والدولية على العراق، بهذا السياق باتت كثافة الأزمات التي يعانيها العراق على مختلف المستويات بتزايد في فضاءات هشة، ومن هنا تتطلب هذه المرحلة إعادة انتهاج استراتيجية قائمة على المنفعة عبر بناء علاقات ومصالح مشتركة وايجاد نوافذ سياسية تستثمر لمواجهة التحديات الداخلية.
أما على مستوى الاليات التي ينبغي أن تسبق الأزمات فان العالم الحديث يهتم بمفهوم الأزمة وإدارتها والعراق واحدا من البلدان التي لم تكن مستعدة للأزمة من قبل مما تأثر سلباً بسبب عدم الالتزام بالاستعداد. لذا نحن بحاجة الى جملة مهام أساسية من شأنها التخفيف من حدة الأزمات الحاصلة بحيث تضم فرق متخصصة أو أفراد يتولون مهام إدارة الأزمات يعملون في مجال التخطيط لعملية الإدارة. ولا يكتفي الأمر بذلك بل يجب أن تكون هناك دورات تدريبية لا تقتصر على المؤسسات الحكومية بل تتعدى ذلك لجميع الشرائح المجتمعية والمنظمات والجامعات حول التعامل مع الأزمات وإجراء تدريبات وعمليات الممارسة للحفاظ على إطلاع أصحاب المصلحة على الاستجابة للطوارئ للأزمات. وكذلك اعتماد مقاييس وانظمة يمكنها مراقبة أو اكتشاف إشارات الأزمات المتوقعة بشكل فعال في وقت مبكر، من أجل معالجة أي أزمة قبل أن تخرج عن نطاق السيطرة.
تعني الازمة من الناحية التاريخية التغير الجوهري او الجذري في حالة ما او توتر في العلاقات الاقتصادية او الاجتماعية او السياسية بين الدول المختلفة في العالم او بين الدولة ذاتها وكياناتها الداخلية، وأصبح مفهوم الازمة يشير الى التهديد للكيان القائم وللقيم والموارد والاهداف ذات الاهمية بل والتهديد الواضح.
اذ يرى بعض الكتاب ان مفهوم الازمة وخاصة الازمة الادارية تقود الى كوارث اذا لم يتم حلها سريعا في حين يرى فريق اخر بانها حدث ايجابي يقود الى نتائج ايجابية او تغيرات ايجابية ويرى كذلك اخرون بان الازمة خلل يهدد الكيان المادي للنظام القائم.
في عرف معجم ويبستر بانها نقطة تحول نحو الأفضل، وقاموس روندام بان الازمة هي حث يتسم بعدم التوازن وتحدث الازمات لأسباب عدة منها:
ضعف الامكانات المادية والبشرية للدولة وتجاهل الاشارات الدالة على وقوع الازمة وكذلك الادارة العشوائية للمؤسسات داخل الدولة أضف الى ذلك ضعف القيادات الادارية او القيادات الادارية غير الملائمة للمؤسسات وغياب العلاقات الداخلية داخل هذه المؤسسات وخلاف العلاقات هو التفكك والتباعد والتناحر اذ تتطلب الازمات التزام مبدا التخطيط للمستقبل وحيازة نظام فاعل وكفوء للاتصالات للتنبؤ بالأزمات قبل حدوثها…
وتختلف الازمة عن مفاهيم اخرى مثل الحدث المفاجئ وهو حالة غير متوقعة يحصل فجأة وبشكل سريع وايضا تختلف عن المشكلة: بانها حالة من التوتر وعدم الرضا وايضا عن الصدمة: كشعور مفاجئ وحاد والكارثة: من الالغام او من الكرث من الناحية اللغوية وتمر الازمات بمراحل للتطور منها:
– مرحلة البدء او الميلاد
– مرحلة النمو
– مرحلة النضج
– مرحلة الانحسار ثم التلاشي
وفيما يتعلق بحل او معالجة الازمات هناك نوعان من أساليب حل الأزمات الأول معروف متداول، ويصطلح عليه بالطرق التقليدية، والثاني عبارة عن طرق لا تزال في معظمها، قيد التجريب ويصطلح عليها بالطرق غير التقليدية، ويتم تفريغ الازمات عادة عبر مراحل عدة نذكر منها:
أ. مرحلة الصدام: أو مرحلة المواجهة العنيفة مع القوى الدافعة للأزمة لمعرفة مدى قوة الأزمة
ب. مرحلة وضع البدائل: وهنا يقوم المدير بوضع مجموعة من الأهداف البديلة لكل اتجاه
ج. مرحلة التفاوض مع أصحاب كل فرع أو بديل: أي مرحلة استقطاب وامتصاص وتكييف أصحاب كل بديل عن طريق التفاوض مع أصحاب كل فرع من خلال رؤية علمية شاملة.
وتأسيسا على ماسبق يتوجب على القيادات الادارية ضرورة الاخذ بالتخطيط الاقتصادي بل والتخطيط الشامل في مختلف الجوانب لتلافي حدوث الازمات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها وخصوصا في بلدان العالم الثالث التي تعيش حالة من التخبط الاداري والاستراتيجي ومن النقص الحاد ببناء إستراتيجية وطنية تمتلك مقومات التعامل مع الازمات وخاصة في ظل عالمنا اليوم عالم التبدلات والتغيرات السريعة والمفاجئة اذ ان هذه الدول هي دول تصريف للازمات الخارجية الدولية..
ويتوجب الاعتماد على النماذج التنبؤية القياسية والرياضية والاستفادة من تجارب الغير في ادارة الازمات اذ ان القيادة الإستراتيجية كفيلة بالإحاطة بالأزمات ووضح الحلول المناسبة لها.
تعتبر الادارة بالأزمات لأي نظام سياسي وسيلة تغطية وتمويه على المشاكل الادارية والسياسية، فنسيان مشكلة ما او تأجيل حلها يتم بصناعة ازمة أكبر واشد تأثيرا، بحيث تطغى على المشكلة القائمة، الامر الذي يبقي النظام السياسي يتعرض لمجموعة متتالية من الازمات قد تنتهي بتدميره بالكامل او تركه في حالة عجز حاد، وهذا ما فعلته الاحزاب السياسية المتنفذة في عمق الدولة العراقية بالقيام بمجموعة من الاجراءات لإدارة ملفات البلد بما يخدم مصالحها واستمرار بقاءها وزيادة نفوذها.
واهم ما يسجل على النظام السياسي العراقي هو قدرته الفائقة على انتاج الازمات وتدويرها، فضلا عن الاعتماد المستمر على العامل الخارجي في حل المعضلات التي تواجهه، ولا يمكن عزل تراكم عوامل الفشل في اداء النظام السياسي (نظام دستور ٢٠٠٥) عن الازمات التي تحدث والتي يعيشها النظام ويجر معه العراق الى خيارات احلاها مر.
وفيما يخص الفواعل الاقليمية الموجودة في العراق فإنها لا تمتلك خطة بعيدة المدى، باستثناء استخدام ادارة الازمات كأسلوب لتنفيذ استراتيجياتها الكبرى في الهيمنة والسيطرة على مجالها الإستراتيجي ولتأكيد قوتها، وفرض ارادتها على المجتمع العراقي وبسط نفوذه، بشكل لا يفقدها اصدقائها، ولتحييد اعدائها وتدمير مصالحهم، وفي الوقت ذاته تقوية تحالفاتها التقليدية.
اما المجتمع الدولي فيتعامل مع ازمات العراق على انها جزء من ملف ازمات (الشرق الاوسط) الذي ستبقى الرياح تلعب بأوراقه، وهي رياح الفوضى التي لا يزال المجتمع الدولي يتمسك بها ويجعل كل حل آخر مؤجلا..
لذا فالأزمة العراقية بحاجة الى عملية تفكيك وتركيب، واثناء مرحلة التفكيك (غير السهلة وغير المنظورة حاليا) ينبغي تطبيق القانون وتنفيذه على الجميع ومحاسبة كل مقصر، سواء من المشاركين في العملية السياسية او غيرهم، وضرورة اشراك العمل المؤسسي في المجتمع العراقي لأنه يعتبر حلقة الوصل بين المجتمع وبين الحكومات وهو يعمل على استيضاح المفردات الحكومية وايصالها للمجتمع بصورة واضحة وسلسة…
لا شك ان المتابع للعملية السياسية في العراق منذ انطلاقها عام ٢٠٠٣ والى يومنا هذا، يجدها لم تشهد استقرارا طيلة الفترة الماضية بل كان ديدنها توالد الأزمات والعبور عليها دون ايجاد الحلول المناسبة لها حتى كادت في تشرين من عام ٢٠١٩ ان تؤدي الى انفجار شعبي يطيح بالأخضر واليابس… لكن لماذا هذه الأزمات المتلاحقة؟ وما هي اسبابها؟ وكيف نتجنبها؟ او نجد الحلول المناسبة لها؟ وكيف لم ينتبه الساسة او صناع القرار ان العبور فوق الأزمات دون حلها هو خطأ إستراتيجي يضر بالجميع!!!.
لا اختلاف ان الأزمات المتوالية التي عصفت بالبلاد كانت مضرة بشكل كبير وعلى انواع، منها:
– الازمات السياسية: وطابعها الصراع والخلاف داخل البرلمان واروقة الحكومة وبين قادة الاحزاب على المصالح والمكاسب واقتسام النفوذ، وكان هذا النوع باكورة انطلاق الأزمات واخطرها لان لاعبيه كانوا وما زالوا يشكلون قمة الهرم السياسي الحاكم في العراق.
– الازمة الاجتماعية: وهذه الازمة دخيلة على المجتمع المتعايش والمتنوع في العراق منذ الاف السنين، لكنها دخلت مع المحتل الامريكي الذي طبقها على قاعدة “فرق تسد” حتى يتمكن من السيطرة على البلاد واستعباد سكانها بزرع الفتنة بين صفوفهم، وللأسف استمرت هذه الازمة الطائفية والمذهبية طيلة فترة وجود المحتل ولم تنته بخروجه بل تجذرت بعده دون علاج الى خلافات مناطقية ونزاعات عشائرية اغمضت الدولة عينها عنها ولا يستبعد تدخل ايادي خارجية معادية للعراق في تأجيجها.
– ازمة الهوية: وهذه الازمة هي الأخطر على مر تأريخ العراق المعاصر، حينما حاول المتربصون به مسخ الهوية الوطنية بإدخال تنظيم القاعدة ومن ثم داعش فكرا مشوها وتنظيما ارهابيا تكفيريا ووجودا على الارض، ورغم تجاوز هذه الازمة – المحنة بتضحيات الأبطال ودماء الشهداء، الا اننا لم نستطع ان نرمم الهوية الوطنية للفرد والولاء والانتماء للعراق لحد الان بما الحقه النظام البائد والارهاب من أضرار جسيمة لحقت بها.
– ازمة القيم: وهي الازمة التي يتنازل الفرد فيها عن قيمه الأخلاقية والدينية او يكيفها دون ضوابط وفق مصالحه واهواءه، وهذه الازمة نخرت جسد الدولة الوليدة بتحليل نهب المال العام واستشراء الفساد والسرقات في السر والعلن.
– ازمة الوعي: وهذه الازمة تجمع كل الأزمات في بوتقة واحدة فلو كان هناك وعي سياسي لما اختلف الساسة على المصالح وفضلوا مصالهم الخاصة على مصلحة المجموع، ولو كان هناك وعي اجتماعي لعرف الجميع بان هذا البلد بعمقه الحضاري الممتد الى الاف السنين لن تهزه رياح التطرف والعنف بل يجب ان تسوده اجواء الوئام الاجتماعي والتعايش ولو بعد حين، ولو كان هناك وعي قيمي لحكم الفرد في تصرفاته ضوابط الدين واستقاها من مصادرها الصحيحة ولأبعد هوى النفس عن المال الحرام ولصان الدولة ومؤسساتها مثلما يصون الاب بيته لأنها الإطار المعنوي الذي نعيش داخله ويجمعنا تحت ظلاله.
ان ازمة العراق بعد ٢٠٠٣ ليست تركة النظام السابق الثقيلة ولا الاحتلال البغيض والارهاب اللعين ولا الفساد والخلافات السياسية والاجتماعية، ان ازمته الحقيقية تتمثل في ازمة الوعي وغيابه عند الضرورة… لذلك فان قمة ما نحتاجه اليوم هو الوعي بكل شيء وتحصين الفرد من الوقوع في حبائل الفساد او الارهاب او هوى النفس او مجاميع المخربين، وهذه مسؤولية يتحملها الجميع بدءا من المدرسة والمنبر والجامعة ونحتاج الى سنوات طويلة قادمة لإصلاح ما خلفته الأزمات المتراكمة على العراق من أضرار في كافة المجالات.
فيما يخص السؤال الأول: يبدو ان الاستغراق في الازمات لا يقتصر على النظام السياسي في العراق فقط بل إن أغلب الأنظمة السياسية وبخاصة التي تصل إلى السلطة بطرق ملتوية أو غير مشروعة.
فحينما يخلق النظام السياسي أزمات داخلية سواء كانت اقتصادية أو أمنية أو يفتعل أزمات خارجية سواء كان يروج لنظرية المؤامرة على النظام أو نظرية العدو الخارجي فهو بذلك يسعى إلى ترسيخ سلطته بالقضاء على خصومه السياسيين والهاء الشعب بأزمات تصرف انظاره عن محاسبة القائمين على النظام الساسي عن الفساد، وهذا ليس أول نظام سياسي في العراق تعمد افتعال الأزمات في سبيل البقاء في السلطة لأطول مدة ممكنة والتغطية على فشله في إدارة مؤسسات الدولة.
أما بالنسبة للسؤال الثاني: فكل ما نحتاجه للخلاص من الأزمات والعبور نحو الحل والتنمية هو الوعي والإرادة الصادقة سواء كانت على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي.
وهو ما يجب أن يتحلى به القادة قبل غيرهم و(الناس على دين ملوكها).
وبالفعل إن الاستفادة من تجارب الدول والشعوب والأنظمة السياسية الناجحة له أثره في حل الأزمات وعبورها والنهوض من الواقع المتردي إلى آفاق واسعة من النجاح وهناك عدد كبير من الأمثلة والتجارب التي صنعت من دول فاسدة ومتخلفة دولا في مصاف الدول المتقدمة.
1- امر طبيعي أن تكون عجلة النظام السياسي في العراق غارقة في الازمات لأنها بنيت على مجموعة من الاخطاء الكارثية التي تحولت بمرور الوقت إلى عرف سياسي لا يمكن المساس به فضلاً عن تغييره كالمحاصصة والفساد وانعدام وجود سياسة اقتصادية واضحة المعالم والمحسوبية وإبعاد الكفاءات وسيطرة الأحزاب ووجود السلاح خارج اطار الدولة والتدخلات الخارجية وغيرها.
لذ انعكست هذه الاخطاء على النظام السياسي برمته في العراق رغم وجود دستور وقوانين ونظام سياسي قائم على تبني الديمقراطية مما ادى الى نظرة تشاؤمية في مدى نجاح هذه التجربة في العراق مستقبلا.
2- على المستوى السياسي نحتاج الى الإعتراف بوجود هذه الاخطاء ومن ثم المبادرة الى تصحيح الوضع القائم على الفوضى، ولا يتم هذا الامر من دون وجود رغبة ودافع حقيقي لدى الاحزاب الرئيسية الفاعلة في النظام السياسي لفسح المجال امام تحرك عجلة التغيير نحو الأمام.
اجتماعياً قد يعول على الفهم المتنامي لدى العراقيين بضرورة الاصلاح خصوصا لدى الأجيال الجديدة وبالتالي الضغط على صانعي القرار السياسي في البلد من اجل تحقيق التنمية المستدامة في مختلف المجالات
ثقافياً مازال دور النخب المثقفة في العراق محدود جدا وهو غير قادر على مجاراة التغيرات والتفاعل معها والمطلوب منها بذل المزيد من الجهد في اثراء المجتمع المدني في العراق للخروج من نفق الأزمات.
إنّ طبيعة النظام السياسي القائم في العراق لم يُكن انعكاسًا حقيقيًا للنصوص الدستورية، أو نتيجةً لتطلعات شعب عانى كثيراً من النظم التسَّلُطيّة، وهو نظام هجين لم يلب طموح الشعب العراقي، أي بمعنى أنه نظام محاصر بين هَيكلَّتين (بين الإطار الديمقراطي والإطار غير الديمقراطي، وهذا النوع من الانظمة عادةً ما يواجه صعوبة في تبني السلوك الديمقراطي، أما بسبب خلفيته الشمولية)، أو بسبب القوى السياسية التي تُديرهُ. ففي الوقت الذي توصف به الدولة الحديثة بأنها دولة قانون، أو دولة سيادة القانون، وهما توأمان لا ينفصلان، اضحت القوى السياسية والاشخاص والمليشيات أعلى شأناً من القانون والدستور؛ مما أحدث شرخا كبيرا وفجوة عميقة بين النظام السياسي وقاعدته الجماهيرية وزاد من حجم الأزمات المتتالية، وهذا ما وضع النظام السياسي في إشكالية حقيقية وخلق منه حالة رمادية تتراوح بين مفاهيم متناقضة (النظام واللانظام، الدولة واللادولة، الديمقراطية واللاديمقراطية).
لا يمكننا فصل التنمية عن بناء الدولة القومية الحديثة، وأنّ بناء الأخيرة، أحد الغايات الرئيسة لعملية التنمية السياسية، وهي غاية تترسخ نتيجة قوة وصلابة النظام السياسي بجميع جوانبه، تبدأ من قوة وصرامة القانون والدستور وآليات تنفيذها؛ لذلك فإن إصلاح النظام السياسي يصلح ما سواه ويمكن أن يعبر بالعراق وشعبه إلى افاق الحل ومظاهر التنمية بجميع صورها.
1- اختلاق الانظمة الاستبدادية للازمات أمر في غاية البديهية، لان الازمة من شأنها صرف اهتمام الناس عن سياسة الحكام ومنهجهم، فهو قبل ان يسأل عن صحة او سقم هذا القرار او ذاك القانون، يفكر كيف يحصل على لقمة العيش، وعلى فرصة العمل، وغيرها، وما يدفع هذه الانظمة لذلك –جواب السؤال- أن هذه الانظمة بالأساس لم تولد من رحم الجماهير، انما هي مصنّعة من الخارج، فالنظام السياسي المتمخض من الشعب لا يمكن ان يكافئه بالأزمات والحروب والصراعات الداخلية والخارجية، ويدفع بالناس الى عيش الضنك والذل.
2- الازمات والمشاكل في مفهومها العام، تبدو طبيعية في حياة الانسان والبشر، فالموت وفقدان الاعزاء يمثل نوعاً من الازمة، لذا جاءت التوصية بالصبر والمواساة واستذكار الآخرة، وايضاً الخسارة في الاموال، والازمات ضمن هذا المفهوم، لها طرق واساليب لإدارتها، منها مايتعلق بذات الفرد، ومنها ما يتعلق بالواقع الخارجي، واعتقد أن التوازن بين الحلول الذاتية والحلول الخارجية يعطي مردوده الاسرع والافضل، لأن الثقة بالنفس، والارادة، والأمل، واشباهها، لن تكون مجدية في محيط مشبع بالسلبيات واليأس، وايضاً بحبّ الذات والانانية، مع ذلك؛ فان البداية تكون من الفرد الواحد، ثم الافراد، ثم الجماعات ليتركوا بصماتهم على الواقع السيئ ويبشروا بالحلول، وأهم خطوة، واعتقد انها ذات أولوية في هذا المضمار؛ الشعور بالمسؤولية، اذا توفرت في نفوس الافراد، ستتحول الى ثقافة عامة، ثم تتحول الازمات والمشاكل الى فرص للاختبار والامتحان، بمعنى تكون ذات صبغة ايجابية، وليس سلبية.
أما الازمات التي تخلقها الانظمة السياسية فان أفضل طريقة لإدارتها وتجنب مخاطرها باعتقادي- بتكريس الجهود على حل المشاكل الداخلية بين افراد المجتمع، كالفقر، والزواج، وغياب القيم الاخلاقية والدينية، وايضاً؛ الفهم الخاطئ لهذه القيم. فاذا تمكن الشعب حل مشاكله الخاصة به، يتعذر عندئذ على الحكومة وصناع المشاكل فرض مشاكلهم ثم حلولهم المصطنعة، فاذا ننتظر من الحكومة توزيع المنح والاموال وحل مشكلة الفقر والاسعار وهي تفعل كل شيء، فهذا يعني نعطي الصلاحية والحق لها بأن تعبث بما تريد وتقرر مصائر الناس كيفما تشاء، وعند ارتفاع اصوات الاعتراض والانتقاد سيأتي الجواب: “انكم اعطيتمونا الحق والصلاحية بانفسكم”!
1- أرض العراق وحضارتها كانت ولا تزال محط أعين الطامعين، وموقعها الجغرافي وخيرات الأرض من ماء ومعادن أمر يجعلها من أغنى دول العالم اقتصاديًا ومعنويًا ودينيًا وسياحيًا ومن مختلف الأبعاد.. أرض سريعة التقلّب الحكومي نظرا لثرائها من كل الجوانب. أرض تحتضن مختلف الأديان بكل رحابة صدر ومساواة وطيبة شعبها وكرمهم أمر لا خلاف فيه. تأريخها ابتدأ من أول الظهور البشري وإلى اليوم وعلى مر العصور تبرز فاتنة تسفر عن جمالها ظاهرًا وباطنًا، وعندما توجد أرض بهذه الأوصاف فكل ما يهم الحكومات المتجددة هو نهبها والتسلط على خيراتها بمساعدة الدول الطامعة وجماعات المرتزقة، فما تلبث أن تستقر بحاكم عادل معصوم اختارته السماء حتى تتوالى عليه الحروب بعد الحروب، فكيف بحاكم ليس بمعصوم وإنما طامع بالملك والسيطرة!
ولا يخفى أن المهندس الحكيم حينما يريد إنشاء مبنى ما فإن أول ما يبحث عنه هو جودة الأرض وطيب هوائها ومدى سطوع الشمس عليها ليقرر إن كانت صالحة أم أن كل ما سيبنيه سيذوب ذوبان الملح في الماء!، وكذا العراق اليوم بناؤها السياسي ليس على أرض صالحة إذ أن النظام القائم عليها أساسه سياسي بحت يبحث عن الكرسي والسلطة ومن ثم يريد الحفاظ عليهما بأي ثمن كان؛ سواء عن طريق افتعال الأزمات والحروب، أو ممارسة الفساد أو حذف المنافسين بدون رادع أخلاقي أو وازع ديني.
ذلك لأنَّ الأرضية تشجع ولا تمانع، بينما لو كان الأساس قائم على الثقافة والأخلاق بكل أنواعهما ومعانيهما وما يتناسب ومعتقدات ومبادئ البلد، فإنَّ ذلك سيكون رادعًا لأي أزمة أو ثغرة أو مخالفة قد تحصل بواسطة الأفراد المتسلقين إلى الحكم.
وخذ مثالًا لما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية في الانتخابات الرئاسية المنصرمة؛ حين أراد ترامب أن يتشبّث بالسلطة، وبذل كل مساعيه؛ من اقتحام الكونغرس وعدم الرضوخ للنتائج المعلنة و..، لكن بما أنَّ الأرضية كانت قوية ومبنية على أسس خاصة في الديمقراطية والأخلاق السياسية فإنّه فشل في ذلك ولم تسفر استعراضاته عن أية نتيجة.
ومثال آخر؛ ما شاهده العالم في فرنسا قبل حوالي عامين والذي عُرف بـ “حركة السترات الصفراء”، حيث سبّبت تلك الحركة أزمة حادّة في البلد وعطّلت الخدمات وأوجدت خللا في الحياة اليومية للفرنسيين، لكن مع ذلك فإنّها مرّت مرور الكرام ولم تحدث أية أزمة مزمنة، على عكس ما يحصل عندنا حيث تتولد الأزمات من أزمة واحدة!
والسبب كما مر؛ إننا نفتقد تلك اللبنة الصلبة الموجودة في الغرب، فرغم ما تحويه الأنظمة الغربية من نواقص وإشكاليات لكنها بنيت على أساس أخلاقي وثقافي قويم منع المتسللين إلى السلطة من استغلال مواقعهم وهذا ما نفتقده في العراق.
2- الحل النهائي هو الحل الأول؛ أي استبدال أرضية “الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها” إلى أرضية “الحقيقة والعدالة”، وهذا لا يتأتى إلا من خلال تغيير جذري في العقلية والسلوك “attitude” لدى الفرد. وهنا يأتي دور تثقيف الأفراد بأهمية بث روح التعاون وتحمل المسؤولية والعطاء والتفاني في سبيل الإصلاح. وللخروج من الدائرة المغلقة للأزمات المتتالية، فإنَّ النصيحة المقدَّمة من قبل الخبراء الروحيين ورواد الحضارة الإنسانية، وهم الأنبياء والأئمة والمصلحون المجددّون؛ أن نستغل الفرص -مهما اشتدّت الأزمات- في بعث الهمّة في النفوس المثقلة بالهموم، ونشر أجواء الأمل بدل اليأس والشعور بالإحباط، فالبداية لكل تنمية هو الشعور بالتحفز والقفز على المشاكل بلا شعور بالتواني والتراجع.
فعندما قُتل الحر يوم كربلاء لم تنتهِ بطولته بل شكر سيد الشهداء سعيه وحفز الأجيال لطلب الحرية والاقتداء بالحر الرياحي مهما كانت دياناتهم وأعراقهم. فالحرية ونبذ الذل تعني الإصلاح والنماء والتطور والخروج من كل الصعاب والأزمات بروح إيجابية مشرقة وثناء جميل مشرف لا ينتهي أبدا..
وبالأمس القريب؛ عندما تحمل الأفراد المسؤولية طلبًا للحرية بتوجيه المرجعية والقيادات أثناء ثورة العشرين تمكن العراق من نيل العزة والكرامة، وتكرر ذلك مرة أخرى حينما دحض داعش ورفع لواء الحرية والشرف عاليا. واليوم مرة أُخرى باستطاعته أن يطبِّق أُسس “الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام”، فتلك القيم هي بعينها “من عوامل الإستقرار في العراق”.
والشعب عندما يريد التغيير يفعل، هذا قانون أثبته التاريخ؛ وليس العراق عن بقية الثورات الإصلاحية ببعيد، بل على العكس فهو أمل العالم لوجود العاصمة العظمى المرتقبة لدولة الإصلاح فيه، وما ذلك على الله بعسير.