18 ديسمبر، 2024 11:46 م

صناعة عصبة التنجيم الفانتازي

صناعة عصبة التنجيم الفانتازي

تستعرض بعض المقالات السياسية مواضيعآ لكتّاب عراقيين من ذوي الاختصاص في عملية تفكيك الأحداث السياسية الجارية في بلدهم وإعادة ترتيبها أو صياغتها بما يجول في ذهنهم لإنتاج فهما ينطوي على مستويين , الأول : يبين أن الدولة العراقية في سياقها العام دولة هشة في كافة بُناها التحتية وأولها الجيش الذي فشلت في إعادته إلى سابق عهده , ويأتي من بعده الاقتصاد الذي مازال ينوء تحت رزء الإهمال المتعمد .. الخ .

أما المستوى الثاني: ففي إحدى المقالات , يبدأ الكاتب السياسي في تقطيع أوصال الواقع العراقي ويعيد تشكيله بمخرطة تهكمية وبشكل غريب ليصنع صورا جديدة لعراق محتل. وهو في هذا يعطي تفضيلا لهذا الشكل عن طريق عملية تقويض للمفاهيم الأساسية الخاصة بالمتلقي, المعني بذلك الواقع.

ولكن هذا الناقد السياسي, إن صحّت تسميته, وباستخدام مفردات التكهن: إذا فرضنا, إننا نرى, لماذا.. الخ , يستقرأ الوقائع على الأرض من زاوية أخرى بما يشبه أن هناك عصبة يريد أن يسارع للانضمام إليها وهي ربما “عصبة التنجيم الفنتازي ” التي تنفتح بتفسيراتها الجدلية ضمن هذا الأفق الجديد من تحليل الواقع على الأرض متبعا بذلك الفلسفة السفسطائية التي تستبعد الحقائق الثابتة والمطلقة.

تنفتح هذه العصبة مؤلفة من ألوية من الكتّاب ممن لا شأن لهم غير العراق ,فيدخلون فيه من بابين هما باب السنة وباب الشيعة مستغلين ثقافتهما الدينية المختلفة في بعض النواحي الفقهية ليكتبوا عن نظريات وتأويلات تشكيل عراق جديد ضمن آلية وتصورات سيسيولوجية وتحليل الواقع بما يحتّم اندماجه ليصبح محافظة , أو امتداد لأراضي دول أخرى .

تتشابه العصبة في هذا السياق مع عمل القطعات العسكرية التقليدية أثناء الحرب . إلا أن الفرق بين واجب القطعات العسكرية وهذه العصبة هو أن القطعات العسكرية تدافع عن البلد , بينما واجب هذه العصبة هو التهيئة والتحضير لزواله .

وتتخندق هذه القطعات, من ناحية أخرى , مع كل جهد يهدف إلى إصلاح ما تسببت به الحروب والفتن من جهة والإرهاب من جهة ثانية . بينما تتخندق عصبة هؤلاء الكتّاب بتحديد رؤية أن في هذا البلد سلطة تنفيذية تتحكم في كل مقدراته من ناحية وخضوع هذه السلطة إلى جهات خارجية من ناحية أخرى . وأن الشعب بكل أطيافه ليس سوى قطيع من الأغنام العربية الهجينة تضاهي بشهرتها أغنام ليستر الانكليزية كونها مصدر للحليب واللحم والصوف وليس مصدرا للسلطات كما نعلم واهمين .

وبرغم أن الكاتب يخاطب هاتين الطائفتين وهما الشيعة وأهل السنة ويرسم لهما آليات ومراحل مُقصيا في ذلك وطنية وأخلاق هاتين الطائفتين , بل ولا يضع لهما أي اعتبار لينجو من الانتقادات الحبلى بالاختلافات . متناسيا أن ثوابت الدين لدى الشيعة والسنة ثابتة ومصدرها واحد هو القرآن الكريم , أما الحقيقة المطلقة هو الله سبحانه الذي يؤمنون به . والكاتب يمكن له أن يتأمل ويحتكر صوره الجديدة التي يستنبطها ولكنه , ربما , لا يعلم أن الفلسفة التأويلية خاضعة للتأويل وقابلة للقراءة من قبل فلسفة أخرى .

وأحيانا يصل الأمر بأحد الكتّاب إلى التيه فلا يعرف ماذا يقول, إذ يتحول في نهاية مقالته نحو حالة من عدم التطابق بين ما كتبه في سطوره الأولى وبين ماكتبه في سطوره الأخيرة التي نفخ فيها من خياله الجامح ليبلغ به الأمر إلى عالم يشبه عالم هاري بوتر العجيب , فيرى العراق وقد تحوّل بقدرة أوهامه ذات البنية الفانتازية إلى محافظة تابعه لإيران !! وهذا يثير السؤال التالي: ترى لماذا تكون درجة الميل إلى زوال العراق وفق آلية التركيز على الطائفية اكبر من درجة الميل إلى إصلاح شأنه في مقالات بعض الكتاب العراقيين المغتربين ؟ ولماذا هذا النسق الفكري المغاير لكتّاب آخرين يدعون في كتاباتهم إلى التهدئة وإصلاح ذات البين بين أطياف شعب العراق من دون تلك الصور التي تدعو إلى زواله ؟

ليتذكر الكاتب السياسي إن أكثر الأنظمة تضليلآ لشعوبها هي تلك التي تؤول مشاكلها الداخلية إلى أسباب ترتبط بالوصف الخارجي لها دون وصف حقيقي لجوهرها , أو إدراج القيم الإنسانية كأولوية لديمومة بقائها عند التحالف مع تلك الشعوب , وما عميان بروجيل إلا مثالا لعملية التضليل , إذ كبير العميان يقود أصحابه إلى السراب , ثم إلى شفير الهاوية , ثم إلى الزوال في عملية تأويل للصور الواقعية لتصبح واقعا غير حقيقي والأمثلة كثيرة في العالم . ففكرة قراءة الوجود (= الواقع ) بلغة تأويلية مشوهة له تخلق عالما مشوها أيضا . ترى هل وضع الكاتب السياسي في كيس قهوته هذه الملاحظات التي أبداها هيدجر نفسه ؟!

الذي يسرّب أسرار بيته بطريقة نقدية متحاملة أمام لصوص الدول ولأسباب تتعلق بأمور الدنيا لا يقصد سوى التقرب لموجة الرسائل المشفرة المرسلة إلى أعداء البلد والشعب. فالتعامل التلفيقي مع قضية العراق لا يصنع الإصلاح بل يصنع الهولوكوست الذي ترتأيه , بل وتتمناه عصبة الفانتازيا وأداتها – موجة الرسائل المشفرة – وذلك عن طريق تحويل عملية فهم الواقع العراقي إلى عملية فهم فانتازي تنجيمي بديل ومغاير يتنبأ به الكتّاب المتحاملون على الوطن والشعب لإشباع غريزة المجرمين المشردين والمتربصين لتحقيق هذه التنبؤات.

فاللصوص والمنحرفون يصغون جيدا لثرثرة الكتّاب . ألا تراهم يخصصون صحفا ويصنعون البرامج واللقاءات مع أهل هذه الديرة أو تلك ليساهموا في سجالات من الآراء تتعلق بجوهر ديرتهم وبأسئلة يصوغونها بأنفسهم؟! ترى لماذا , أيها الكاتب , تُريهم ابوابآ ليدخلوا منها إلى بيت أهلك؟! أتتمنى لنا هذا المصير ؟! أترى نحن مغفلون وبلهاء إلى الحد الذي يرسمه خيالك في الترهيب والتهويل فنبيع الوطن بهذه الأوهام ؟!

إن تحميل نص المقالة بهذه الغزارة من التأويلات وترك القارئ ليختار منها ما يشاء من الأفكار المنحوتة لينضم إلى عصبه تعد تحديا لهويته الثقافية والعمل على إلغاء وجودها الخارجي, وزوالها من عقله . أما التركيز على تفسير الواقع السياسي بشكل غير عقلاني , وبرهانات نظرية من ناحية أخرى تعد اصطفافا مع مجموعة بشرية تشجع على تفكيك العراق . ولكن يا ترى هل نسي الكاتب أن المتلقي يعرف أن وراء كل عملية تركيب ترثها عملية تفكيك أخرى ؟

أن نتهم مثل هؤلاء الكتّاب عن طريق هذا المثال إنما نعني انتقادهم على تأويل الواقع العراقي حسبما يجول في مخيلتهم مما يدعوا أطرافا أخرى , أو لنقل تنبيههم بالنظر إلى هذه الأفكار وإمكانية تطبيق ولو الشيء القليل منها على الأرض الواقع حتى وان كانت بعض هذه الأفكار تتطابق مع ما يجري بشكل نسبي ليكون الشعب ضحية لهذه التأويلات المقدمة مجانا .ولكن لماذا ؟!

أن تحليل أوضاع البلد بشكل سلبي ومتحامل من قبل كاتب ربما يعيش في الغرب – الذي يشجع على الإساءة حتى برسولنا الكريم – هو ليس فخرا له , بل الفخر أن ينتقد هذا الواقع من موقعه بشفرة الإصلاح كما لو أنه يعيش في بلده كباقي الكتّاب الكبار في العراق الذين يعرفهم الجميع . فالكتّاب في العراق لم يدخروا وسعا في نقد الأوضاع الداخلية بشكل موضوعي وإيجابي, بل وشاركوا في المظاهرات بكل ما يملكون من حزم وعزم من أجل الإصلاح. ولكنهم لم يكتبوا عن هذه السيناريوهات التي تبحث في جعل وطنهم لقمة سائغة ليؤول إلى الاحتلال .

ولهم في ذلك مثال, فقد طلب من الزعيم عبد الكريم قاسم وهو يدرس في كلية الأركان البريطانية خطة لاحتلال بغداد, إلا أنه وضع خطة لإحتلال لندن بدلآ عنها. وفي المناقشة رد عليهم : كيف أضع خطة لإحتلال عاصمة بلادي ليطلع على أسرارها الأغراب ؟ ثم نال فيها درجة الامتياز وشرف المحافظة على أسرار وطنه. فَلِمَ لا يحذو كتّاب هذا النوع من المقالات,موضوعة البحث , حذو هذا المثال الرائع في الوطنية ؟! أم أن الحاجة إلى الرسائل المشفرة ألذّ وأشهى طعما ؟!

في إحدى المقالات التهييجية , يحشر الكاتب الفانتازي ألتنجيمي الشيعة والسنة وكأنهم أبنائه الذين تركهم يتامى في العراق ليبكي عليهم تارة ويرثي لحالهم تارة أخرى ويقول أنهم من بعده سيرثهم الجبابرة وستقطع أوصال أراضيهم وتبتلعهم, ثم يعود بتأويله ألهوسي ليتجاهل إرادتهم ورجولتهم على حد سواء فيضع لهم جداولا في الاستفتاء وهو سادر في رؤيته دون المرور ولو بسطر واحد عن داعش ليكتب تأويله عنهم , هل يبقون جاثمين فوق صدورنا , أو هل يصبحون دولة تعترف بها الدول العظمى , وهل تنظم إليهم الشيشان أوالبلقان ؟! أو يضع , على الأقل , تعريفا لهم من عالمه الخيالي أم ترى يراهم ايضآ من أهل السنة ؟! وهذه الطامة الكبرى !

لا يمكن أن نفهم من بنية المقالة التي تتنبأ بابتلاع العراق بسنته وشيعته بأفواه الجبابرة إلا رسالة تعبر عن الوفاء للعصبة التي ذكرناها وإبداء الرأي في فتح الواقع العراقي إلى احتمالات عديدة ليكون وفيا لتوجهاتها, ثم يختتم أحدهم مقالته بالإشادة ليساوي بين أهل السنة وداعش كونهم قدموا صدام والبغدادي ونعتهم بالمغامرين , بينما أهل السنة لا ينجبون المغامرين , بل ينجبون دعاة للدين الحنيف ومناصرين للإنسانية والحياة الحرّة الكريمة وهم إخوة للشيعة في أركان الدين الخمس منذ قرون , وهم بالإجماع لا يشترون صناعة عصبة الفانتازيا وأفكارها التأويلية ليبيعوا وجودهم , وطنهم الذي حلم به رسولهم الكريم ليكون نصيرآ لدين الله , وهل نحن إلا مناصرين لله والوطن وبه عند الملمات ننتصر ؟!