مقدمة
اننا حينما نعطف على دراسة الدور السلبي الذي لعبته المفاهيموالمصطلحات في حياتنا العقلية العربية ، لسوف نكتشف اننا دفعناومازلنا ندفع ثمنا باهظا لذلك السحر الخفي الذي تملكنا من خلالهاكثر بكثير مما ندفعه في بامج التسليح او حتى مشاريع التنميةالعربية .
في الماضي عشنا على وهم مخدر ، هو اننا ( خير امة اخرجت للناس) فلما افقنا بعد طول رقاد ، واكتشفنا زيف قناعاتنا الذاتية التي لميقتنع بها احد وادركنا ان العالم قد تغير من حولنا ، وان العلم ، والعلموحده ، صار اداة التغيير الحقبقبة في هذا العالم ، صحنا صيحةالفرح ـــــــ ها قد وجدناها اذن ( الدولة العصرية ) .
هي طوق النجاة من الطوفان الذي يحيط بنا . ثم عاودنا السحرالخفي القديم على الفور ، فطفقنا نبحث في الرادفات من الالفاظ ،والؤتلفات من المعاني ، ونمارس هواياتنا في فك رموز الكلماتالمتقاطعة ، وكأن الامر في النهاية هو مجرد ذكاء لغوي ، وليتنا انتهيناالى شيء حاسم على الرغم من عشرات الدراسات والكتب والمؤتمراتالتي تبحث في التحديث والتكنولوجيا والتراث والاصالة والمعاصرة ،وغيرها … وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي دخلت قاموسنااللغوي ، ولم تدخل سلوكنا لاعلى المستوى الاجتماعي ولا علىالمسيوى الفردي ، وكأننااحفاد كهان بيزنطة القدامى ، الذين لبثوايناقشون ويناقشون ، حتى قطع عليه العدو ، بطرقاتهم على ابوابهم،سحر النقاش .
لقد اعتادت الحياة الفكرية العربية، في كل منعطف قومي ، سياسياو اجتماعي ، يواجه طريقنا ، ان تسمع عددا من مفكرينا ومثقفينا فيتأكيد وألحاح ، انه قد ان الاوان لاعادة النظر في مفاهيمنا ومناهجناالسائدة في الفكر والتطبيق .
والحق انه على الرغم من حرارة الدعوة في كل مرة ، وحماس دعاتها،فأنها كانت عادة ، اما الى طرح بعض الاسئلةالجوهرية التي تتعلقبطرق ومناهج واساليبالخلاص او الانعتاق من كوارثنااو ازماتناالحادة على مستوى الفكر وحده ، من دون متابعة لمصادر او اصولهذه الكوارث والازمات في البنيات الاجتماعية العربية السائدة ، اواحيانا الاشارة الى هذه البنيات ،والنصح او التوجيه بأجراء بعضالاصلاحات او التعديلات في تكويناتها ومسارها، وفي كلا الحلين ،كانت النتيجة هي استمرارالبنيات كما هي ، او القيام ببعضالتغييرات الشكلية في مظاهرها الخارجية التي لاتمس طبيعتهاالداخلية في جوهرها ، ومن ثم احتواء النقد الموجه لها ، واستيعابالاسئلة الجذرية المطروحة حولها .
مدخل
ليس بخاف ، ان تحديد المفاهيم يعد امرا ضروريا للتعرف علىابعادها ومجالاتها ومدلولاتها ، التي تستخدم في اي بحث علمي ،حتى تكون صياغة الافكار واضحة في مقاصدها . فالمفهوم جزء منالمنهج واداة له ، يستبطن مقولاته ، ويعكس مضامينه ، فهو ليس مجردمفردة بسيطة ، بل كلمة تحمل من المضامين والدلالات والمعاني مايفوق حدود اللفظة ، اضف الى هذا ، ان الكلمات نفسها اداة للتعبيرواطار للمعاني تحفل بمدلولات نفسية تلقي بظلالها على ذهن وروحالسامع والقارىء .
ففي كل مرحلة من مراحل تداول الافكار ، تشيع مفاهيم ويكثراستخدامها في اوساط المثقفين والسياسيين والمفكرين ، كمفاتيحأفكار أو مداخل لمناهج أو سياسات اجتماعية واقتصادية وثقافية . فلايكاد يمر يوم من حياتنا دون
أن نصادف مفهوماً أو عدة مفاهيم أو نتعثر بأحد مشتقاتها . فقط ،نتصفح أية جريدة أو مجلة أو نحاول رصد عدد المرات التي تتردد فيهابعض المفاهيم تحديداً لنرى بأي قدر مرعب نستهلك هذه المفاهيم.
القضية كلها تعتبر جزءاً من مشكلة لدينا نحن العرب ، مختصرها أننانعاني من خلط في المفاهيم وأنواعها ، ولا نتوخى الدقة على الإطلاقعند استخدامها ، وهو عيب لم نحاول إصلاحه حتى أصبحنا نتعاملمعه على أنه أمر واقع حتى وصل الأمر بالكثيرين على ذكر واستخداممفاهيم لها أكثر من معنى ، ولم يعمدوا إلى تعريفها ، بل إن بعضاًمنهم أخطأ في استعمالها ولم يتقيد بمدلولاتها ، مما أدى بكل أسفإلى عدم التمييز بين معانيها وغاياتها والأهداف التي خلقت من أجلها.
إن استخدام المفهوم في موقعه الصحيح وبما يمثل دلالاته وعلاقاته ،تشكل عموداً مهماً من أعمدة الفهم الصحيح والمعبرة عن الحالةووصف المقصود . بالمقابل يمكن توظيفه لإيقاع أثر مقصود ومستهدفعلى الملتقى وبما يخالف أو يشوه الحالة المعبر عنها ، إما نحوالتخفيف من وقعه كمفهوم مع بقاء الحالة الموصوفة على ذاتها أوالتضخيم لحالة هي أدنى من ذلك . وهذا يقود إلى عدم التطابق معالمعنى والدلالة والإشارة الصحيحة للمفهوم . وفي حالة الشيوع بخلققاعدة واسعة لفهم خاطئ يمكن أن تبنى عليه أفكار مستهدفة منالمصدر الذي خلق اللبس بحيث يصبح شائع الاستخدام حتى من قبلمن يمكن أن يقع عليه الضرر أو الإجحاف المترتب على هذاالاستخدام الخاطئ ، وهذا مايوظفه الآخر/المختلف ونحن لم نسلطالضوء عليه بعد.
إن قاموسنا الفكري/السياسي يفتقر افتقاراً شديداً إلى تعريفاتمحددة للمفاهيم السياسية والاجتماعية والإعلامية والفكرية التيطُرحت علينا واقتحمت تفكيرنا خلال القرن الماضي والحالي . تلكوجهة نظر مبنية على معينة هي :- عدم تمكن البعض من مثقفينا سواءالأديب منهم أو السياسي أو المفكر من اللغة العربية ، لابمعنى عدممعرفتهم للقراءة والكتابة وإنما بمعنى التعمق اللغوي في مدلولالألفاظ ومعانيها مما يساعد بالنتيجة على انحراف المعنى المرادوالاتجاه به إلى غير الهدف المقصود ، فتصبح اللغة عندها هزيلةوعاجزة في التأثير وفاقدة للصفة العلمية.
وعلى هذا الأساس ، لجأ مثقفونا في تعويض هذا النقص في المعرفةاللغوية إلى مفهوم الأجنبي بناءاً على قناعة مبدئية بعملية هذا المفهوم، وهي عملية شبه زائفة بالنسبة لنا نحن العرب لكنها قادرة علىالتأثير باستعمالها لمفردات تصيب المرمى عبر خط مستقيم يستسهلهاالقارئ العربي ويقتنع بها ويحاول في ضوئها صياغة تصوراتهالإصلاحية والسياسية وعاملاً على تعميم ثقافته تلك في بيئته ومحيطهووطنه.
ومما زاد سوءاً ، ذلك التداخل العشوائي بين المفاهيم بحيث يحل أيمفهوم مشابه له ليدل كلاهما على مفهوم واحد عادة مايكون غير مفهومأصلاً . ويزداد الأمر سوءاً حينما تتداخل الأيديولوجيات العربيةالمتناقضة مع بعضها بعضاً فتستعير مفاهيم متناقضة من بعضهاالآخر وتلفق معانيها ودلالاتها ، بل وتتراشق بها دون منهج واضح أومضمون صحيح . ويشتد الأمر أكثر سوءاً حينما يخلط قاموسناالفكري/السياسي بواسطة جهابذته خلطاً أعمى ومشوهاً العقيدة – أية عقيدة – وبين مقولات الناس الذين يستنبطونها من تلك العقيدة ،فتصبح مقولات ساطع الحصري وميشيل عفلق وجمال عبد الناصرهي عقيدة القومية العربية ولايجوز مساءلتها أو تحليلها أو تقديماستنباطات بديلة عنها ، بينما تصبح مقولات حسن البنا وسيد قطبهي العقيدة الإسلامية ، فيتم إصدار (صكوك الكفران) بحق كل منيجرؤ على مساءلة تلك المقولات ومدى تعبيرها عن روح العقيدةالإسلامية ومواءمتها حتى مع أسانيدها النصوصية.
وبين شعارات التخوين وإيماءات التكفير ، وبين التصوف لمقولات هؤلاء، والاجترار الببغائي لمقولات أولئك ، يضيع التفكير المستقل الفرديالمبدع ، ونتيه مع تيه وضياع تياراتنا الأيديولوجية المتنافرة المتناحرةوالمتناقضة ، ومع حوار الطرشان الفكري/السياسي العربي الذيأصبح صالحاً لكل مكان وزمان ، وماهو في الواقع الصريح بصالحلأي مكان وأي زمان.
وفي غمرة هذا الضياع نلوم الآخر/المختلف وغزوه الثقافي واستلابهالحضاري لنا ، وكذلك نلوم الشيطان والماسونية والصفوية والصهيونيةوالصليبية والمؤامرة الدولية والفيتو الأمريكي والتخاذلات السلطويةالعربية ، إذا لم يكن
هنالك بين العرب أحد يفهم على أحد ، فكيف سنفهم العالم ؟ وكيفنتوقع من العالم أن يفهمنا؟ ماالذي يفهمه أي مفكر/سياسي أو مواطنعربي من مفهوم الغزو الثقافي على سبيل المثال ؟
البحث اللغوي في دلالات المفاهيم
تأتي أهمية البحث اللغوي لتحديد معاني هذه المفاهيم ودلالاتها . فالمفهوم كلمة لها دلالتها اللغوية ، ومعرفة هذه الدلالة هي السبيل الأوللفهم المفهوم ، وقد أوصلني هذا المنطق إلى تحديدات واضحة لمفاهيمعدة.
إن السابقين لنا الذين تعلموا مع هذه المفاهيم لم يشعروا بالحاجة إلىتحديدها كما نشعر اليوم . ولعل مرد ذلك أنهم استمروا في التعامل معهذه المفاهيم بلا انقطاع ودون أن يحتكوا بمفاهيم جديدة لها.
أننا ، وفي هذه المرحلة من تاريخنا نجد أنفسنا أمام مفاهيمنستخدمها يومياً دون أن يكون لها مدلولات واضحة في أذهاننا . فكثيراً ما نجد المفهوم الواحد يحمل أكثر من مدلول ، وقد يشيعاستخدام هذا المفهوم وله عدة دلالات مفاهيمية تختلف بين مشرقالوطن العربي ومغربه تماماً كما تختلف بين مستخدميه ، مما ينجمعن ذلك – أي عدم تحديد المفهوم – من مشاكل على صعيد وطنناالعربي . وأشير إلى مشكلة أساسية تتجسد في احتدام الخلافالفكري حول قضايا فكرية حيوية بسبب عدم التحديد هذا . ولقد كانيمكن لبعض هذا الخلاف ألاّ يبرز لو بدأنا بالتحديد ، وكان من الممكنأن يضيق أو يحسم لو استدركنا وحددنا.
لقد جاء طرح بعض هذه المفاهيم وهي تحمل معاني ودلالات جديدةمواكبة لمتغيراتنا الفكرية/السياسية ، تلبية للحاجة إلى وجودنا فيحياتنا المعاصرة . وقد نبعت هذه الحاجة بفعل ظروف جدت علينا خلالالقرن الماضي ، وعلى الخصوص خلال الربع الأخير من القرنالعشرين . ومعلوم أن مجتمعاتنا عاشت خلال القرن الماضي عمليةاحتكاك حضاري قوي مع الغرب الذي جاءنا مستعمراً.
إن المفهوم ، هو لفظ له معنى معين ، ومعلوم أن معنى اللفظ يتطور عبرالزمان وقد يتأثر بالمكان . فطرح مفاهيم تحمل دلالات جديدة أمرمستمر في التاريخ البشري.
ونحن حين نحاول تحديد معنى المفهوم ودلالاته ، يجب أن نلاحظ كيفجاء طرح هذا المفهوم بمعناه الجديد . فهناك أربع طرق يمكن التمييزبينهما تم اعتمادهما في طرح المفاهيم بمعانيها الحديثة.
الطريق الأول – هو تعريب اللفظ الأجنبي الذي يدل على المفهوم كماهو.
الطريق الثاني – هو استخدام لفظ عربي يستوعب المعنى الجديد لميستخدم من قبل.
الطريق الثالث – أعطاء لفظ قديم معنى يؤدي الغرض المطلوب.
الطريق الرابع – ترجمة معنى اللفظ الأجنبي الذي يعبر عن ذلكالمعنى.
إن هذه الدائرة التي يطلق عليها دائرة الصراع المفاهيمي الفكري ،هي أكثر الدوائر غموضاً ، ذلك لأن الباحث العربي فيها سيجد نفسهغريباً عن قارئه إذا رفض استخدام المفاهيم المتداولة أو لجأ إلىاستخدام مفهومه الخاص وأسمائه الخاصة ، وإلاّ فيكون عليه في كلمرة شرح معنى وتاريخ كل مفهوم يستخدمه لأن القارئ العام ليسمطالباً بأن يتحمل مسؤولية الانتباه إلى ما يطرأ على تاريخ الأفكارمن متغيرات إنما هي مسؤولية الباحث.
إن أغلب معاجمنا تحتاج إلى مراجعة في لغة التخاطب والكتابة وعدمالدقة فيها أمر بالغ الخطورة . فاللغة مهما حسنت النيات عن طبيعتهاأنها محملة بالمعاني والإيحاءات والواقع النفسي المباشر وغير المباشر، وهي إيحاءات تقع في نفوس شتى وعقول على مستويات مختلفة منالإدراك.
واضح مما تقدم ، إن المفهوم يحتاج وقتاً حتى يتضح معناه ويتحددفيستقر. ويمكننا أن نلاحظ أن كثيراً من المفاهيم الجديدة التينستخدمها مازالت لم تستقر ، فهي من المفاهيم التي يحيط بهاالغموض من حيث الدلالة ، حيث تتخذ معاني ودلالات متعددة وربمامتناقضة مما تفقدها مركزها كمفاهيم بسبب من كون أغلب الباحثينوالسياسيين في الغرب يضعون أو يبتدعون مفاهيم مستوحاة منحقول معرفية ذات مرجعية غربية أو أنها تحمل لبساً في حاجة إلىتوضيح أو شرح أولي أساسي . فإن هذا يدفعنا إلى ضرورة التأكيدعلى مرجع المفهوم ومرجعيته الذي من شأنه أن يضعنا أمام المنبتالذي دفع بهذا المفهوم أو ذاك ليتداول بهذه الصورة أو تلك ، ويجعلناندرك الحقل الذي تكوّن فيه والغرض
الأساسي الذي استعمل فيه ، وكذلك نتبين المؤلفين الذين نحتوا مفهوماًما وانتماءاتهم المعرفية والعقائدية المختلفة التي تكون موجهة لتكونالمفهوم . والشيء نفسه يقال عن المؤلفات التي تكون محكومة فيظروف تأليفها بتأليف مفهوم معين يخدم توجهاتها ومقاصدها المختلفة.
فالمفهوم حين ندرك مرجعيته نتعامل معه بشكل دقيق ونفهم مدى قوةانتاجه في مرجعيته دون أخرى . فإن مرجعية أي مفهوم تسعفنا علىمعرفة امتدادات المفهوم وحدوده ، وهذا أمر ضروري في ضبط المعرفةالتي نريد تحريكها بالمفهوم ، حيث إن الحرص على ذكر المرجعيةيعطي المفهوم أمكانية تداوله في حقل من الحقول المماثلة له فيخطابنا الفكري العام ، ثم إن استحضار مرجعية المفهوم من شأنه أنيكسب مستعمل أو مستخدم المفهوم حذراً علمياً كبيراً يمكنه منالأمساك بعنان المفهوم أثناء اشتغاله في خطاب مغاير ، ومن ثم تكونفترة تحليلية مرهونة بقدرة تحمل المفهوم لأنتاج فعله حينما يؤخذ منمرجعية أجنبية ويشتغل خارجها.
وعلى هذا الأساس ، فأن ذكر مرجعية المفهوم تجعلنا نقف أكثر علىالأرضية التي نشأ فيها المفهوم والمجال المعرفي الذي استخدم فيه ،فيمكن للمفهوم أن يكون له مرجعية دينية في الأصل ولايفهم إلاّ فيدائرتها ، ثم ينتقل إلى حقل معرفي آخر قد يكون سياسياً أو اجتماعياًقد يفقد فيها مرجعيته الدينية الأولى وقد ينقلها معه ، وإذا أردنا فهممثل هذا المصطلح قد نضطر إلى تبين مختلف مرجعياته.
ماالمقصود بالمرجعية المفهومية ؟
يقصد بالمرجعية المفهومية الحقل المعرفي الذي يعبر المفهوم من بعضجوانب ويدور في فلكه بحيث لايفهم إلاّ في دائرته . والمرجعية بهذاالمعنى تمثل انتظاماً لمجموعة من التصورات والأفكار التي تشكلت عبرممارسة قد تطول في الزمان أو تقصر ، يصوغها فرد تتبناها مجموعةمن الأفراد وينتجون فيها أو تلتقي ممارسة مجموعة من الأفراد فيصياغة ممارسة تحتمل انتظاماً يوجد بينها. وقد تكون المرجعية دينيةأو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو أدبية أو لغوية أو غيرها، وقدتكون محددة بالأشخاص والمكان والزمان.هكذا يمكن أن نصفمفهوماً ما ، بأنه ذو مرجعية اعتزالية أو مادية تاريخية أو شكلانية أووصفية.
وبهذا ، فإنه يقصد بمرجع المفهوم ، واضعه الأصلي الذي صاغه فيصور لفظية ، وضمنه تصوراً أو مفهوماً أو فكرة قصد الاشتغال بهلمعالجة معرفة معينة قد تكون محكومة بالزمان والمكان أو بمجالمعرفي محدد . وغالباً مايتحدد المرجع هنا بالمؤلف ، والمؤلف المعلوم أوغير المعلوم أحياناً ، ويكون المرجع مثبتاً بالكتابة أو بما يدل عليه منوسائل التعبير الأخرى.
محددات المفهوم / ماهية المفهوم.
بداية ، سنحاول أن نبين الفرق بين المفهوم والمصطلح . فالمفهوم ،تصور أو فكر ، في حين المصطلح هو لفظ أو مادة لفكر . ويختلفالمصطلح من شعب إلى آخر ، في حين أن المفهوم واحد لأنه فكرة عنشيء يعبر عنها باصطلاح محدد ، والمفهوم في النهاية هو استبعادللمترادفات أو المعاني المشتركة والاقتصار على معنى واحد للفظواحد.
فالمفهوم (Concept) هو غير المصطلح (Terme) ، فالأول فكرة فيحين الثاني لفظ . واللفظ والتصور وجهات لحقيقة واحدة . فتارة يعبرعنها بالاصطلاح (مادة الفكر) ، وأخرى على أنها مفهوم باعتبارهالمعقول ، أي أنهما يختلفان من حيث أن المعقول هو مطلق أو مشترك ،بينما يوصف اللفظ بالاصطلاح ويحدد بالاتفاق.
والمفهوم هو – مجموعة من الأشياء أو الرموز أو الحوادث الخاصةالتي تم تجميعها معاً على أساس من الخصائص المشتركة والتييمكن الدلالة عليها باسم أو رمز معين ويعرف المعجم الأدبي المفهوم – صفات ومميزات تذكر لتحديد معنى كلمة من الكلمات والوظيفةالمنطقية الرئيسية للمفاهيم وفق الموسوعة الفلسفية ، هي أنها تنتقي – في الفكر ومن خلال صفات محددة – تلك الأشياء التي تهمنا منوجهة نظر الممارسة والمعرفة . وبفضل هذه الوظيفة تربط
المفاهيم الكلمات بالأشياء المحددة مما يجعل من الممكن تحديد المعانيالمضبوطة للكلمات والاشتغال بها في عملية التفكير.
وبعبارة أخرى ، فالمفهوم هو – كلمة أو تعبير تجريدي موجز يشير إلىمجموعة من الحقائق أو الأفكار المتقاربة . إنه صورة ذهنية يستطيعالفرد أن يتصورها عن موضوع ما حتى لو لم يكن لديه اتصال مباشرمع الموضوع أو القضية ذات العلاقة.
وتقدم المفاهيم وجهة نظر واحدة للحقيقة أو الواقع . كما تستخدم فيالغالب لكي تحدد لنا عالمنا الذي نعيش فيه . حيث لانستطيع أن نفكرأو حتى ندرك الأمور بدونها . وفوق ذلك ، لانستطيع الاتصال بالآخرينأو إقامة مجتمع سليم أو إنجاز النشاطات المختلفة في غياب هذهالمفاهيم . إذ يتميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية بالقدرة علىإدراك المفاهيم واستخدامها بطريقة صحيحة.
وعليه نستخلص ، أن المفهوم كلمة أو مجموعة من الكلمات تتجاوزدلالتها اللفظية والمعجمية إلى تأطير تصورات فكرية وتسميتها فيإطار معين تقوى على تشخيص وضبط المفردات/المفاهيم التي تنتجهاممارسة ما في لحظات معينة.
وبهذا المعنى ، فالمفهوم هو الذي يستطيع الإمساك بالعناصر الموحدةله والمتمكن من انتظامها في قالب لفظي يمتلك قوة تجميعية وتكثيفيهلما قد يبدو مشتتاً في التصور.
أما المصطلح فقد جاء عنه في المعجم الأدبي – لفظ موضوعي يؤديمعنى معيناًَ بوضوح ودقة بحيث لايقع أي لبس في ذهن القارئ أوالسامع ، حيث تحدد مدلول اللفظة ، بعناية قصوى . والمصطلح يتخذللتعبير بلفظ واحد في الأعم عن معنى أو فكرة لاتستوعبها في العادةلفظة واحدة . ولهذا أطلقت عليه هذه التسمية. أي إنه يصطلح به علىتأدية المعنى المقصود.
والمصطلح في الموسوعة الفلسفية – كلمة لايكون لها إلاّ معنى واحدتحدد مفهوماً معيناً للعلم والتكنولوجيا والفن . والمصطلح عنصر فياللغة العلمية تحدد إدخاله ضرورة الحصول على دلالة دقيقة غيرملتبسة لمعطيات العلم وخاصة تلك المعطيات التي لاتكون لها أسماءمطلقة في لغة الحياة اليومية . والمصطلح باعتباره متميزاً عن الكلماتالمستخدمة في الحياة اليومية خلو من الشحنات الانفعالية.
مما تقدم يتضح أن المفهوم في حاجة إلى تبين ما يجر معه من أفكارومفاهيم، سواء كانت مفردة أو متعددة ، تلك التي يكون عبر تشكله منحقول معرفية متباينة . والمفهوم بهذا المعنى لغة واصفة ذات جوهروليست دالة فقط . لغة ترسخ كل نشاط راغب في الاصطلاح المفهومي.
وهكذا نجد أن للمفاهيم انساباً وانتماءات إلى الأصول الفلسفية أوالتاريخية أو الاجتماعية أو النفسية أو اللسانية أو العلمية البحتة أوغيرها . وقد نجد للمفهوم الواحد انتماءات متباينة تثير التباساً أثناءالاشتغال به . ولهذا لابد من تحديد الوجهة التي نريدها من المفهوموخاصة إذا كان من المفاهيم الملتبسة.
فاستخدام المفهوم في موقعه الصحيح وبما يمثل دلالته وعلاقاته تشكلعموداً مهماً من أعمدة الفهم الصحيح والمعبر عن الحالة ووصفالمقصود . بالمقابل يمكن توظيف المفهوم لإيقاع أثر المقصود ومستهدفعلى المتلقي وبما يخالف أو يشوه الحالة المعبر عنها ، إما نحوالتخفيف من وقعها كمفردة مع بقاء الحالة الموصوفة على ذاتها أوالتضخيم لحالة هي أدنى من ذلك . وهذا يقود إلى عدم التطابق معالمعنى والدلالة والإشارة الصحيحة للمفهوم . وفي حالة الشيوع بخلققاعدة واسعة لفهم خاطئ يمكن أن تبنى عليه أفكار مستهدفة منالمصدر الذي خلق اللبس بحيث يصبح شائع الاستخدام حتى من قبلمن يمكن أن يقع عليه الضرر أو الإجحاف المترتب على هذاالاستخدام الخاطئ ، وهذا ما يوظفه الآخر ونحن لم نسلط الضوء عليهبعد.
لتوضيح المقدمات السابقة ، نستطيع القول ، أن مشكلة التعريفبالمفاهيم وتحديدها تعد من المشكلات الأساسية في التحليلالسياسي ، بل والتحليل الاجتماعي بصفة عامة . إذ تتعدد وتتداخلالتعريفات للمفهوم الواحد ، الأمر الذي يخلق قدراً من الاضطرابواللبس عند استعمال مثل هذه المفاهيم . ويرجع عدم الاتفاق حولتعريف المفاهيم في العلوم
الاجتماعية وتحديدها إلى عدة اعتبارات منها:- إن الظواهر السياسيةوالاجتماعية – بصفة عامة – ظواهر مركبة ، متعددة المتغيرات . ومن ثمفالمفاهيم الدالة عليها تتسم بالعمومية والتعقيد وتعدد الأبعاد . كما إنالمفاهيم تعتبر نتاجاً لخبرة اجتماعية مشتركة ، ولما كانت خبراتالأفراد والجماعات تختلف من حيث الزمان والمكان ، فإن ذلك ينعكسعلى معاني المفاهيم واستخدامها . ولذلك فإن استخدام مفاهيم معينةأو فهمها بدلالات ومعانٍ محددة ، إنما يعكس في حد ذاته تفصيلاتوانحيازات وثيقة الصلة بخبرة الجماعة.
بالإضافة إلى ماسبق ، فإن المفاهيم الاجتماعية ليست جامدة أو ثابتة، بل أغلبها يتغير مع مرور الزمن وتغير الظروف والبيئات . وقد تختفيأو تندثر مفاهيم قديمة وتظهر مفاهيم أخرى جديدة تؤدي وظيفتها . وقد يتخذ المفهوم نفسه معاني مختلفة من فترة زمنية إلى أخرى ، ومنبيئة اجتماعية وثقافية إلى أخرى.
لايقتصر الأمر على ذلك ، بل إن المفهوم في أي مجال معرفي بحاجةإلى تبين مايجر معه من أفكار ومفاهيم ، سواء كانت مفردة أم متعددةتلك التي يكونها عبر تشكله من حقول معرفية متباينة . وهو بهذا المعنىيعتبر لغة واصفة ذات جوهر وليست دالة فقط ، لغة ترسخ كل نشاطراغب في الاصطلاح المفهومي . ومن هنا جاء القصد منه كلمة أومجموعة من الكلمات تتجاوز دلالتها اللفظية والمعجمة إلى تأطيرتصورات فكرية وتسميتها في إطار معين تقوى على تشخيص وضبطالمفاهيم التي تنتجها ممارسة ما في لحظات معينة.
والمفهوم بهذا المعنى ، هو الذي يستطيع الإمساك بالعناصر الموحدة لهوالتمكن من انتظامها في قالب لفظي يمتلك قوة تجميعية وتكثيفية لماقد يبدو مشتتاً في التصور . وإذا كان المفهوم بهذه القوة التكثيفيةوالتأطيرية فإن الاشتغال بهذه الأداة – أي المفهوم – لاشك ستبرزمدى قوة وإدراك المشتغل بها بخطورة الاستعمال الاعتباطي لها ، لأنالتحكم في المفهوم هو في النهاية تحكم في المعرفة المراد إيصالهاوالقدرة على ضبط أنساق هذه المعرفة والتمكن من إبراز الانسجامالقائم بين المنهج والمفهوم أو على الأقل إبراز العلاقة الموجودة بينهما.
وتأسيساً على ذلك ، جاء تأكيد ميشيل فوكو في كتابه – أركيولوجياالمعرفة – من أن المفهوم بحد ذاته لاينحصر فقط في فعاليته النظرية أوفي تطوره التعاقبي ، بل في إطار قواعد استعماله.
إذن فالوظيفة المنطقية الرئيسية للمفاهيم تتجسد حسب تعريفالموسوعة الفلسفية في أنها تتقي تلك الأشياء التي تهمنا من وجهةنظر الممارسة والمعرفة وبفضل هذه الوظيفة تربط المفاهيم الكلماتبالأشياء المحددة مما يجعل من الممكن تحديد المعاني المضبوطةللكلمات والاشتغال بها في عملية التفكير.
بمعنى آخر ومن وجهة نظرنا الخاصة ، مايستقر في ذهن الإنسانحينما يدرك ظاهرة ما أو علاقة بين أكثر من ظاهرة ودلالات كل منالظواهر والعلاقات أو حينما يكون قادراً على استخدام اللغة فيالتعبير عن مثل هذا الإدراك.
وبذلك يعد المفهوم أحد أشكال انعكاس عالم الحقائق على العقلالإنساني وبمساعدته يمكن للإنسان التعرف على جوهر الظواهروالعمليات التي تجري في عالمها وأن يصل إلى تعميمات من جوانبهاوخصائصها الرئيسية.
تصنم حركة اللغة وغموض المفاهيم.
إن مما يثير مخاوفنا نحن العرب على مستقبلنا هو غموض المفاهيمالتي يعتمدها الفكر العربي في أهم وأخطر الموضوعات ارتباطاًبالحياة العربية . فقد صرفتنا محاولات بعض مفكرينا تسييس اللغةالعربية عن الكشف في قوانين التفاعل الداخلي للقوى الديناميكيةالفاعلة في هذه اللغة الحية ورصد تداعياتها في التحولات الاجتماعيةوالفكرية والسياسية . صرفتنا إلى الإشكاليات التي خلقتها الرموزاللغوية غامضة المفاهيم والتي تحولت إلى مشكلة يتعاظم خطرها علىأية محاولة فكرية لتعميق التواصل بيننا نحن العرب وبين قواهالسياسية والاجتماعية المختلفة.
وحول أهمية إزالة غموض المفاهيم وإزالة الاختلاف في معاني الألفاظومشكلات انعدام التواصل التي يخلقها الغموض ، نؤكد:- إن اللغةتؤثر في طريقة رؤية أهلها للعالم وفي طريقة فهمهم له ، ومتى ماكانهناك غموض في المفاهيم التي تستخدمها هذه اللغة ، لم ينقطعالتواصل بين أبناء الأمة الواحدة فقط، بل إن تواصل الأمة معحاضرها وماضيها سيكون هو الآخر محفوفاً بالكثير من المعوقاتالتي يمكن أن تصيب حالة التواصل هذه بالشلل التام . فالرمز اللغوييظل عاجزاً عن تأدية وظائفه الاجتماعية والقومية مالم يتوافر له شرطجوهري وأساسي ، ذلك هو انتقاله حاملاً
مدلوله من وعي الفرد والبيئة المكونة له إلى وعي الجماعة المتلقية له ،وتفقد المفردة أهميتها وتتحول إلى صنم عندما يعجز المجتمع عنتداولها اتصالياً كحامل لمعنى أو مفهوم محدد ، فإذا كانت هذه الرموزلاتمتلك مفهوماً أو إن المفاهيم التي تحملها غامضة فإنها ستقود إلىجملة من المشكلات الفكرية ، نذكر منها:-
1 – انقطاعها عن بيئة الوعي الاجتماعي الذي يستخدمها ، فممالاشك فيه أن الوعي الاجتماعي متطور ومتغير ، ويحتاج ذلك فيمايحتاج إليه إلى مفاهيم متطورة المحتوى حتى مع بقاء الرموز ثابتة ،وهنا تبدأ اللغة ومفاهيمها حركتها ، بالتوافق مع حركة الوعيالاجتماعي ، فتتحور بعض الرموز ودلالاتها وفقاً لمتطلبات حركة الوعيالاجتماعي ، وتحتفظ بعض المفاهيم برموزها متخلية عن محتواهاللمفهوم الذي يفرضه الوعي الجديد ، بينما تنتظم الباقيات في قالبالرمز والمحتوى الأول الذي صنعت به ، وهذه هي المفاهيم التي نحتاجإلى مراجعة المعاجم لفك طلاسم رموزها.
الغموض ينتاب النوع الأخير من المفاهيم بسبب التصنّم عند خطالبداية ، وقد يصيب الغموض النوع الذي تغير محتواه وبقي محافظاًعلى تركيبه الرمزي بسبب اختلاف المرجعيات التي تستخدمه ،ومفردات (الأمة) و(القومية) و(الوطنية) … من المفاهيم التي تستخدمفي حياتنا السياسية والفكرية بأكثر من قراءة ، ذلك أنها من المفاهيمالتي بقيت محافظة على تركيبتها الرمزية ، وسلمت محتواها للتغيير ،وهذا جعلها تكتسب مع الوقت معاني بعدد المجموعات السياسيةوالاجتماعية العاملة ضمن المجتمع.
2 – استمرار غموض مفاهيم المفردات قد يقود قطاعات مهمة منالمجتمع إلى خلق (كائنات غريبة لاتخضع لقوانين المنطق) ، على حدتعبير فيلسوف دائرة فيينا (Carnap) ، هذه الكائنات الوهمية ستخلقحواجز وجدراناً عالية بين مناطق الوعي الاجتماعي المختلفة ،وستفرض حالة من التقطع والتشرذم على الوعي الجمعي للمجتمع.
3 – التلكؤ في تنفيذ البعد الوظيفي للغة ، فكما هو معلوم أن اللغةتؤدي وظائفها في إطار النشاطات العملية والعقلية والعاطفية للإنسان، وعندما تتغير احتياجات الإنسان بتغير العصور والبيئات ، فإن اللغةتتكيف بما يوفر الرموز التي يمكن استخدامها في مواضعةالاحتياجات الجديدة . وعندما تكون اللغة محملة بعدد كبير منالمفاهيم الغامضة ، فإن قدرة اللغة على التنفيذ ستصاب بالإخفاقوالقصور.
ونتيجة لما سبق ذكره من معوقات … فإن غموض المفاهيم في اللغةسيجعلها كالسفينة على الأرض عاجزة عن الإبحار من الماضي إلىالحاضر في الطريق إلى المستقبل ، وعاجزة عن جمع كل أبناء الأمةتحت شراع واحد.
هناك حقائق كثيرة يتناساها معظم العاملين في تفكيك مفاهيم اللغةعند التعامل معها في أية قضية فكرية يطرقونها ، فيأخذون طريقالتعامل مع ذات الكلمة بالتعامل مع جذرها اللغوي . فعندما يتعرضالمفكرون العرب إلى المفاهيم في الفكر العربي يبدأون أولاً بذكر الجذراللغوي الذي انبثق منه المفهوم وينتهون بإيراد اشتقاقاته.
إن التعامل مع الجذر اللغوي للمفهوم يحمل في طياته خطأ التعاملمع المادة المكونة للمفردة وإهمال العلاقات الداخلية التي تربط بينمكونات المفردة ، وكذلك بينها وبين مايحيط بها … لذا ، فلا أجد مفراًمن التحول عن هذا المنهج إلى منهج أكثر شمولية يبدأ من البحث فيالجذر اللغوي للمفردة ، وينتقل إلى ما قد تظهره التصريفاتوالاشتقاقات اللغوية من علاقات داخلية بين الحروف التي تصنعالجذر وبين الحروف المضافة بحكم هذه التصريفات وصولاً إلى إبرازالبيئات الجديدة التي ترتبط بها هذه التصريفات والتي لم تكن واضحةعند البحث في الجذر اللغوي ، ووصولاً إلى التتابع التاريخي لتطورمفهوم المفردة ، وانتهاء بالبحث في المفاهيم الأخرى التي تظهر ذاتالدلالات ولكن برموز لغوية مختلفة ، ففي لغتنا الكثير من الرموز الدالةعلى مفهوم واحد ومن غير المنطق أن نغرق عند شرح المفهوم في جذررمز لغوي واحد ونترك الرموز الأخرى التي تشرح ذات المفهوم ولربمابوضوح أكبر.
إنني لاأدعي هنا بأني أقدم حلاً لمشكلة غموض المفاهيم في حياتناالفكرية بالمنهج الذي اقترحته ، ولكني أسجل أهمية الموضوع متوجهاًبالرجاء إلى المجامع والمراكز العلمية والفكرية العربية بأن تأخذ هذاالموضوع بجدية لاتقل عن تلك التي توليها لموضوع ترجمة المصطلحالأجنبي الوافد . فغموض مفردات اللغة أبلغ أثر في الحياة العربيةالقادمة من استقبال اللغة لمفردات وافدة ، فهذه تشلها تماماًولامستقبل سالكاً لأمة تدخل عصر ما بعد التقنيات … بلغة مشلولة.
تسويق المفاهيم وتكييف الاتجاهات الفكرية.
حتى وقت قريب كانت الطروحات الفكرية والسياسية والإعلامية الغربيةتسمي شرقي البحر الأبيض المتوسط باسم الشرق الأدنى . وكان هذاالمفهوم شائعاً إلى درجة قناعة سكان هذه المنطقة بأنهم شرق أدنىفعلاً . إلاّ أن هذه القناعة تغيرت منذ أن عمم الأمريكيون مفهوماً آخر ،وهو مفهوم – الشرق الأوسط – وسواء كان الأمر أمر أدنى أم متوسطفإن الشيء الأكيد هو أننا كعرب لادخل لنا بعالم التسمية هذا ، إنهميسمون الأشياء هناك في الغرب الغامض الذي لم يتضح غموضه لناحتى الآن رغم بعثاتنا الدراسية والدبلوماسية له منذ أكثر من قرن.
ولعل مقارنة سريعة بين كتابات الرحالة الغربيين إلى المنطقة العربيةوكتابات الرحالة العرب إلى الغرب ، نلمس أنها خير دليل على فشلناليس في تسمية ما هو غريب فقط بل وفي تسمية ما هو عربي أيضاً.
فمنذ أن أصبحت أوربا قوة معرفية وعسكرية واقتصادية ، أصبحتتملك الحق – شئنا أم أبينا – في تصور العالم الآخر منسوباً إليهاوفي أن يتصور هذا العالم الآخر نفسه منسوباً إلى الغرب.
هكذا فإن مفاهيم من قبيل – الأدنى والمتوسط – وغيرها كثيرة جداًليست إلاّ جزءاً من الصورة العامة ، صورة الموازين الخاصة التيتتحول إلى موازين عامة وتفرض نفسها على خصوصيتنا ، فلانكادنتبين لها وجوداً.
وحسب مفاهيمهم ، نحن الآن – شرق أوسط – وشعبنا العربي عبارةعن مجموعات دينية وعرقية لم تتكون حتى الآن على أساس قومي ،ونحن بعد كل هذا وذاك موضوع مصالح حيوية لهذا الغرب نفسه.
هكذا تكتمل دائرة تشويه الغرب للمفهوم ، فتبدأ من حجب الهويةالعربية لتنتهي إلى فرض السياسات التي تنبع من هكذا مفهوممنطقياً . إنه الخطاب الغربي الذي تردده أجهزة الإعلام والكتّابالسياسيون بإصرار متواصل في عالم الغرب.
ونزيد الأمر اكتمالاً حين نتداول أمثال هذه المفاهيم أو نتجاهلها وكأنهالاتعنينا أو أنها تعني سكان كوكب آخر ، فلانكاد نفتح أي مطبوععربي أو نقرأ تحليلاً سياسياً أو عسكرياً إلاّ ووجدنا أمثال هذهالمفاهيم ، ولانكاد نعثر على مايعتبر مثل هذه المفاهيم مادة قابلة للنقد.
إن أول ماينبغي عمله في التعامل مع هذا الأمر الخاص بالمفاهيمالغربية هو الوقوف أمامها قبل الانجرار إلى فخ استخدامها . ويقيناًستثمر الوقفة رفضها ونبذها. موقف مطلوب ولكنه غير كافٍ إذ لابد أننقرنه بطرح مفاهيمنا نحن والعمل على تعميمها.
إنه من الخطأ الاعتقاد بأن وظيفة المفهوم سواء كان سياسياً أم أدبياًأم عسكرياً أم جغرافياً أم اقتصادياً مجرد إشارة معرفية إلى موضوع. إن وظيفته قائمة في تكييف النظرة الإنسانية إلى الموضوع ، أيتكييف الاتجاه الفكري ومنح العقل اتجاهاً محدداً مع طمسالاتجاهات الممكنة.
وإذا كان للمفهوم قوة تكثيفية وتأطيرية ، فإن الاشتغال بهذه الأداة ،ولاشك، ستبرز مدى قوة إدراك المشتغل بها بخطورة الاستعمالالاعتباطي لها ، لأن التحكم في المفهوم هو في النهاية تحكم فيالمعرفة المراد إيصالها والقدرة على ضبط أنساق هذه المعرفة والتمكنمن إبراز الانسجام القائم بين المنهج والمفهوم ، أو على الأقل إبرازالعلاقة الموجودة بينهما . لاشك أن كل إخلال بهذه القدرات من شأنهأن يخل بالقصد المنهجي والمعرفي الذي يرمي إليه مستعمل المفهوم.
إن أي شيء لايمتلك تسمية في اللغة هو شيء غير موجود وبالتاليشيء غير معروف مع مايتبع ذلك من سلوك . وبالمقابل ، فإن أي شيءمعروف ومحدد لايمتلك فقط خاصية الوجود وإنما خاصية السلوكالإنساني تجاهه.
وهكذا ، فإن كلمة – العدو – ليست عابثة ، إنها تستثير حالة إدراكيةوحركية مختلفة عما تثيره كلمة – صديق – وإذا عددنا أمثال هذهالكلمات نوعاً من المفاهيم فإن وظيفتها الحقيقية هي تكييف العقلوالسلوك وبناء تصور معين للعالم . وانطلاقاً من هذا التصور يتحددتعامل الفرد والمجموع من عناصر هذا العالم.
إن صناعة المعرفة في عالم اليوم بشتى مستوياتها ، هي صناعة غربيةغالباً، ومن النادر أن تنجح مجموعة دولية في كسر هذا الاحتكار ،وإن حاولت فإن حرباً رهيبة تخاض لتشويه مصداقية هذه المجموعة . ولهذه الأسباب تحتج
الدوائر الغربية وينسحب بعضها من المؤتمرات والهيئات الدولية حينتنتبه هذه الأخيرة إلى الخلل الراهن في نظم الاتصالات وبثالمعلومات التي تسيطر عليها مؤسساتها سيطرة مطلقة.
إن الأسئلة على مثل هذه الحرب الفكرية متوفرة بكثرة ، وإن كانتصعوبة الإحاطة بها وبمراكزها تبعث على اليأس في نفوس أكثرالباحثين نزاهة.
ولعل أقرب أمثلة هذه الحرب ، تلك التي تشنها الأجهزة الإعلاميةالغربية على مفاهيم – الفدائي ، الثورة، التحرر ، المجاهد ، الانتفاضة، المقاومة … – في العالم كله ، واستطاعت بوسائل عدة ليس الإعلامإلاّ أحدها ، إحلال مفاهيم – الإرهابي ، التطرف ، الوحشية – محلالمفاهيم السابقة.
كذلك بالنسبة إلى مفهوم – إسلاميون – الذي يُلقي في وعي المتلقيأن غيره لاإسلامي . وكذلك الحال بالنسبة لمفهوم – متدينون – الذييُفهم منه أن سواه غير متدين . إن هذه المفاهيم كلها تحتاج إلىمراجعة في لغة التخاطب والكتابة ، وعدم الدقة فيها أمر بالغ الخطورة. فاللغة مهما حسنت النيات من طبيعتها إنها محملة بالمعانيوالإيحاءات والواقع النفسي المباشر وغير المباشر ، وهي إيحاءات تقعفي نفوس شتى وعقول على مستويات مختلفة من الإدراك.
وعبثاً تحاول جهات أو دوائر عربية إثارة التمييز المهم بين هذه المفاهيم، فقد دفنت في قاموس الإعلام العربي نفسه بسهولة ، وذلك لأنالتسميات الأولى فقدت مغزاها في العقل العربي بعد حملة تشويشفي غاية التخطيط الدقيق في مجالات الفكر كافة.
التضليل الاستراتيجي والسيكولوجي
مفهوم الشرق الأوسط نموذجاً
يتداول معظمنا مفهوم الشرق الأوسط في الكثير من كتاباته ، ولكنهل تبادر إلى أذهاننا ماهية مفهوم هذا المفهوم ؟ وكيف دخل إلىالمنطقة العربية والإسلامية ؟ ومن هي الجهات التي تروج له ؟ وماهوتعريفه ؟
الشرق الأوسط ، مفهوم مبهم ومطاط ، ألفنا سماعه وقراءته يومياً عبروسائل الإعلام ، ويكاد لايخلو منه أي حدث يقع في منطقة جغرافيةمترامية الأطراف سواء كان هذا الحدث له علاقة بمضيق هرمز أوتأمين استمرار تدفق النفط العربي إلى أوربا واليابان أو يتعلق بإيرانوأفغانستان ، بالإضافة إلى مايتعلق بالعراق الآن والأحوال فيفلسطين وأحياناً حتى بالمشكلة القبرصية ودارفور السودانية … ولعلكثرة استخدام وتعميم هذا المفهوم على مناطق جغرافية متنوعة منشأنه إفراغه من أي محتوى سياسي أو مدلول عربي قومي ولتحميلهمعان لاتمت بصلة إلى الجوهر.
والشرق الأوسط ، بوصفه مفترقاً لقارات ثلاث فإنه يمثل تركيبة تاريخيةتشارك فيها ثلاث مجموعات بشرية وثقافية ولغوية كبرى ، هي العربيةوالإيرانية والتركية ، ويمكننا ربط مفهوم الشرق الأوسط بثلاثة أحداثتاريخية كبرى ، وهي:- ظهور المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر. وتطور الظاهرة الاستعمارية في أواخر ذلك القرن وفي مطلع القرنالعشرين . وقيام دولة إسرائيل عام 1948.
لقد درج الغرب على استخدام مفهوم الشرق الأوسط بهدف خلقمفهوم سياسي وجغرافي لمنطقة يعيش فيها العرب ويتواجدون فيهاولاذكر لهم فيه . واستطاع هذا الغرب ترسيخ هذا المفهوم الأجوف فيالأذهان عبر حقبة طويلة من الزمن لتحقيق أهداف غير مشروعة باتتمعروفة لدى العامة ، وذلك بأن جعل العرب يشعرون ويقرون بلويوافقون على مضض بأن المنطقة التي ينتمون إليها يوجد فيها منهم جيران لهم كالأتراك والإيرانيون والأفغان ، ولإدخال عنصر غريبإلى هذه المنطقة المتمثل بدولة إسرائيل دون أن ينفر أحد منها أو يحسبغرابة وجودها وكأنها جزء منهم.
ومع ذلك فإن التسمية تختلف من مصدر لآخر ، فهناك جهات تطلقعلى الشرق الأوسط تسمية الشرق الأدنى ، وهو يعني على الأعمالأغلب فلسطين والمناطق المواجهة للبحر الأبيض المتوسط ، وهذاالتحديد يكثر السوفييت سابقاً من استخدامه في وسائل إعلامهمبعكس الأمريكان الذين يطلقون عليه اسم جنوب غرب آسيا والذييضم كافة أرجاء المنطقة حتى حدود الباكستان والمحيط الهندي.
وفي هذا الإطار قام الأمريكان بدراسة الشرق الأوسط فاعتبروه منوجهة نظرهم مفهوم اعتباطي في مدلوله الضيق كونه يشمل مصروشبه الجزيرة العربية وتركيا وإيران . وفي تجاه آخر ، يرى العرب أنهذا المفهوم هو عبارة عن أثر من آثار الغزو الثقافي للمنطقة العربية ،فهو يفترض أن أوربا هي مركز العالم ، وبناء على ذلك قامت الدولةالأوربية بتقسيم العالم حسب موقعه منها قرباً أو بعداً ، فأطلقت مفهومالشرق الأدنى على المناطق المجاورة لها ثم أطلقت مفهوم الشرقالأوسط على المناطق الأكثر بعداً عنها ، ومفهوم الشرق الأقصى علىالمناطق البعيدة جداً عن أوربا ، وهذه المفاهيم هي في الأصل عسكريةاستعمارية هدفها التهرب من الحقيقة.
وقد أمسى مفهوم الشرق الأوسط يلبي حاجة جيوبوليتيكية منذ أنأفلحت الحركة الصهيونية في ترجمة وعد بلفور إلى واقع قائم علىالأرض ، فقيام إسرائيل أحدث من منظور الجغرافيا السياسيةقطيعتين:-
الأولى – مع مفهوم الشرق الذي كان يسمى المنطقة العربية في الحقبةالاستعمارية.
الثانية – مع مفهوم العالم العربي الذي فرض نفسه في المجالالتداولي إبان الحقبة الاستقلالية.
وربما تكون هاتان القطيعتان هما اللتان أسستا لثلاث نتائج تبرزدائماً في الكتابات الغربية:-
1- إن هذه المنطقة لاتسمى في الكتابات الغربية باسم ينبثق منخصائصها أو طبيعتها ، ولكن سميت دائماً من حيث علاقتها بالغير.
2 – إن هذا المفهوم الشرق أوسطي ليس من المفاهيم الجغرافيةالمتعارف عليها بل هو في المقام الأول تعبير سياسي يترتب عليه دائماًإدخال دول غير عربية في المنطقة ، وفي أغلب الأحيان إخراج دولعربية منها.
3 – إن الشرق الأوسط يبدو في الكتابات الغربية منطقة تضم مزيجاًمن القوميات والسلالات والأديان والشعوب واللغات ، القاعدة فيه هيالتعدد والتباين وليس الوحدة والتماثل.
الشرق الأوسط في الموسوعات الغربية والمعاجم العربية يفسر منقبلها بمعنى مختلف عن الآخر . فالموسوعة البريطانية تورد:- إن هذاالمفهوم عرف منذ بداية الحرب العالمية الثانية ، وأطلق على الأراضيالممتدة من الجنوب الشرقي لساحل البحر الأبيض المتوسط ، وابتداءاًمن المغرب إلى دول الجزيرة العربية بالإضافة إلى إيران وأحياناً علىالدول المحيطة بها . وهذه التسمية الجغرافية أطلقها الغرب ، وقسمالمنطقة إلى ثلاث تقسيمات:- الشرق الأدنى ، وهي المناطق القريبة منأوربا . الشرق الأوسط ، يمتد من الخليج العربي إلى جنوب غرب آسيا. الشرق الأقصى ، يمتد من الخليج الباسيفيكي ومقابله . والاختلاففي استخدام هذه المفهومات بدأ منذ الحرب العالمية الثانية ، عندماتلقى الجيش البريطاني الأوامر من قيادته بالمرابطة في مصر، وتمتحديد التسمية خلال تلك الفترة . والدول التي تضم الشرق الأوسطهي (تركيا ، اليونان ، قبرص ، سوريا ، لبنان ، العراق ، إيران ،فلسطين ، الأردن ، مصر ، السودان ، ليبيا ، والجزيرة العربية) . ثمتوسع مدلول التسمية وأضيفت مناطق أخرى للشرق الأوسط ، وهيتونس ، الجزائر ، المغرب ، والدول المستعمرة من قبل فرنسا . ولاعتبارات عسكرية وجغرافية أُلحقت باكستان وأفغانستان بالمنطقة.
وبمعنى أشمل نستطيع القول بأن التسمية وماشملت من إضافاتكانت محصلة لتوزيع وتقسيم مراكز النفوذ بين فرنسا وبريطانيا بعدالحرب العالمية الثانية.
القاموس السياسي (عطا الله) يعرّف الشرق الأوسط بأنه مفهومجغرافي يطلق على الأقليم الذي يضم الدول الآسيوية والأفريقيةالمتجاورة القريبة من أوربا. ولايختلف تعريف المنجد (لويس معلوف) عن سابقه فيما ذكر ، فيقول:- إنه اسم يطلق على بعض مناطق آسياالجنوبية الغربية . أما الموسوعة السياسية (عبد الوهاب الكيالي) فتورد:- إنه ليس لهذا المفهوم مدلول دقيق.
أما النشرة السنوية للشرق الأوسط ، فقد ربطت هذا المفهوم بدولالنفط ، وهذه النشرة تصدر عن دائرة الأبحاث في مجلة الإيكونومستالبريطانية ، تعرّف الشرق الأوسط بـ:- أصبح الشرق الأوسط منذ عام1973 مرادفاً وبشكل خاطئ للبلدان العربية المنتجة للنفط ، ويستخدمليتضمن البلدان غير العربية بحيث يمتد ليشمل تركيا في الشمال ،وموريتانيا في الغرب ، والصومال في الجنوب ، وغالباً ما يشمل فوقذلك أفغانستان وباكستان. الحقيقة ، إن مفهوم الشرق الأوسط وغيرهمن المفاهيم التي نُحتت في مدارس الاستشراق ، لها أهدافهاالسياسية والنفسية والحضارية كمحاولة لغسل الدماغ وطمسالحقائق التاريخية والحضارية والثقافية . وإن مفهوم الشرق الأوسطمن أكثر المفاهيم تضليلاً.
وإذا أخذنا نفوس الوطن العربي والعالم الإسلامي في الشرق الأوسط، فإنها تصل إلى (500) مليون نسمة ، بمعنى أن ثلث سكان العالمالإسلامي البالغ عددهم اكثر من مليار نسمة يدينون بالديانةالاسلامية بمعنى أن الديانة الإسلامية هي الأولى في العالم . وإذاكان الوطن العربي قلب العالم الإسلامي فإنه يعتبر خطأ ستراتيجياًالسير وراء استعمال المفهوم الذي يريد أن يطمس مفهوم الوطنالعربي والعالم الإسلامي ، إن لم يكن قد طمس بالفعل.
لقد كانت ومازالت المنطقة التي تمتد من المغرب غرباً حتى الهند شرقاً، منطقة تمثل الحضارة العربية والإسلامية . وقد كانت المنطقة منذأكثر من ثلاثة عشر قرناً منذ الفتوحات الإسلامية وحتى الحرب العالميةالأولى ، وهي ذات شخصية سياسية موحدة تقريباً . ورغم أن الدولةالعثمانية سيطرت على ثلث القارة الأوربية وأحياناً ربع القارة الأوربيةبعد تراجعها ، فإن أوربا في القرن التاسع عشر وقبلها كانت تستثنيالدولة العثمانية من النظام الدولي الذي هو أوربي، ودخلت الدولةالعثمانية عام 1856 ، ضمن المجموعة الأوربية بعد حرب القرم وبعد أنتبنت الإصلاحات الإدارية كعضو مراقب وليس فعالاً في المجموعة ومنأجل لعبة توازن القوى.
وظهر ماعرف تاريخياً المسألة الشرقية ، الطموحات الروسية والتوجهنحو البحار الدافئة وبريطانيا وطموحاتها حتى الهند والصين ، وكذلكفرنسا ثم بعد ذلك لحقت بهم طموحات ألمانيا القومية . ولقد بدأالتنافس على أطراف الدولة العثمانية وممتلكاتها في المغرب العربي ،واحتلت فرنسا الجزائر ، وكذلك تم فصل أجزاء من الدولة العثمانية فيأوربا تحت شعار القوميات بدعم من الدول الأوربية مثل اليونانويوغسلافيا وألبانيا وغيرها.
لقد ارتبط مفهوم الشرق الأدنى بالمدرسة العثمانية ، كذلك ارتبطالشرق الأدنى تاريخياً بالتنافس الأوربي على الدولة العثمانية . وحيثأن بريطانيا كانت قوتها وعظمتها الإمبراطورية مرتبطة بالقوة البحرية. وعليه تأثر المفكر الاستراتيجي ألفرد ماهان بهذه القوة ، فأخرجكتابه (أثر القوة البحرية على التاريخ) عام 1890، والذي بنى فيهنظريته (القوة البحرية والسيطرة على العالم) باستقرار التاريخالبريطاني . وأكد ماهان ، أن امتلاك الدولة للقوة البحرية كفيلبسيطرة هذه الدولة على العالم . وهو موجه إلى الولايات المتحدة كقوةصاعدة مع بداية القرن العشرين . وفي مقالة له نشرتها مجلةNational Review في لندن في عدد أيلول عام 1902 تحت عنوان(الخليج الفارسي والعلاقات الدولية). حذر ماهان ، من القوة الروسيةوالبحار الدافئة ، أي التوجه الروسي نحو المحيط الهندي . لذلك ،أشار إلى أهمية وجود قواعد عسكرية بريطانية في منطقة الخليجالعربي لحماية النفوذ والاستعمار البريطاني في الهند وشرق آسيا . ولقد ذكر لأول مرة في مقاله مفهوم الشرق الأوسط ، ولقد اقتبسمراسل جريدة Times البريطانية في تقاريره عن المنطقة هذا المفهومفي تشرين أول / 1902.
وتردد في الصحافة هذا المفهوم فيما بعد أكثر من مرة ، وأصبحموضوعاً مثيراً للصحافة عند الحديث عن المنطقة ، وخاصة من ناحيةاستراتيجية . وأصبحت تشير لها بالشرق الأوسط . ولذلك ، يعتبرماهان أول من استعمل مفهوم الشرق الأوسط في نظر كثير منالكتّاب والمؤرخين . وقد اقترن المفهوم بالأهمية الاستراتيجية للهندوالتنافس بين الإمبراطورية الروسية وبريطانيا بسبب توجه قيصرروسيا إلى الجنوب ، وكذلك دخلت ألمانيا وفرنسا التنافس حول المنطقة، وكانت سكة حديد برلين – بغداد إحدى أزمات الحرب العالمية الأولى.
لقد بدأ المفهوم بأبعاده الاستراتيجية ثم تحول إلى مفهوم سياسي معالصراع العربي – الإسرائيلي عندما أصبحنا نسمع بعد حرب 1967 ، قضية الشرق الأوسط ، ثم بعد مرحلة السلام أخذ المفهوم بعداًاقتصادياً مثل نظام الشرق الأوسط والسوق الشرق أوسطية.
وإذا كان هذا المفهوم قد أخذ الطابع الاستراتيجي منذ البداية لخدمةالمصالح الغربية ، إلاّ أنه أخذ طابعاً مطاطاً في حدوده ، فقد كانتالأدبيات الغربية تشير إلى الدولة العثمانية وممتلكاتها ، ومنه الوطنالعربي على اعتبار أنها (العالم الإسلامي) . وعندما كان المؤرخوالفيلسوف البريطاني آرنولد توينبي يشرف على الدراسة السنوية عنالعلاقات الدولية في
المعهد الملكي بلندن فكان يفرد فصلاً كاملاً تحت عنوان العالمالإسلامي. وعندما أُلغيت الخلافة الإسلامية عام 1924 ، فقد أفردالفصل الذي يتعلق بالوطن العربي والعالم الإسلامي تحت عنوانالشرق الأوسط ، وقبل ذلك فقد أصدر المستشرق المعروف زويمر عام1911 ، مجلة مازالت تصدر حتى الآن تحت عنوانThe Muslim World .
وإذا كانت الحرب اليابانية – الصينية مع بداية القرن العشرين قدأخرجت مفهوم الشرق الأقصى خلافاً لمسألة الدولة العثمانية الشرقالأدنى ، فإن مفهوم الشرق الأوسط الذي أطلقه المفكر الاستراتيجيماهان قد أصبح يطفو على السطح وأخذ أبعاداً حضارية . ولقد أشارونستون تشرشل عندما كان وزيراً للمستعمرات البريطانية بعد الحربالعالمية الأولى في آذار / 1921:- إن الشرق الأوسط يشمل المنطقةالواقعة بين البوسفور والهند ، ومع نشوب الحرب العالمية الثانية وسقوطفرنسا ومجيء حكومة فيشي وتشكيل قيادة عسكرية للحلفاء تحتاسم مكتب الشرق الأوسط في القاهرة ، أصبح مفهوم الشرق الأوسطمرتبطاً بالأهمية الاستراتيجية للمنطقة والمصالح البريطانية وخاصةمن الناحية العسكرية وسير العمليات الحربية.
وبعد سقوط حكومة تشرشل ومجيء حكومة كليمنت آتلي ، ولدى سؤالالأخير عن مفهوم الشرق الأوسط ، أشار إلى أنه يقصد به العالمالعربي والمنطقة المجاورة له ، أي الدول الإسلامية ، كتركيا وإيرانوباكستان . وقد أشار جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكيفي عهد الرئيس آيزنهاور ، إلى أن مفهوم الشرق الأوسط يمتد منليبيا وحتى باكستان شرقاً ، ومن تركيا شمالاً حتى جنوب الجزيرةالعربية . وبعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 في قلب الوطنالعربي والعالم الإسلامي ، فقد أخذ مفهوم الشرق الأوسط بعداًحضارياً واستراتيجياً عند إسرائيل ، فقد أكد ديفيد بن غوريون علىأن إسرائيل يجب أن تؤكد على أن إقليم الشرق الأوسط إقليم غيرمتجانس . وأشار أيضاً إلى أن على إسرائيل أن تخلق مفهوماًسيكولوجياً بأن الشرق الأوسط ليس محيطاً عربياً بل إنه خليط أومزيج من الثقافات والديانات والأجناس . لذلك ، أخذ المفهوم طابعالمعركة الحضارية لقلب المفاهيم الحضارية من منطقة أغلبية متجانسةحضارياً ودينياً وحتى مذهبياً إلى أن تجد إسرائيل لها مكاناً بينالأقليات حسب مانريد تصويره ، لأن التأكيد على المفهوم العربيوالإسلامي يجعل على إسرائيل أن تعيش في منطقة الأغلبية . كما إنهيصعب أن تجد شرعية سيكولوجية ثقافية داخل الأقاليم العربيوالإسلامي . وبذلك ، دخل المفهوم ضمن التضليل الاستراتيجيالحضاري المتعمد ، فعندما يُسأل الطالب في أوربا وأمريكا عنالشرق الأوسط ، فإنه يفكر بأنه إسرائيل ، ويجب أن لانجد غرابة فيذلك ، لأن الترويج الإعلامي والسياسي لهذا المفهوم أوجد هذاالانطباع وكأن إسرائيل هي الأغلبية في المنطقة، رغم أن اليهودلايشكلون سوى (2%) من عدد سكان الإقليم.
إن محاولة طمس التسمية العربية والإسلامية التي هي حضارية فيأساسها، وهي استراتيجية بعيدة المدى ، وإذا استمرت الصحافةوالمؤلفات والمقرارات الدراسية تردد منطقة أو إقليم الشرق الأوسط رغمأنه الإقليم العربي والإسلامي ، فإننا نقوم بتضليل طلابنا ونحاولطمس الشخصية الحضارية للإقليم سواء شعرنا بذلك أم لم نشعر ،وبدلاً من أن تصهرنا إسرائيل في ماهية المفهوم ، فإن علينا نحنالعرب أن نصهر إسرائيل في الإقليم حضارياً ، أي الإقليم العربيوالإسلامي ومن ثم إزالة كيانها المسخ ، لأن المفهوم أخذ أبعاداًحضارية وثقافية ضمنها دعوات إسرائيل للتطبيع الثقافي الشرقأوسطي أو النظام الشرق أوسطي الجديد.
يجب علينا أن نركز على رد الاعتبار إلى مفهومنا الحقيقي الإقليمالعربي والإسلامي بدلاً من مفهوم الشرق الأوسط ، لأن المفهوم بدأفي أصله ضمن الاستراتيجية الاستعمارية الغربية التي ارتبطتوالتقت مع الاستراتيجية الإسرائيلية ، لذلك يجب أن نؤكد على الحقيقة، بأن إقليمنا إقليم متجانس وليس متنوعاً ، وأن نؤكد على مفهومناإعلامياً وسياسياً واستراتيجياً واقتصادياً ، خاصة وأن المفكرينوالكتاب الغربيين والإسرائيليين يؤكدون على طمس الصفة الحضاريةكإقليم متميز ، بل إن تضليلهم يذهب أبعد من الشرق الأوسط ليشكلالتضليل الضيق مثل تعابير الغرب الاستعماري ، منطقة الخليجالفارسي ، شمال أفريقيا ، أو ماظهر أيضاً عند إنشاء قوات الانتشارالسريع الأمريكية عام 1980 ، باعتبارها لمنطقة جنوب غرب آسيا وهيفي الحقيقة المنطقة العربية والإسلامية حول الجزيرة العربية التيتضمنها مبدأ كارتر.
إن المسألة في رأينا لاتقتصر على المسمى والمعنى اللغوي والجغرافيللمفهوم بقدر ما يحمله هذا المفهوم من مضمون ومفهوم سياسي ، لأنهدف إطلاق هذا المفهوم وتطبيقه ، كانا ولايزالان الإبقاء على تفكيكالأقطار العربية ومنع تقدمها …
إننا باستعمال مفهوم الشرق الأوسط نسير في طمس أنفسنا والسيرفي الاستراتيجية الإسرائيلية والغربية للطمس الحضاري والثقافي . فهل نعي خطر التضليل الاستراتيجي والسيكولوجي لمفهوم الشرقالأوسط الذي ارتبط بأهداف استعمارية خبيثة ؟!
خلط المفاهيم وترويج الضلالات.
إن التداخل العشوائي بين المفاهيم ، عادة مايكون غير مفهوم أصلاً . لذا ، فإن أغلبنا للأسف مازال يتعامل مع هذه المفاهيم ولم يشعربالحاجة إلى تحديدها كما نشعر اليوم . ولعل مرد ذلك أنه استمر فيالتعامل معها بلا انقطاع ودون أن يحتك بمفاهيم جديدة لها.
أننا ، وفي هذه المرحلة من تاريخنا نجد أنفسنا أمام مفاهيمنستخدمها يومياً دون أن يكون لها مدلولات واضحة محددة فيأذهاننا ، فكثيراً مانجد المفهوم الواحد يحمل أكثر من مدلول ، وقديشيع استخدامه وله عدة دلالات تختلف بين مستخدميه ، مما ينجم عنذلك خلافات فكرية حول قضايا حيوية بسبب عدم التحديد هذا . ولقدكان يمكن لبعض هذا الخلاف ألاّ يبرز لو بدأنا بالتحديد ، وكان منالممكن أن يطبق أو يحسم لو استدركنا وحددنا . وفيما يأتي نوردنماذج لبعض المفاهيم الدارجة على سبيل المثال لا الحصر.
ـــــ العولمة
هناك مقولة ل فولتير (ان اردت ان تتحدث معي فحدد مفاهيمك ) . هذهالمقولة يجب استحضارها ، وبخاصة في المجالات الفكرية ، ذلك انعدم تعريف المفهوم والاتفاق على دلالته هو جزء من مشكلة الممارسةالمنتمية الى هذا المفهوم ، فالمفاهيم الاجتماعية والسياسية حمالة اوجه. وعليه يمطن القول ان الجدل الدائر حول العولمة ما بين مؤيد ومعلاضلها ، يعود الى تباين تعريفات العولمة وتباين الخلفيات الايدولوجيةوالثقافية لكل طرف ، وحتى اليوم يوجد عشرات التعريفات للعولمة وجزءكبير منها هي تعريفات ايديولوجية ، اي تنطلق من مواقف مسبقةللمصدر الحضاري المنتج للمفهوم ومشتملاته السياسية والاقتصاديةـــــــ الولايات المتحدة الامريكية ــــــ ما دفع البعض الى تسميتها بالامركة Americanization والبعض سماها ب الشوملةglobalization و mondialisation .فالكلمة تعني وضع الشيءعلىمستوى عالمي ، او تعميم خاص وطني ليصبح عالميا ن او هي مسعىلازالة الحدود والموانع ما بين الدول للسماح بحرية الافكار والثقافاتوالاموال والسلع من دون قيود تفرضها السيادة الوطنية اوالخصوصيات القومية .
ان اي محاولة لتفكيك مفهوم العولمة من اجل مقاربته اجرائياييطلب منالباحث الغوص في حقول معرفية متعددة كعلم اللغة واللسانيات وعلمالاقتصاد وعلم السياسة ، اضافة الى علوم الفلسفة والاعلام والتاريخ. وان كانت هذه المقاربة الشمولية ترمي الى التعرف على حقيقةالمفهوم الظاهرة ،الا ان الحقيقة في هذا المجال تبقى نسبية كما هيفي مجمل العلوم الانسانية ، وبالتالي ، ففي اعتقادنا ان الجهدالبحثي المعرفي في هذا المجال يجب ان ينصب على البحث عن قاسممشترك لمجمل التأويلات والتعريفات يهيىءلغة تخاطب متفق عليهاتمكننا من قراءة واقع العولمة .ضبط مفهوم العولمة يتطلب ايضا تميزهوفصله عن مفاهيم او مصطلحات قريبة منه او داخله معه كالحداثةmodernization فعلى الرغم من ان العولمة نتاج الليبرالية الجديدة ،وهذه الاخيرة هي نتاج الحداثة وما بعد الحداثة postmodernity ومابعد لايعني القطيعة بل تمثل الشيء وتجاوزه . الا اننا نعتقد ان صلةالحداثة بالعولمة كليهما نعت لواقع مغاير عما سبقه ، فعندما تم تداولتعبير الحديث modern اواخر القرن التاسع عشر
وبداية القرن العشرين ، كان مرادفا لتعبير ( الان ) والعولمة هي حداثة( الان ) مع الاخذ بعين الاعتبار ما اضفي عليها من مستجدات .
ــــــ الغزو الثقافي
لم أستطع حتى لحظة كتابة هذا المقال أن أجد تعريفاً محدداً لمفهومالغزو الثقافي في جميع الأدبيات التي وقعت في يدي ، وهي كثيرة ،والتي كتبت عن ذلك (الغول) المخيف المجهول الهوية.
لماذا كان نقل المعرفة في تراثنا السالف والاتصال بالأمم وبحضاراتهاوبصالحها وبطالحها . لماذا كان هذا كله حضارة بينما تصبح نفسالحالة الحضارية المعاصرة غزواً ثقافياً ؟!
وهل تعتقد رموزنا الفكرية ، وهل يحلم مثقفونا ، بأن هنالك (فلتر) انتقائياً يعيننا على إنشاء ثقافة عربية انتقائية تأخذ الصالح وتتركالطالح ؟ أم هل المسألة هي مسألة تكوين ثقافي يمكننا من مواجهةالعالم بأكمله دون خوف أو وجل ؟
إنني بصراحة بالغة ودون محاباة لأحد ، اشك شكاً كبيراً في نياتأولئك المثقفين العرب الذين يروجون لأسطورة الغزو الثقافي هذه ،لأنني اعتقد اعتقاداً جازماً بأنهم فشلوا في إنشاء ثقافة عربية تكوينيةقادرة على مواجهة العالم وعلى التفاعل الحضاري معه ، فراحوايروجون لوجود (بعبع) اسمه الغزو الثقافي حتى لاينكشف ضعفهموتقصيرهم الموروث الأصيل في شخصيتهم الثقافية العقيمة.
أنا شخصياً أضع لجميع أولئك المثقفين الخائفين تحدياً دائماً للاختيارالملتزم بين إنتاج ثقافة عربية تكوينية قادرة على مواجهة العالمبصالحه وطالحه ، وبين الاختباء تحت السجادة من (بعبع) الغزوالثقافي.
ـــــــ الأصالة والتعريب
لايوجد مفهومان عقيمان غامضان في ثقافتنا مثل مفهومي الأصالةوالمعاصرة، ومفهومي التعريب والتغريب . وأعتقد بأنهما مترابطانومتلازمان . فبينما يعني مفهوم الأصالة في القاموس الإنكليزيOriginality ، أي إبداع وابتكار، يعني هذا المفهوم في ثقافتنا ،الالتزام بصورة ماضوية طوباوية راكدة ساكنة في عالم المطلق . بينمايعني مفهوم التعريب ، الإنتاج الذاتي العربي للمعرفة مستعملاًالترجمة كأداة فقط لإنتاج تلك المعرفة حسب التجربة العربية الإسلاميةالسالفة . وبذلك نجد بأن التعريب في الثقافة العربية قد أصبح يعنيفقط الترجمة الآلية البحتة ونحت المفردات المرادفة الأجنبية واستلهامالشعر الجاهلي للتعبير عن مفاهيم عصر التلاعب بالجينات.
وبين ثنائية الأصالة والمعاصرة غير الموجودة وبين ثنائية التعريبوالتغريب غير المفهومة ، نتيه جيل بعد جيل.
لاتوجد لغة علمية ولغة غير علمية ، وما تستطيع أن تعبر عنه علمياً أيةلغة في العالم تستطيع اللغة العربية التعبير عنه ببساطة وسهولة فيالعلوم والفنون . ولكن حتماً يوجد عقل علمي وثقافة علمية بينما يوجدأيضاً عقل جاهلي وثقافة أعرابية … فاختاروا.
والسؤال الذي يتحدى الثقافة العربية بأكملها هو:- هل نريد نقل المعرفةأم هل نريد إنتاج المعرفة ؟
والتحدي قائم طالما بقيت مفاهيم الأصالة والمعاصرة والتعريبوالتغريب غامضة.
ــــــ الأصولية
القرآن الكريم هو أساس الحضارة العربية الإسلامية ، وحول مفاهيمهقامت كل المجادلات والمناظرات والفلسفات والاتجاهات . ولم يتوقفنمو حضارتنا السالفة وينحدر إلى الحضيض إلاّ حينما توقف اهتمامالفكر العربي الإسلامي بالقراءة النقدية الفلسفية للقرآن الكريم ،فمات الفكر وتدهورت الحضارة.
وقد تأسس تراثنا السالف بأكمله حول إشكاليتين اثنتين فقط ،إشكالية الإمامة والخلافة في التاريخ السياسي ، وإشكالية العقلوالنقل في التاريخ الفكري. وقد انبثقت الإشكالية الأولى من الاختلافحول خلافة علي بن أبي طالب ، وتطور مبدأ امتداد الإمامة من النبوةمقابل تطور مبدأ اختيار الخليفة عن طريق البيعة . بينما قامتالإشكالية الثانية من خلال طرائق توظيف الفكر المنبثق عن القرآنالكريم والمستند إليه لحل الإشكالية الأولى.
والواقع الصريح هو أن الدعوة إلى إحياء التراث العربي الإسلامي ماهي سوى إعادة إحياء لهاتين الإشكاليتين ، ولم نفعل شيئاً سوىإعادة اجترار جميع مشاكل هاتين الإشكاليتين وعُقَدهما ، وهذا يضعنامباشرة أمام مفهوم أصولية الأصولية.
فأنا أفهم – وأرجو تصحيحي إن كنت مخطئاً – أن الأصولية كمفهومتعني العودة إلى الأصول . أي القرآن الكريم لقراءته وفهمه وإعادةتفسيره بما يتناسب ويتواءم مع إشكالياتنا المعاصرة ، وليسإشكالياتنا السالفة . وفي هذه الحالة ، فأنا أفهم أن إشكالية الإمامةوالخلافة وإشكالية العقل والنقل لامكان لهما إطلاقاً في عصرنا هذا . فكيف بالله عليكم يمكننا تحقيق هذا الإنجاز الحضاري إذا كانتالأصولية المعاصرة قائمة بأكملها على فقه إسلامي قام وتأسس أصلاًعلى الإشكاليتين الأساسيتين ، إشكالية الإمامة والخلافة وإشكاليةالعقل والنقل ؟!
كيف يمكننا العودة إلى الأصول ثم نأخذ معنا فقه القرن العاشر معحواشي حواشيه والتي تأسست كلها على الصراعات الاجتماعيةوالسياسية والفكرية المنبثقة عن الإشكاليتين السالفتين ؟
لنسأل أنفسنا سؤالاً صريحاً ولنجيب عليه إجابة صريحة:-
ـ لماذا سمي فقه السنة بهذا الاسم ؟
والجواب واضح في التاريخ الاجتماعي السياسي . فكلمة السنة فيمنطق فقه السنة تشير إلى سنة السلف الصالح في اختيار الخليفةعن طريق البيعة . وقد سارع خلفاء الدولة العباسية إلى تبني هذاالفقه ، وبسرعة عجيبة لأنه ناقض فقه الشيعة الذي كان قد تأسسإبّان الخلافة الأموية.
ولو أن كلمة السنة كما يعتقد بعضهم تشير إلى السنة المحمديةالشريفة ، لكان هذا يشير بالضرورة إلى أن فقه الشيعة لايتبع السنةالمحمدية وهذا غير صحيح.
إن كلمة السنة في منطق الفقه السني هي كلمة سياسية بحتة . وبالتالي فإن فقه السنة هو فقه سياسي وإذا أرادت الحركة الأصوليةأن تنتصر فإن عليها أن تتخلى عن هذا الفقه ، وأن تبدأ بإنتاج فقهأصولي حقيقي مباشرة من القرآن الكريم، وبعقلانية قرننا الحاليوبمعزل تام عن تخرجيات فقهاء العصر العباسي وإشكاليات التراثالإسلامي ، وإلا فإنها ستبقى حركة أصولية غير أصولية.
من خلال هذا الإنجاز المنشود يمكن تحديث الفكر الإسلامي المعاصروالبدء بإبداع تراث أصولي حقيقي.
ــــــ العروبة ، القومية ، الإسلام
لدى التشريح الدقيق لهذه المفاهيم يتبين لنا بسهولة أن الالتزام بأيمنها يعني بالضرورة عدم الالتزام بالمفهوم الآخر ، ومايقال الآن عنتداخل هذه المفاهيم كان في الواقع الصريح تلفيقاً لاقيمة له.
فالقومية العربية تعني بالضرورة العلمنة ، الفصل الكامل بين الدينوبين الدولة ، وتعددية التشريع في الحكم . أما الدولة الإسلامية والمبنيةعلى العقيدة الإسلامية ، فإنها تعني سيطرة الإسلام سياسياًواجتماعياً وتشريعياً.
ومع الالتزام المتشدد بالابتعاد عن إصدار أية أحكام قيميه على المفهومنفسه ، إلاّ أنني لاأستطيع أن أرى كيف خرجت الأحزاب القوميةبشعارها القومي العربي (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) مذيبينبذلك الكل في داخل الجزء ، بينما خرج خالد بن الوليد وهو يحملشعاراً مناقضاً تماماً (أمة إسلامية واحدة ذات عروبة ثابتة).
صحيح ، إن بعضنا قومي بالطبع وبالضرورة وبواقعه المعاصر وبآمالهالمستقبلية ، ولكن الإشكالية قائمة ولم يجر حلها بعد . وقد تهرب منهامعظم أولئك الذين حاولوا التصدي لها ، وإلى أن يتم التصديالمنهجي الفلسفي الحقيقي لها ، فإنني أترك جميع مثقفينا مع هذاالسؤال:-
ـ إذا قامت دولة عربية واحدة من خلال العقيدة القومية العربية ، فهلسيسمح للمواطن المسيحي والكردي والتركماني والبربري .. لترشيحنفسه لانتخابات رئاسة تلك الدولة ؟ أم هل سينص دستور دولة الوحدةالعربية على أن دين الدولة هو الإسلام ؟
ــــــ العقيدة والأيديولوجيا
لايوجد غموض وخلط وأحياناً كثيرة تلاعب في التعامل مع مفهومين فيالثقافة العربية ، كما يوجد بين مفهوم العقيدةFaith وبين مفهومالأيديولوجيا Ideology . فالقومية العربية مثلاً هي عقيدة وليستأيديولوجيا ، وهي كعقيدة تتأسس على مفهوم القوم المشتركين فيالمكان والزمان بخصائص مشتركة تاريخية وجغرافية ولهم أهدافحضارية متجانسة . وقد تختلف لغاتهم وعقائدهم وحتى أصولهمالعرقية ، ولكنهم جميعاً يلتفون حول تاريخهم المشترك وأهدافهمالحضارية.
أما الأيديولوجيا القومية ، فهي رؤية محددة لمجموعة الطرائقوالميكانيكيات التي يتم توظيفها لتحقيق تلك الأهداف الحضارية ،وهي بالتالي رؤية واحدة من عشرات الرؤى الممكنة لتحقيق تلكالأهداف . وكذلك العقيدة الإسلامية كعقيدة حضارية عالمية فإنهاتختلف اختلافاً كبيراً عن أية أيديولوجيا إسلامية من حيث المفهوم . فالأيديولوجيا الإسلامية المعاصرة ماهي سوى رؤية واحدة محددة منعشرات الرؤى الممكنة لتحقيق الأهداف الحضارية للعقيدة الإسلامية.
من هنا ، يتضح حوار الطرشان الذي يتأسس أصلاً على هذا الخلطبين العقيدة وبين الأيديولوجيا . فبينما تبقى العقيدة مفتوحة أمامالجميع لينهلوا منها ما يشاؤون ويستولدوا من خلالها أيديولوجيتهم ،تبقى الأيديولوجيا رؤية واحدة محددة تمارس على عقل حاملها سلطةانغلاقية رهيبة واستلاباً خطيراً لوعيه ، بحيث يتشنج تشنجاً عجيباًلدى مواجهة أي اختلاف في الرأي أو رؤية أخرى مغايرة لرؤيته ،وقادمة من نفس العقيدة.
والسؤال الذي يتحدى قاموسنا الفكري والسياسي هو:- هل يمكنتطوير منهج فكري عربي قادر على إنتاج أيديولوجيا ذاتية التطوير؟
ـــــ المجتمع المدني
لقد أثار مفهوم (المجتمع المدني) عدداً من التساؤلات والتحفظات . فالمفهوم حديث ولابد أولاً من الإقرار ، أنه في نشأته واستخدامهالمعاصر شديد الالتصاق بالتجربة الغربية لاسيما في جانبهاالليبرالي الديمقراطي ، وتحديداً شديد الالتصاق بتشكل حقوقالمواطن ووعي هذا الأخير مواطنيته في اجتماع سياسي مدني مواجهللطباع الكنسي – الكهنوتي للسلطة (سمة المواجهة في القرنين الثامنعشر والتاسع عشر) ومواجهة أيضاً للطابع العسكري التوتاليتاريللدولة (سمة المواجهة مابين الحربين العالميتين وأثناء الحرب الباردةللنازية والفاشية وللدولة التوتاليتارية من جهة أخرى).
وبالإضافة إلى هذه الخصوصية التاريخية ، تثير ترجمة المفهومsociété civile إشكالاً مفهومياً في اللغة العربية . ففي حين نجد فياللغات الأجنبية الأوربية تطابقاً وتدرجاً في الاشتقاق اللغويوالمفهومي معاً بين مصطلحات:
Citoyen, Civil, Civique Cité,
فإننا وإن كنا نجد في اللغة والتراث مصطلح المدينة والمدنية ، فإنتعبير المواطنية الذي شاع استخدامه لترجمة Citoyen يخرج عنالمدينة والمدني ويستعير تعبير الوطن كأساس للاشتقاق ، وهذا أمرلايعكس فحسب إشكالاً لغوياً وإنما أيضاً إشكالاً مفهومياً فيالمصطلح . ذلك أن المواطنية والمواطن تعبيران ارتبطا بنشأة الدولةالقطرية الوطنية المرتبطة بدورها بحدود قطر أو إقليم أو منطقة ،وبجماعة سكانية تأطرت وانتسبت إلى دولة نشأت في لحظة منلحظات العلاقات الدولية في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الأولىوالثانية.
أما التعبير الاصطلاحي الذي تردد في تراث العرب والمسلمين عبرتاريخ علاقاتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية ، فهو الأخ والأخويةوالأخوان والأهل . وكلها تعابير تنم وتصدر عن اجتماع سياسي سمتهالأساسية الانتماء إلى الإسلام أو الولاء إلى الأمة أو الجماعة القائمةعلى عنصرين متداخلين ومتجاذبين تبعاً للمراحل وسمة الخطابالثقافي السائد:- العقيدة واللغة ، كذلك تبعاً لتدرج مراتب ذاك الولاء ،بدءاً من أهل الحارة في المدينة إلى أهل الحِرف ، والطرق والطوائفإلى أهل الأمصار في ديار الإسلام.
الخلاصة
مازلنا رغم كل شيء تابعين ، متخلفين ، مدينيين ،خائفين ،مهددين،محاصرين …تبحث مجتمعاتنا المضطهدة والمقهورة في الفتات الذييتساقط من عقول الكبار .
في هذا العصر المريب ، أليس خليقا بالفكر العربي ان يقوم بالدورالجدير به ، وهو اضاءة الوعي بدلا من الانسحاب الى الكواليسالخلفية ، والوقوف على ابوب الكبار ، كي يلعب اللعبة التي يراد له انيلعبها ، لعبة تزييف الوعي باستخدام المفاهبم المرطنة والالفاظالسحرية .
منذ سنوات كتب بيتر جينكز صاحب العمود الثابت في الغارديانالبريطانية تعليقا طريفا يقول فيه ( ان اؤلئك الذين يريدون او يقترحونتغيير الاسماء ، وقاموس المصطلحات ، لايبدو ان ما يشغلهم ازالةالغموض في الدلالات بقدر مايشغلهم انهاء الحروب الاجتماعية ) ثميضيف قائلا ( ان بوسع الفلاسفة ان يغيروا القاموس كما يريدونولكنهم لايستطيعون بحال من الاحوال ان يغيروا العالم ) .
ومع ذلك ، وعلى مايتصور البعض ،ما اكثر الفلاسفة ـــــ لسؤ الحظـــــ في وطننا العربي ؟
المراجع
1ـــ امير اسكندر ـــ الفرق بين تغيير القاموس .. وتغيير العالم ، مجلةالمنار ( باريس ) ، العدد 50 (شباط 1989)
2– أحمد بو حسن – مدخل إلى علم المصطلح ، مجلة الفكر العربيالمعاصر ، (بيروت ، باريس) العدد 60 – 61 (1989) والعدد 66 – 67 (1989).
3– جبور عبد النور – المعجم الأدبي ، ط1 ، دار العلم للملايين ، بيروت، 1979
4– يودين روزنتال – الموسوعة الفلسفية ، ترجمة – سمير كرم ، ط5 ،دار الطليعة ، بيروت ، 1985
5– David Merill – Teaching Concept, An Instructional Design Guide, New Jersey, 1977
6– Michel Foucault – L’Archéologie du Savoir, Paris, L’Harmattan, 1984.