قراءة انطباعية في مجموعة ألفة العزلة القصصية
توقفت قليلاً أمام (قصة رجل نائم) وسألت نفسي: هل هو توارد خواطر أم توارد مصائر؟ إذ إن تلك القصة تستحضر الروائي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز من خلال محاولة بطل تلك القصة إحداث نهاية جديدة لسنتياغو نصار، الشخصية المركزية في قصة (أحداث موت معلن) حين يختم القاص دعيبس تلك اللوحة الوارفة بالجمال قوله: “لا تبحثي عني، لا أعرف أين أكون اليوم أو غداً، ما أعرفه أن الوقت قد حان لأصحو من نومي وأنقذ سنتياغو نصار من مصيره البشع”.
الأمر ذاته حدث معي في قصة (ماركيز يصفق بحرارة) ضمن مجموعة جون كينيدي يهذي أحياناً، الصادرة مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. فقد حاولت في تلك القصة إعادة كتابة نهاية جديدة لرواية ماركيز، حين كتبت: “دعوني أوضح لكم الأمر منذ البداية، كي لا تلتبس عليكم الأحداث، ويختلط الحابل بالنابل؛ فزوجتي المتبرمة هي من وشت لي بالفكرة، إذ طالبتني بالتواصل مع جابرييل غارسيا ماركيز لأجل إعادة النظر في قصة “أحداث موت معلن”، لأن النهاية -باختصار- لم ترق لها، وترغب بعدم موت البطل؛ فشرقيتها الجامحة في الخيال لا علاقة لها بالواقع”.
لا تنتهي قصة دعيبس عند الرجل النائم الذي تكتشف زوجته غيابه في رحلة البحث عن سنتياغو قبل أن تحدث الجريمة، بل إنه يواصل هذيانه في القصة التالية، وهي قصة (في المقهى الأدبي) حيث يحضر ماركيز بواقعيته السحرية، ونجيب محفوظ بمجتمع الموظفين والطبقة الوسطى ليجلسا في مقهى متواضع ويتحدثا في مواضيع عدة، وهو تماماً ما فعلته في مجموعتي التي قمت خلالها بإعادة استحضار حيوات شخصيات حقيقية ومفترضة، يجلسون داخل مقهى يطل على نهر في البرزخ، بجوارهم مقصورة يعيشون فيها، وأمامهم شجرة تفاح لأجل صناعة آدم تحت عين الله من جديد.
في (ألفة الوحدة) يحاول الروائي والقاص المعروف مجدي دعيبس تسليط الضوء على قضايا إنسانية بحتة، يمر بها المهمشين، المكبلين بوقائع العربي المهزوم، من خلال لغة بسيطة، يغلب عليها السهل الممتنع، لكنها رغم بساطتها تمتاز بالعمق، وتنحو باتجاه فنتزة القصة بشكل مبهر، فالمواقف والأحداث العادية والعادية جداً، تصبح سحرية خلال نصوص موجعة، يبدأها بعتبة دخول غريبة، حين يكتب المؤلف “يظل الإنسان إنساناً إلى أن يعضه كلب مسعور”، فمن كان يقصد بالكلب المسعور هنا؟ وهل هناك ارتباط بين الديباجة وقصة (مشهد مخيف)، فالفتاة في نهاية تلك القصة تنتقم من كل الذين يزعجونها ومعظمهم موظفين للدولة.. فهل انتقم دعيبس من الذين ظلموا المواطن العربي وحاصروه بكتابة هذه القصص؟ كأن المجموعة القصصية وثيقة لتاريخ عربي مرير؟!
تبدأ القصص بحكاية (الولد الأعرج) الذي يموت ولا يعرف عنه أحد سوى اختفائه بعد مباراة كرة قدم بين الأطفال الذين يرفضون مشاركته إياهم، ذلك لأنه أعرج وحاولوا مشاركته دون فائدة؛ فيعمد إلى سرقة الكرة حين تصل المكان الذي يجلس فيه ويهرب ثم تختفي آثاره؛ ثم يكتشفون بعد سنوات طويلة هيكلاً عظمياً لطفل عندما تشرع البلدية في توسعة المكان، كأن الكاتب كان ينتقد سلوك البلديات من انتهاك حقوق الطفل والرجل والمرأة بتوسعة المؤسسات والأبنية على حساب حرية الأفراد، وهنا يستحضرني قول بيرم التونسي الغاضب جداً من سلوك البلديات المتغولة على جيوب المواطنين بقوله في قصيدة المجلس البلدي:” كأن أمي بلَّ الله تربتها، أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدي.” فهل كان مجدي يحاول البوح بالوجع جراء الإجراءات التي دفعت الولد ليموت نتيجة الفقر والعرج؟ ولماذا تكرر ذكر البلدية في أكثر من قصة؟ وهل كان يمكن اختتام هذه القصة الواقعية بحدث مختلف؟
يحاول القاص دعيبس في معظم القصص التي افتتح بها هذا العمل المتميز الخوض في الواقعية التي يألفها أي مواطن ثم ينقلب فجأة على السائد ليختم قصصه بشيء فنتازي لا يمكن للعادي أن يتوقعه؛ بدءاً من البركة الرومانية وتمثال من الجص وصانع التوابيت وصولاً إلى نهاية المجموعة، رغم وجود بعض القصص ذات الحبكات المتواضعة أو المتوقعة بخلاف أخريات، لكن انسيابية اللغة وسلاسة الأفكار منحت القارئ نشوة انتصار على رتابة تلك القصص.
المرأة حاضرة بقوة، تعاني بصمت، تختفي خلف أستار واهية، تماماً كقصة السيدة بالنظارة السوداء، وجولة في شوارع المدينة والمرأة المجنونة ومرآة غربية وصانع التوابيت وتضحية.. إلخ، فلا مناص في المجتمع الشرقي أمام المرأة إلا العيش قهراً تحت سلطة بعض الذكوريين الذين مهما حصلوا على مناصب أو أماكن رفيعة فإنهم سيوغلون تعذيباً في المرأة حتى لو كان نفسياً، كما أن الرجال العاديين أيضاً يمارسون ذات الفعل، وربما يكون ذلك كمحاولة تعويض، حيث أن الحيل الدفاعية اللاشعورية تدفع بالرجل المقهور أن يمارس القوة في وجه الأضعف وهي المرأة، وينتقل القمع تباعاً للطفل من المرأة ثم للحيوان من الطفل أو بين الأطفال بعضهم ببعض، وهي محاولة جادة من الكاتب لطرق جدران الخزان من أجل إعادة النظر تجاه سلوك الدولة والأفراد تجاه المرأة التي تكافح كالرجل في سبيل صناعة مجتمع مدني يحقق التنمية المستدامة.
الفساد في قصة الطوفان، بيركهارت مرة أخرى أو إبراهيم بن عبد الله، تمثال من الجص، البلد المنكوبة، فالمسؤول هو الذي نشر المرض والفساد من خلال ضفادع تخرج من فيه، وفي قصة فنتازيا تصير المرأة على هيئة رجل بكل ملامح الذكورة، لأجل لوحة فنية تدر مالاً قليلاً يسد الرمق، بينما تلتهم الدولة خيرات البلاد. لوحة مجنونة لمهتمين باتت أذواقهم غريبة، وعلاقتهم مع الشكل مختلفة، تشي بانقلاب معايير الأخلاق والفن والجمال. وهو ما تؤكده قصة (كاتبة القصص) التي يطلب فيها الناشر من تلك الكاتبة أن تعيش علاقة كي تتغير نمطية الكتابة لأن برودة الحروف قد تصير شمساً حارقة، إلا أن القارئ في سياق النص يكتشف عوالم مثيرة تعيشها الكاتبة، لينتهي بها الحال أن تتحول إلى نقطة سوداء على أول السطر وليس آخره.
لا يمكن توقع نهايات قصص الروائي دعيبس، التي تحاول الانقلاب على المعايير السائدة، كسحرية للواقع الأدبي العربي، خصوصاً أن الأفكار ابتذلت؛ لكن السؤال: كيف نجدد الكتابة؟ كيف ندهش القارئ المتمكن؟ وهو ما دفع الأخير بكتابة قصص مختلفة مفاجئة ومبهرة.
حاول دعيبس في قصة صانع التوابيت التي جاءت خلالها جملة (رفقة الوحدة) دمج الواقعي بالمتخيل ليقول: إنه من الصعب العيش وحيداً، رغم ادعاء ألفة الوحدة، ورغم إدراك المصير الذي أودى بحياة الزوجة حين فتحت قبر الزوج/ القاتل لتكتشف أنه كان بانتظارها ليدفنها بدلاً منه. والقصة تتحدث عن زوج فقير، كاد يفقد عمله في صناعة التوابيت بعد توقف الموت فجأة، لذا قام بتسميم البئر وإفساده كي ينتشر الموت فيشرع بصناعة المزيد من التوابيت، لكن الرجل يموت ثم لا يلبث بزيارة الزوجة في الحلم كي تحضر وتساعده في قبره لأن شيئاً يشكه في جسده، تحضر المرأة لتكتشف أنه كان يجلس بانتظارها، ثم يهيل عليها التراب وهي تطلب فانوس يشعل لها المكان نوراً وألفة.
قصص قصيرة لا يمكن المرور عليها دون التوقف بعد كل حكاية وأسئلة تتوارد لذهن القارئ: كيف حدث هذا وكيف سينتهي ومن المسؤول عن كل ما يجري؟
مجدي دعيبس، روائي وقاص أردني من مواليد عام 1968، صدر له العديد من الأعمال الروائية والقصصية، حصلت روايته اللوز المالح على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2019، وتأهلت روايته صرير الندم إلى القائمة القصيرة لجائزة توفيق بكار للرواية العربية، كما ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات العالمية.