قلنا في المقال السابق إن الولايات المتحدة الأمريكية احتلت العراق من اجل التغير وقد نجحت في الجانب الذي يخص نظام الحكم فأسقطت النظام السياسي القائم فيه عام 2003 كما هو معروف وسارت الأمور بالشكل المعروف وأصبح لزاما عليها أو على من يمثلها أي البديل في نظام الحكم أن يتبنى مسالة التغير الاجتماعي فالشعب الذي عانى الأمرين على مدى عدة أجيال لابد له أن ينتفع من التغير السياسي الذي حصل وإلا فمن المؤكد انه سيتحول إلى معول هدام في بنية العملية السياسية والولايات المتحدة الأمريكية قد عانت في فيتنام ما لقنها بما لا تنساه أبدا أقسى الدروس وممكن أن تتكرر في العراق وقد حصل بالفعل ولكن تقنياتها العسكرية وتفوقها القتالي خفف من حدة خسارتها رغم هولها وقد بقيت عالية بالمقارنة مع إمكانياتها وليس هذا محور بحثنا ولكن السؤال القائم الآن هل حققت أمريكا أو من سلمته مقاليد حكم العراق النجاح المطلوب في تغير المجتمع نحو الأفضل ؟
قلنا قد رافق دخول القوات الأمريكية أعداد كبيرة ممن كان يحسب نفسه في صف مقاومة النظام السياسي القائم آنذاك (أو المعارضة) ممن كان يقيم خارج البلاد فانتشروا بعد فراغ الساحة السياسية من شاغليها في المفاصل القيادية للدولة العراقية إبتداءا من أعلى هرم الحكومة إلى إدارة اصغر مؤسسات الدولة وشرعوا قوانين تخدم هذا التوجه وهم من كان يقع عليهم واجب تغير المجتمع العراقي وكان لزاما عليهم أن يكونوا القدوة والنموذج الذي سيقتدي به الشعب العراقي خصوصا وان اغلبهم ينتـمي إلى أحزاب سياسية تستمد نظرياتها من الدين الإسلامي الحنيف وكانت الفرصة سانحة لهم جدا لإثبات صحتها.
حقيقة إن أحزاب السلطة ظلت تتخبط في تشخيص المشاكل التي يعاني منها المجتمع العراقي التي تولدت اثر الحصار الأمريكي للبلد بالإضافة إلى أنها تركت فرصة التأثير في عوامل التغير لغيرها وانشغلت في غير ذلك بل وأكثر من هذا إن عناصرها لم يتمكنوا من إصلاح أنفسهم الذي يعتبر كنقطة الشروع والبداية نحو الأفضل بدليل إن المرجعيات الدينية التي ينبغي لهم تقليدها كما يدعون في شقي المعادل المذهبية (السنية والشيعية) قد نبذتهم وتخلت عنه رافق ذلك تأسيس العشرات من القنوات الفضائية واغلبها موجه والتي تبث من داخل العراق وخارجه وما تمتلك من قابلية مهمة في الدخول إلى كل منزل ويتمكن أي عراقي في داخل البلاد وخارجها من متابعتها ببساطة والأكثر من هذا أنهم راحوا يكيلون التهم والسباب لبعضهم وكشف تاريخهم قبل الاحتلال وبعده واغلبهم ذو خلفيات غير مشرفة لأصحابها رافقها فعل معزز لتلك الخلفية المشينة تمثل في سرقة المال العام وهدر الثروات الطائلة التي دخلت العراق بالاعتماد فقط على الصادرات النفطية لسهولتها ووفرتها وإهمال واردات الدولة الأخرى.
في الغالب الأعم إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مجتمعاتنا التي تعتبر اقل تحضرا من غيرها وهذا ليس بمحض إرادتها وإنما كنتاج طبيعي لخضوعها إلى إحتلالات متناوبة ومتتالية لعدة قرون أنهكتها جعلتها في أحسن صورها متشنجة وميالة إلى الاختلاف وهذا ما جعل الحكومة في كل الأحوال كما ينبغي لها أن تتحمل أعباء بناء المجتمع وتنميته وجعلته متكلا عليها كليا فتقع عليها وحسب الدستور مسئوليات واسعة ومتشعبة إبتداءا من التعليم وإعداد الأجيال الجديدة التي ستقود المجتمع في المستقبل إلى إيجاد فرص العمل والسكن والصحة وغيرها ناهيك عن الخدمات البلدية وقد فشلت الحكومات المتعاقبة وفق المنهج الديمقراطي الجديد الذي جاءت به الولايات المتحدة الأمريكية فزاد من سعة الهوة بين طرفي معادلة الحاكم والمحكوم في العراق يؤكد هذا الرأي الأصوات العالية التي تطلقها حناجر المتظاهرين الذين لم يكفوا عن التظاهر طيلة فترة الخمسة عشر سنة الماضية مدعومة ومستندة إلى حالات الجوع التي تعاني منها كل طبقات الشعب باستثناء أفراد منتفعين من مشاركتهم في الحكومة.
طبيعيا لابد لمن يتصدى لعملية التغير أن ينبثق من بين شريحة المتضررين ليشعر بمعاناة شريحته وبما إن العملية السياسية قائمة بشخوصها الحاليين الذين نسوا انتمائهم إلى العراق بتأثير اندماجهم في المجتمعات التي هاجروا لها فإنهم لم ولن يشعروا بما يعانيه الشعب ولن يسمحوا لغيرهم في منافستهم على القيادة وحتى الدستور والتشريعات التي سنوها كانت تبنى على هذا الأساس وحتى من خلال عملية الانتخابات التي جرت خلال الدورات الانتخابية الثلاث لذلك شهدت الدورة الأخيرة عزوفا واضحا بالقياس والمقارنة إلى الدورتين اللتين سبقتاها ولا يمكن في أي حال من الأحوال إن نسميها حكومة تمثل الشعب بل هي في أحسن أحوالها حكومة بيعة الأنصار باستثناء بعض التيارات التي ولدت هنا في داخل العراق وبخصوصية معينة.
من المؤسف إن التغير الذي حصل في البلد كان سلبيا إلى حد كبير في بنية الإنسان العراقي فإذا كان قد حصل على بعض ما يتمناه في ممارسة الشعائر المذهبية فانه بالمقابل تعرض إلى حملات تكاد تكون ممنهجة سحبت منه انتمائه إلى العراق أولا وهذا ما ترتب عليه كثير من الأمور كعدم الشعور بمسئولية انجاز العمل وهدر الوقت واللامبالاة في الحق العام وتعرضت أموال الدولة إلى الهدر وشاعت ثقافة الاعتداء على الأموال العامة وسرقتها خصوصا بعد تبادل الاتهامات على شاشات الفضائيات بين المسئولين بالمستويات القيادية لكسب تأييد الشارع العراقي بالأخص قبيل الانتخابات والاهم من هذا وذاك ورغم الفسحة الدينية التي أتيحت فان انتشار الفاحشة بات يهدد حياة المواطن وقد تولدت نتيجة لانتشار البطالة بين الشباب ظاهرة تعاطي المخدرات فأصبح العراق مستهلكا لها بعد أن كان ممرا لها وفق الإحصائيات التي تنشرها بين الفترة والأخرى الأجهزة الأمنية ووزارة الصحة ناهيك عن انتشار الأمراض الوبائية ذات العلاقة وبنسب عالية.
هذا جانب مؤسف جدا تتحمل مسئوليته أحزاب السلطة وتبقى جوانب أخرى في التغير حصلت سلبيا ينبغي العودة إليها ومناقشتها بشيء من التفصيل.