قبلَ عرض موازنة عام 2018 أمام مجلس النواب لإقرارها الشهر المقبل، حسبما أعلن المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء مظهر محمد صالح، إلا أن خطوطاً عريضة من فقراتها برزت للعلن والتي تتضمن استمرار حالة التقشف التي يعاني البلد نتيجة انخفاض أسعار النفط ومتطلبات الحرب على داعش، ونتيجة ذلك وجه رئيس الوزراء حيدر العبادي بتخفيض النفقات التشغيلية للرئاسات الثلاث وللوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة إلى الحدود الدنيا لضمان تأمين النفقات الأساسية، وبرغم أن المتحدث باسم رئاسة مجلس الوزراء أكد أن الإيرادات الجمركية بلغت أكثر من 685 مليار دينار خلال الأشهر الثمانية الماضية، إلا أن محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق فجّر أمس الاثنين “قنبلة” من العيار الثقيل حينما قال إن النقد المتوفر ليس متاحاً، منتقداً ظاهرة “الاكتناز”. فقد أعلن المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء، مظهر محمد صالح، ان موازنة العام 2018 في طور الإعداد شبه النهائي، وستعرض على مجلس الوزراء في الشهر المقبل وفق التوقيتات الدستورية. وقال صالح إن “موازنة العام 2018 تتجه نحو تعظيم الموارد غير النفطية كلما كان ذلك ممكناً، كما إن توجه الدولة هو تشجيع فرص العمل من خلال القطاع الخاص وتطوير برامج إقراض الشباب بقروض ميسرة لتمكينهم من الانخراط في سوق العمل”. ويمكن التعرف على بعض تفاصيل الموازنة من خلال حديث عضو اللجنة المالية النيابية محاسن حمدون حينما قالت إن الحكومة مستمرة بسياسة التقشف لأن الأزمة المالية مازالت مستمرة حتى العام المقبل”. ومع قرب إرسال الموازنة الى مجلس النواب لإقرارها فقد وجه رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي الكادر المتقدم في وزارة المالية باجراء مراجعة دقيقة لمقترح الموازنة العامة الاتحادية لعام 2018. وأكد العبادي على مناقشة موازنة عام 2018 وتحقيق المزيد من خفض النفقات التشغيلية للرئاسات الثلاث وللوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة الى الحدود الدنيا لضمان تأمين النفقات الأساسية، وفي مقدمتها الرواتب والأجور لكل العاملين في الدولة، والرواتب التقاعدية، والرواتب والأجور الأخرى، فضلا عن تأمين رواتب الحماية الاجتماعية والبطاقة التموينية، وإدامة متطلبات الأمن والدفاع والدواء”. وشدد على “وجوب تأمين الالتزامات الدولية والوطنية في تسديد مستحقات القروض وفوائدها، والاستمرار في تأمين سندات دفع مستحقات المقاولين”، كما وجه بـ”العمل على زيادة الايرادات غير النفطية من خلال تفعيل الانشطة المختلفة وزيادة الإنتاجية، والتأكيد على تنشيط القطاع الخاص بما يمكنه من اداء دوره المنشود في تحسين الأداء الإقتصادي”. من جانبه اعلن المتحدث باسم رئاسة الوزراء سعد الحديثي أن الإيرادات الجمركية بلغت أكثر من 685 مليار دينار خلال الأشهر الثمانية الماضية، مؤكدا خفض مستوى الإنفاق الحكومي الى نحو النصف. وأضاف إن “الحكومة تجاوزت أصعب التحديات الاقتصادية التي واجهت العراق بعد أن كانت هناك مخاوف من عدم قدرة الحكومة على توفير الغطاء المالي لضمان الرواتب وتأمين التخصيصات المالية اللازمة للقوات العراقية والقطاعات الأخرى”، موضحا ان “الإيرادات الجمركية ارتفعت خلال الأشهر الثمانية الماضية من العام الحالي فقط لتصل الى اكثر من ٦٨٥ مليار دينار”. وبرغم هذه الإيرادات المتوفرة من الكمارك فقط الا ان البنك المركزي العراقي اعلن امس الاثنين أن النقد المتوفر ليس متاحا، لافتا الى وضع خطط لجذب الأموال وضخها داخل الجهاز المصرفي. وقال محافظ البنك علي العلاق البنك إن “الاكتناز يعد مشكلة ومصدر قلق للعديد من الدول، لاسيما بعد التطورات التكنولوجية الحديثة وما تلاها من انجازات وتحقق وفرات هائلة في الدخول الخاصة بعناصر الإنتاج”. يذكر أن مصطلح “الاكتناز” يعني إمساك النقود وحبسها عن التداول وقد يكون الاكتناز بدفن النقود أو بحفظها في الصناديق داخل البيوت وعدم إخراجها للتداول في أسواق النقود ورأس المال.
إذا كان رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي مصراً على تنفيذ إصلاحات جذرية لضبط الهدر المالي ومحاربة الفساد ومحاكمة الفاسدين، ووضع حد للإنفاق الحكومي غير المبرر، وفقاً لأسس حديثة، بما يضمن استثمار الموارد وتنويع مصادر الدخل، بدلاً من الاعتماد على النفط الذي تغطي إيراداته نحو 93 في المئة من الموازنة السنوية للدولة، فيجب على حكومته أن تبدأ بإصلاح جذري في القطاع المصرفي، حتى ترتقي المؤسسات المصرفية للعمل على إيجاد قطاع فاعل لا يسمح بعمليات تبييض أموال وتمويل الإرهاب، كما قال محافظ المصرف المركزي علي العلاق الذي أكد أن العمل متواصل للارتقاء بعمل «المركزي»، من خلال الاستراتيجية التي طرحها بهدف تحويله إلى مؤسسة تعمل في إطار المصارف المركزية المتطورة، وأن يتحول من تحقيق أهداف تقليدية إلى أهداف تنموية تحقق استقراراً مالياً، ويدعم مسيرة هذا القطاع لتكون «قاطرة» سليمة وحقيقية للاقتصاد الوطني في مرحلة إعادة الإعمار المرتقبة.
يعمل في العراق حالياً 54 مصرفاً موزعة بين سبعة مصارف حكومية، و24 مصرفاً خاصاً، و11 مصرفاً إسلامياً، و19 مصرفاً عربياً وأجنبياً، إضافة إلى أربعة مصارف قيد التأسيس. وهناك أيضاً 60 شركة مالية تعمل في سوق العملة والاستثمار المالي، والتحويلات والسندات والبطاقة الذكية، منها 10 شركات قيد التأسيس، وهو عدد كبير، غير أن هذا القطاع يعاني تشوهات بنيوية، منها أن المصارف الحكومية تسيطر على نحو 90 في المئة من موجوداته، تاركة نحو تسعة في المئة فقط للمصارف الخاصة، على تنوعها من تجارية محلية وإسلامية وعربية وأجنبية، وتشكو هذه المصارف من قيود الحكومة التي تنحاز إلى مصارفها في النشاط المالي. وإحدى أهم الصعوبات التي تواجهها معظم المصارف تكمن في عجزها عن استرداد القروض من المدينين، بل وتعذر الاسترداد في كثير من الحالات، حتى لو كسب المصرف قراراً قضائياً ببيع الضمانات، وذلك لأسباب تتعلق بالوضع الأمني والضغوط الاجتماعية.
وعلى رغم ضخامة عدد المصارف في العراق، فالعدد لا ينسجم مع عدد السكان، ويبرز ابتعاد الشعب العراقي عن التعامل مع المصارف، فعدد السكان يقدر بنحو 37 مليون شخص، منهم أكثر من 80 في المئة لا يمتلكون حسابات مصرفية، ويوجد 900 فرع مصرفي متمركزة جغرافياً في عواصم المحافظات وبعض المدن الرئيسة. وتدل البيانات على أن الفرع الواحد يخدم نحو 41 ألف شخص في العراق، مقارنة بلبنان الذي يخدم فيه كل فرع أربعة آلاف شخص، ولذلك قدرت بعض الدراسات أن نحو 73 في المئة من الكتلة النقدية بعيدة من الدورة المصرفية، ما يعكس عدم ثقة شعبية بعمل المصارف.
يطالب بعض الاقتصاديين العراقيين الحكومة برفع سعر صرف الدينار العراقي امام الدولار حتى ترتفع قوته الشرائية وتزداد الثقة به كونه يمثل سيادة العراق، كما يطالبون بضرورة وقف «دولرة» الاقتصاد من خلال منع التعامل داخلياً به وجعل المعاملات المحلية تقتصر على استعمال الدينار العراقي فقط.
لا بد من الإشارة إلى أن 70 في المئة من العملة المتداولة كانت مغطاة بالذهب وعملات أجنبية حتى عام 1981، والنسبة المتبقية بسندات الحكومة العراقية (قانون العملة)، وكان العراق آنذاك يطبق نظام بقايا قاعدة الذهب. ولأجل الحفاظ على الغطاء، ظلت الحكومات المتعاقبة تربط سياستها المالية، بخاصة الإنفاق الجاري والاستثماري، بحالة ميزان المدفوعات، والأخير كانت تحدده عائدات الحكومة من صادرات النفط. ولإنجاح هذا الربط طُبقت قيود إدارية على التحويل الخارجي بشقيه، تجارة السلع والخدمات وحركة رأس المال. وبذلك اتبعت سياسات نقدية ومالية محافظة أبقت على استقرار الدينار العراقي المثبت من قبل البنك المركزي على 3.2 دولار للدينار.وأعطى الالتزام بغطاء الدينار سهولة للسلطة النقدية في ممارسة مهماتها حيث كان همها الوحيد الحفاظ على استقرار العملة، ولكن ذلك تحقق على حساب التنمية الاقتصادية التي لم يتم الإنفاق عليها كفاية خوفاً من أن تؤثر زيادة الإنفاق في استقرار العملة.
وتعاني المصارف العربية والأجنبية مشكلات وتعقيدات في عملها داخل العراق، وتشكو من عدم اتخاذ «المركزي» أي قرارات إجرائية بما يتعلق بتعزيز الصيرفة الشاملة، وحل مشكلة القيود المتعلقة بالضمانات المطلوبة في مقابل منح التسليفات، بالإضافة إلى إلزامها بزيادة رأس مالها. كذلك برزت أخيراً مشكلة تتعلق بالمصارف العاملة في منطقتي أربيل والسليمانية، التي تأثر عملها بفصل عمل المصرف المركزي العراقي فيهما عن المقر الرئيسي للمصرف في بغداد، وأبلغت هذه المصارف رسمياً أن فرعي المنطقتين أصبحا مرتبطين بوزارة المال في إقليم كردستان،
وبما أن القطاع المصرفي العراقي تأثر مباشرة بالأزمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها العراق بسبب الحرب على الإرهاب وهبوط أسعار النفط والركود الاقتصادي، فضلاً عن حالات عدم الاستقرار الأمني، تعثرت أوضاع بعض المصارف، وشكا بعضها الآخر من أزمة سيولة، وأحدث عدد منها خروقاً بعدم التزامها المعايير السليمة، الأمر الذي حمل المصرف المركزي على إعداد دراسة عن واقع المصارف الحكومية والخاصة تمهيداً لإعادة تقويمها وتصنيفها، وذلك بمشاركة رابطة المصارف العراقية، وفي الوقت ذاته وضع المصرف المركزي يده على أربعة مصارف تجارية لارتكابها مخالفات في سياساتها المالية وعدم رفع رؤوس أموالها وفق القانون، كما قرر تصفية «مصرف البصرة الأهلي» نهائياً، وصادقت محكمة التمييز الاتحادية على قرار بسجن صاحبه ومديره 10 سنين لاختلاسهما أكثر من 310 بلايين دينار (250 مليون دولار) من «مصرف الرافدين» الحكومي، في واحدة من أكبر قضايا الاختلاس، مع الإشارة إلى أن بعض رجال المال والأعمال أعادوا سوء الإدارة في القطاع المصرفي إلى سيطرة رجال المال عليه، وهو أمر ساهم في استغلال الأموال المودعة من بعض مديري المصارف للاستثمار الخاص بهم، وفي شكل مخالف للقانون، وحملوا الحكومة المركزية مسؤولية تدهور الوضع الاقتصادي لانعدام التخطيط والتنظيم. منذ أكثر من أربع سنوات والمسؤولون في العراق يتحدثون عن مشروع للإصلاح النقدي يتم من خلاله رفع سعر صرف العملة العراقية مقابل الدولار بحيث يصبح الدينار الجديد مساوياً لـ 1.2 دينار للدولار بدلاً من 1200. ولكن الخطوة تأجلت إلى وقت لاحق بسبب خروج بعض المناطق العراقية عن سيطرة الحكومة بعد احتلال «داعش» لها. ثم بدأت العمليات العسكرية لاسترجاع هذه المناطق والتي لا زالت قائمة. ويتوقع أن تعود الحكومة إلى المشروع ذاته بعد انتهاء العمليات العسكرية. وإذا تم الإصلاح النقدي بنجاح، لا تعود هناك حاجة إلى استخدام الدولار في المعاملات المحلية. فالأخير حصل بعدما أصبح إنجاز المعاملات اليومية صعباً مع وصول قيمة الدولار الواحد إلى آلاف الدنانير، ما جعل الأفراد يلجؤون إلى التعامل بالدولار بدلاً من الدينار خصوصاً في المعاملات الكبيرة وفي اكتناز العملة. إذن لا يمكن إلغاء «دولرة» الاقتصاد العراقي بقرار إداري أو بأوامر إدارية من السلطة النقدية وإنما ستزول الظاهرة تدريجاً بزوال الأسباب التي أدت إليها، أي بعدما يتم الإصلاح النقدي المشار إليه أعلاه، لأن الدينار سيصبح بعدها واسطة سهلة للتداول ومخزناً للقيمة يغني عن استخدام الدولار