18 ديسمبر، 2024 6:16 م

صلاة تشرنوبل: سرد للمأساة بألسنة الضحايا

صلاة تشرنوبل: سرد للمأساة بألسنة الضحايا

أن ابشع ما تقوم به، أو ما تمارسه الانظمة الشمولية والدكتاتورية؛ هي اخفاء الحقائق عن الشعب، واحالة كل كارثة ومأساة الى العامل الخارجي، اي الى ان هناك مؤامرة ضد النظام تقوم بها مخابرات العدو. بينما الحقيقة هو ان النظام مهتز اصلا، وفقد القدرة على ان يكون نظام، فقد القدرة والسيطرة على ضبط ايقاع العمل. ان جميع الانظمة الشمولية، والاستبدادية؛ عندما يطول بها المقام على كراسي عروش السلطة، تنمو في داخلها بذور فنائها. مع تقادم الزمن عليها؛ تنكشف للشعوب عورتها، وقسوتها، وظلمها. مما يقود الى رفضها الضمني، حين تكون اذرعها وعيونها؛ تحمل الموت للناس؛ عندما ترتفع حناجرهم بالاحتجاج والرفض. مما ينعكس هذا الرفض الضمني، أو الرفض المكتوم؛ الى اللامبالاة في العمل، كمعادل موضوعي لصرخة الحناجر الرافضة للقسوة والظلم، والاستخفاف بحياة البشر، أو التضحية بهم على مذبح تجميل وجه النظام، أو الابقاء على الوجه الجميل للنظام في عقول ونفوس الشعب، التي رسمها اعلام النظام، حتى وان كلف هذا آلاف الضحايا في لحظة الحدث، وآلاف اخرى بعد حين. في كتاب صلاة تشرنوبل للكاتبة البيلا روسية، سفيتلانا؛ نتعرف على حجم المأساة التي يتعرض لها الأنسان، ليس الأنسان فقط، بل حتى الارض والحيوان وكل ما هو حي وكل ما هو جماد. ليس الدمار والرعب فقط، الذي تحدثها تكنولوجيا الذرة، عندما تتمرد على الأنسان، حين يفقد سيطرته عليها، بل انها عندما تنفجر تؤثر على الماضي والحاضر والمستقبل.” أنا- شاهدة على تشرنوبل.. الحدث الاهم خلال القرن العشرين،…. والتي ستظل في ذاكرة هذا القرن. مر اكثر من عشرين عاما على الكارثة، ويظل هناك سؤال يراودني- علام اشهد: هل شهادتي عن الحاضر ام عن المستقبل؟ بهذه السهولة ممكن السقوط في بئر الابتذال.. ابتذال الرعب.. لكني انظر الى تشرنوبل كبداية لتاريخ جديد..” تسرد سفيتلانا وقائع هذه المآسي باعترافات يسود فيها الحزن والألم، من ينتظر واثقا؛ الرحيل عن هذا العالم، ذات يوم قريب، في القادم من الايام؛ لأحبة له، فقدهم عندما انفجر مفاعل تشرنوبل، وعند عملية الانقاذ، وعملية الاطفاء، وعملية معالجة الاثار التي طالت الانسان والحيوان والتربة وكل ما هو على الارض وحتى في باطن التربة، وفي الهواء الذي بات مشبعا بالإشعاع المميت، وسط صمت الاعلام السوفيتي في وقتها. كان الناجون يطلعون على اخبار الانفجار من الاعلام الغربي. الادهى والامر وسط صمت المسؤولون السوفييت، بل انهم اعتبروا ما جرى ما هو الا مؤامرة غربية ضد الاتحاد السوفيتي، انما الحقيقة كانت بسبب الاهمال وسوء التدبير وقلة الاحتياط في منشأة تستوجب اعلى درجات الحيطة والحذر، وتوفير اعلى درجات السلامة المهنية احكاما.” يبث الراديو على مدار ثلاثة اشهر متواصلة: تتجه الامور نحو الاستقرار، الاستقرار،.. انطلق قاموس التعبيرات الستالينية فجأة: عملاء الاستخبارات الغربية، اعداء الاشتراكية، غارات تجسسيه، عمل تخريبي، طعنة في الظهر، تقويض اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتي الصامد،..” وأنا اقرأ هذا الكتاب الذي شكل وثيقة ادانة للسنوات التي سبقت انهيار الاتحاد السوفيتي؛ حضرت امامي المعارك اثناء وخلال عملية الغزو الامريكي للعراق، الذي استخدم الغزاة فيها اليورانيوم المنضب، اي القنابل النووية التكتيكية، والتي الى الآن، يعاني منها الشعب العراقي، بكثرة اعداد الاصابات بالسرطان، والتي يقول عنها الخبراء في هذا الشأن؛ من انها او ان تأثيراتها سوف تستمر لعقود قادمة، ربما لقرون كما يقول البعض الأخر منهم. عندما انفجر المفاعل، لم يكن الناس يعلمون بهذا الانفجار، في القرى والبلدات التي تبعد، او لا تبعد سوى بضعة كيلومترات. حين سألوا المسؤولون قالوا لهم، أو تكون اجاباتهم على الشكل التالي؛ ليس هناك من خطورة، او لم يحدث اي شيء. يقول سكان القرى والبلدات، وحتى بقية شعوب الاتحاد السوفيتي؛ لقد سمعنا بالانفجار من الاعلام الغربي، لقد صمت اعلام بلدنا، لم يبث لنا حقيقة ما جرى، في وقت الانفجار. لاحقا يصحوا الناس على الكارثة التي حلت بهم؛ ازيلت قرى كاملة من على سطح الارض، تم دفنها عميقا في جوف ذات الارض. جثث الناس الذي ماتوا؛ دفنوا في مقابر جماعية. حتى الارض، وجه الارض عينها، ازيلت وتم طمرها في اعماقها. الناجون الى حين؛ كانوا ينظرون الى احباءهم الذين فارقوا الحياة، وهم يدفنون في قاع الارض، والى بيوتهم التي تم ازالتها بالجرافات؛ ليتم امام انظارهم طمرها تحت التربة. ” رأيت واحدا من الناس، هدموا بيته ودفنوه امام عينيه…يقف ويقترب من النافذة. لم يبق سوى قبر استقبل جثة جديدة.. قبر على شكل مربع كبير. دفنوا البشر، والحديقة.. يصمت. لقد دفنا الارض.. تخيلوا.. الارض.. مزقناها وسحبناها في قطع كبيرة.. ألم احذركم.. ما من شيء اسمه بطولة، ليس لها وجود.” ان هذا الكتاب الرواية التي وصفت فيه الكتابة؛ حجم الألم والحزن والضياع الذي اكتنف البشر في القرى والبلدات التي وصلها الاشعاع المميت. لقد نقل هذا الكتاب الرواية، حجم الكارثة التي حلت بهؤلاء الناس، من على لسان الناجين الى حين، ولكن بقلم الكاتبة الأسر، الذي رسمت فيه؛ لوحة الفقدان والخسارة، خسارة حياة بأكملها، انها بحق لوحة مضببه بالسواد، ويؤطرها الرماد واليأس. كما انها اشرت بوضوح من خلال الاعترافات التي ادلى بها من ظل حيا، حين قابلته؛ كم كان الخلل كبيرا في العقد الذي سبق انهيار هذه الدولة العظمى، التي كانت حتى وقت قريب، الحامي والمدافع عن دول العالم الثالث، سواء بالدعم الاقتصادي، او التسليحي، او الدفاع عن قضايا العالم الثالث في مجلس الامن الدولي. المشكلة لم تكن في الناس، المشكلة كانت في هيكل الدولة، فقد تغلغل فيها، النظام الرأسمالي، بغطاء اشتراكي، خلال عملية اعادة البناء.” – انهم ابطال- ابطال. ابطال التاريخ الجديد. يعقدون مقارنات بينهم وبين ابطال معركة ستالينجراد او معركة واترلوو، ليست مقارنة عادلة، فقد فعل هؤلاء ما هو اعظم، اعظم من مجرد انقاذ وطن، انقذوا الحياة ذاتها..”. تسلط الكاتبة، وببراعة؛ الاضواء على طريقة التعامل مع هذه الكارثة، من قبل المسؤولون في موسكو؛ لقد اخفوا الكثير من الحقائق عن الشعب، وبالذات في الايام الاولى، مما عرض الكثير من الناس، لخطر الموت المحتم. كان الناس يتعرفون على اخبار الكارثة من الاعلام الغربي، الذي استغلها في صناعة رأي عام مناوئا. ان سفيتلانا في هذا الكتاب كما هو حالها في كتبها الاخرى؛ دست الصمة الغربية بين ثنايا كلماتها، على الرغم من انها، كشفت الكثير من الحقائق التي تتعلق بخلخلة النظام السوفيتي، التي مهدت الطريق بعد اقل من نصف عقد، الى انهياره. لكن كلماتها من الجانب الثاني؛ وجهت انارتها على جوانب من الحقيقة او الواقع، ولم تحركها الى الجوانب الأخرى، التي تتعلق بنشوء كتلة كبيرة، من المثقفين والنخب من داخل النظام، وتعمل بالضد من النظام، اي ان لها ميلا الى الليبرالية الغربية. في هذا الوضع الذي صنعته خطة اعادة البناء؛ كان المشهد السياسي يسود فيه الارتباك. اذ، ليس من السهولة بمكان ان تُغيير بناء وقناعات مضى عليها اكثر من نصف قرن، بسرعة وفي ظرف سنوات. مما قاد الى ضعف الحرص في العمل، أو اللامبالاة في العمل. ان انفجار مفاعل تشرنوبل، لم يكن سببه خطأ في التصميم، لناحية مستوى درجات الامان والسلامة، في منشأه من هذا النوع، انما كان السبب هو الاهمال، كما يقول من قابلتهم الكاتبة من الخبراء في هذا الاختصاص. كما أن تغيير القناعات، لم يكن وليد لحظة الصدمة، بل هو موجود في العقول والنفوس، في اجيال الحرب الباردة، وكانت مرحلة اعادة البناء بمثابة المطرقة التي كسرت قفل الباب، وانفجار تشرنوبل حطم الجدران..”.. بدأ وقع الاصوات احيانا.. وكأنها- جاءت من حلم او من اثر حمى – قادمة من عالم مواز. على مقربة من تشرنوبل شرع الجميع يتفلسف. صاروا فلاسفة. عاد الناس ليملئوا المعابد من جديد.. من آمن ومن ألحد، الجميع.. لم اقابل من الشجعان، من يجرؤ من جديد ان يقسم بإنجيل المادية.” ان هذا الكتاب على الرغم مما فيه، من استبعاد المؤثرات الواقعية والموضوعية في الداخل السوفيتي، وفي الفضاء الاقليمي والدولي؛ التي صنعت او ساهمت في صناعة الحدث الكارثة، الا وهو انفجار مفاعل تشرنوبل، وعلى الرغم ايضا؛ من ان الكاتبة اوردت حقائق، لكنها لم تضعها في خاناتها الواقعية والموضوعية؛ يظل هذا الكتاب كما غيره من الكتب التي كتبتها سيفتلانا، شهادة او شهادات، على مرحلة مهمة ومفصلية من تاريخ روسيا والعالم ايضا. كما انه شهادة علمية وواقعية على ان انعدام الحرية، وخنق اصوات الناس، في اي مجتمع وفي اي دولة، مهما كانت عليه من قوة وجبروت، بحجة المحافظة على النظام والدولة، فأن هذه السياسة هي من تدمر النظام والدولة معا؛ لأنها تعاون الخصوم في تكوين كتلة مضادة للنظام، من داخل النظام، تعمل في الظلام.

ترجمة: احمد صلاح الدين