قال الشاعر العربي :
لن ينال البخيل مجداً ولو نال
ارتقاءً الى علّو السماء
يتحوّل المال عند البخلاء من (وسيلة) لإشباع الحاجات الى غايةٍ، تهون من أجلها الكرامة، وتغيب الأخلاق، وتمسخ معاني الانسانية ..!!
إنّ الجذر الحقيقي للبخل، هو سوء الظن بالله، ويخشى البخيل إنْ أَنفق شيئا مما هو تحت يده ألا يعوّض عنه ..!!
من هنا فهو يحرص على إبقاء المال مخزونا مصوناً عن أية ثلمة !!
والبخيل قاسيّ القلب، مُتبلد الإحساس، غليظ الطباع، متهجم الوجه، لايهمه ان يحتسي المريض كأس المنية وهو قادر على إسعافه، ولن تثيره مشاهد الفقراء وهم يتضورون من الجوع ، ولن يبالي بما يحّل بأبويه –فضلاً عن غيرهم من الناس – من ضيق وحرمان واحتياج ..!!
روي ان رجلاً قال للرسول (ص) :
{ انّ لي ذَنبا عظيما ، قال :
وما ذَنْبُكَ ؟
قال :
إنَّ لي مالاً كثيراً ،
وإنّ ماشيتي كثيرة ،
وإنَّ خيري كثير ،
ولكنّ الرجل اذا سألني شيئاً من مالي ، لكأنَّ شعلة نار تخرج من وجهي.
قال رسول الله (ص) :
تَنَح عني يافاسق ، لاتُحرقني بنارك، والذي نفسي بيده لو صُمتَ ألف عام ، وصليت ألف عام، ثم مُتّ لئيما لأكبّك الله في النار، أما علمتَ ان اللؤم من الكفر ، والكفر في النار ، والسخاوة من الايمان والايمان من الجنة }
(المخلاة / ص66 )
لقد كتب الجاحظ عن البخلاء كتاباً دوّن فيه شيئاً من أخبارهم وأحوالهم…
والبخلاء – كما هو معلوم – موجودون في كل عصر ومصر، ونريد في هذه المقالة ان نكتب شيئاً عن البخلاء المعاصرين لنتبين الى مدىً يمكن ان ينحدر البخيل صفاقةً، وقلةَ حياء …
واذا كان الشاعر العربي يقول :
أنتَ للمال اذا أمسَكْتَهُ
واذا أَنْفَقْتَهُ فالمال لكْ
فان البخيل مُمسِكٌ بالمال، ولا يستنكف من ان يكون الخادم الأمين لما يكتنزه منه ..!!
وقديما قيل (البخيل ذليل وان كان غنياً )
-1-
حدثني صديق غزيز وهو من كبار المهندسين المعاصرين العراقيين قائلا:
دعاني أحدهم ، وهو رجل مليء ، لتناول طعام الغداء في مطعم معيّن، يقع في احدى ضواحي العاصمة البريطانية .
وقد لَبَيْتُ دعوتَه ، وتناولتُ معه طعام الغداء .
ثم جيء بالفاتورة ، وحين قَرَأَ المبلغ الواجب الدفع وكان – 45 جنيها استرلينيا – خاطبني قائلاً :
انه مبلغٌ كبير ،
ادفعه أنتَ ..!!
انظر الى الصفاقة كيف تكون !!
انه يكلّف ضيفه ان يدفع فاتورة الحساب، ناسياً أنه هو الداعي اليها، وبالتالي فهو الملزم بتسديد الحساب ….
أين هذا من قول ابن الرومي :
واني امرؤ لاتستقر دراهمي على الكفّ الاّ عابرات سبيلِ
-2-
وحدّثني صديق آخر ، وهو خطيب لامع ، وباحث معروف ، فقال :
دعاني صديق الى تناول الطعام ودعا معي مجموعة من الأصدقاء وبالفعل حضرنا جميعاً وتناولنا الطعام في احد المطاعم هناك ،وعندما هممنا بالخروج قلت لصاحب الوليمة على سبيل المجاملة :
اسمح لي أن أدفع فاتورة الحساب، فما كان منه الا ان قال :
ادفع .
وهكذا كان ..!!
لقد دفعتُ قائمة الحساب ، رغم أني (المدعو) لا (الداعي) وانفض الجمع عن قصة جديدة في ملّف المفارقات العجيبة
-3-
وحدثني أحد العلماء الأعلام قائلا :
إني أوصيتُ أحد الاثرياء بمساعدة قريبٍ له مريض، ثم عدتُ المريض وسألتُه :
هل جاءك قريبك فلان عائدا ؟
وماذا كانت حصيلة الزيارة ؟
فقال :
لقد جاءني عائداً ، حاملا معه دجاجة ..!!
انّ هذا الثريّ البخيل ، يمنعه بخلُه ان تكون له مكرمة يحمد عليها،
فالمال عند البخيل أثمن من الأقرباء ومن كلّ الاشياء ..!!
-4-
وحدّثني أحد الأعلام عن رجلٍ موسر أنبّ ولده الشاب الذي اشترى من بائع الصمون (كيساً) ليضع فيه الصمون قائلا له :
ان هناك أكياساً كثيرة في المنزل فلماذا لاتأخذ واحداً منها قبل ان تذهب لشراء الصمون ؟
إنّ الكيس لم يكن باهظ الثمن …
بل كان رخيصاً للغاية ..!!
يقول صاحبي :
قلت للأب :
لقد أهنت ابنك أمام الناس ، وشدّدت النكير عليه، مع انه لم يفعل شيئاً يوجب التوبيخ والتأنيب ..!!
ان الحفاظ على كرامة الولد أثمن من الكنوز ولكنها لاتعدّ شيئا عند البخيل اذا قورنت بأبسط مبلغ ماليّ ..!!
وهذه هي الصفاقة والحقارة .
واذا كان من الصحيح ان يقال :
إنّ الولد عليه أنْ يحترم أباه ويرعى حرمته ،
فان من الصحيح أيضاً :
ان الاب لايسوغ له إهانة ابنه لأتفه الأسباب ..!!
انه تعسف في التعامل وخروج عن مقتضيات العدل والانصاف والمعروف
-5-
وحدثني تاجر مرموق المكانة فقال :
وقع خلاف بين تاجرين احدهما عراقي والآخر سوري، فامتعض التاجر العراقي من صاحبه وقرّر – قطع الصلة به ، وإنهاء التعامل معه ، فقال له :
كم لك عليّ ؟
فجاء السوري بالحساب ،مضافاً الى ثمن الطوابع البريدية لبطاقات التهنئة التي كان يبعث بها الى صديقه التاجر العراقي في الأعياد .
وهنا اعترض التاجر العراقي عليه قائلا :
من قال لك ان تبعث اليّ بطاقات التهنئة ؟
فاجاب السوري :
ان ذلك كان من مقتضيات الصلة بيننا .
فقال العراقي :
اذن اشطب ثمن (الطوابع)
فأجاب السوري :
لا
انك قد قررت قطع الصلة فعليك دفع قيمتها .
أقول :
ان انفاق وقت طويل بشأن قيمة الطوابع – وهي ضئيلة بسيطة – يدل على اقتران البخل بالصفاقة، وقلة الحياء، والتدحرج الى السفوح …
ويكفي أن نذّكر بما روي ان أنس عن النبي (ص) أنه قال :
{ سميّ البخيل في السماء الأولى بخيلا ،
وفي الثانية لئيماً ،
وفي الثالثة شقيّاً ،
وفي الرابعة لعينا ،
وفي الخامسة سفيها ،
وفي السادسة ذميماً ،
وفي السابعة مهينا ،
وقد منع الله عز وجل ريح الجّنة عن البخيل }