23 ديسمبر، 2024 7:27 ص

صرخة العبادي وهيئة النزاهة

صرخة العبادي وهيئة النزاهة

يبدو واضحا ان استحضار الشعارات المطلبية الجماهيرية او الشعبية وابرازها يعد ضروريا في تهيئة مناخ شرعي (شعبي) داعم لما تخطط له الادارة الوزارية الجديدة، فجاء شعار مكافحة الفساد الذي جعله السيد العبادي المكلف بتشكيل الوزارة كاحد اولوياته لمعالجة هذه الظاهرة . لكن الامر لا يقف عند حدود الاعلان عن النية في المواجهة ، فان هذا قد مورس سابقا وامتلأت الشعارات في ذم الفساد ولعنه عبر جميع المنابر الاعلامية والصحفية والمطبوعات والندوات والمؤتمرات وعلى لسان جميع المسؤولين في الدولة دون استثناء ، لكن الفساد ظل يشكل التحدي الاكبر امام قيام الدولة بمفهومها المؤسساتي والقانوني والادائي ، لابل ان الفساد شكل القاعدة الاساسية لانطلاق اي مشروع رافض لاستكمال قيام الدولة سواء الذي يتم التخطيط له او المتحصل نتيجة الفوضى الادارية والمالية المستندة على نظام المحاصصة السياسية والمحسوبية ، وان معاينة بسيطة لما تم الاخفاق فيه سيبدو لنا ان الفساد كان السبب الرئيسي في نتائجه واولها وفي المقدمة منها هو اخفاق القوات المسلحة على الصمود امام مسلحي داعش وفقدان السيطرة على الموصل وباقي المناطق المجاورة ، ناهيك عن الاخفاق في المجالات الاساسية الاخرى في خدمات الصحة والتعليم والبلدية وتوفير المواد الاستهلاكية الرئيسية او اعادة الاعمار المرتجى. لاشك ان الدستور العراقي (رغم اشكالاته) والمصادق عليه شعبيا في استفتاء 2005 يمثل فلسفة الحكم المفترض بعد التغيير عام 2003 والذي حدد طبيعة التعامل الاجتماعي والسياسي لللانشطة الثقافية والاقتصادية وعمليات التخطيط والبناء والمعالجات على اسس الحكم الديموقراطي بمؤسساته التي تفترض استقلالها وفصل سلطاتها على اسس المشاركة والتكامل .. وعلى ضوء بنودهذا الدستور ومنها التاسيس لقاعدة رقابية مؤسساتية متينة ومتكاملة تمتد مجساتها وقنوات عملها في كل حيز من نشاطات المجتمع العراقي سواء التابع لادارة الدولة او النشاط المدني او مشاريع اقتصاد السوق الذي يفترض ان يكون له الريادة في المرحلة القادمة ، فمثلت هيئة النزاهة المؤسسة الرقابية الابرز مرحليا للتصدي للفساد لما لها بحسب قانونها الذي صدر بالرقم 30 لعام 2011 من مهمة الوقاية والردع للتصدي للفساد بالتعاون مع المؤسسات المهنية الرقابية الاخرى وبالاخص ديوان الرقابة المالية العريق واللمجتمع ومنظماته المدنية بالاضافة الى التنسيق والتعاون مع المنظمات الدولية التي ازدادت وبرزت انشطتها مؤخرا في هذا المجال , حتى ان العراق قد انضم الى اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة االفساد وترتبت عليه التزامات قانونية وشكلية جعلته جزء من المنظومة الدولية لبرامج مكافحة الفساد رغم تناقضات المرحلة الانتقالية التي يعيشها ومن ضمنها ارتفاع مؤشرات الفساد حسب مقياس مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية سنويا التي تضع العراق دائما في مرتبة الدول الاكثر فسادا في العالم . قانون رقم 30 لعام 2011 تشريع برلماني ترجم ارادة الدستور لتعمل هيئة النزاهة بموجبه وهو مستمد باغلبه من الامر 55 وملحقه الصادر عن سلطة الائتلاف الموحد لينسجم مع طبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وموائمة مصالح العراق في تعاونه الدولي والاقليمي ، واكد هذا القانون على اهمية استقلال الهيئة عن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية رغم صلات الهيئة واقعيا مع هذه السلطات،لكنها في الوقت نفسه تخضع لقوانين الدولة ولوائحها وتشريعاتها وتخضع ايضا لرقابة مجلس النواب الجهاز الرقابي الاكبر في البلاد ..اي ان هذه الهيئة هي مؤسسة دولة لايفترض بها ان تتاثر بطبيعة وانماط واتجاهات وفلسفة البرنامج السياسي للحكومة ، بل انها تعد الحامي لهذا البرنامج والضامن لتقليل اخفاقاتها والمراقب لاداء منفذيها وهي بالتالي عنصرا داعما وحقيقي لضمان مصلحة الجماهير التي اختارت حكامها وفوضتها السلطة التي تدير شؤنهم من خلالها . لكن الذي حدث غير هذا تماما ، فلم تنل هيئة النزاهة استقلالها الدستوري قطعا سواء منذ تاسيسها عام 2004 او بعد اقرار قانونها عام 2011 لكنها ورغم ضعف ادائها المبرر نتيجة ضعف مؤسسات الدولة بشكل عام بسبب فوضى المرحلة الانتقالية ، احتلت مكانة مهمة وعظيمة بين المؤسسات لانها مثلت ورقة ضغط بيد اللاعبين الرئيسيين السياسيين تحديدا في اتون الصراع ، فمؤشرات ادائها تمثل او تعكس وجها من اوجه الصراع والتناقض الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العراقي ، بل ان هذه الهيئة ومنذ العام 2007 خضعت تماما لارادة السلطة التنفيذية وضغطها الذي بدت وكانها اداة بيدها للدفاع عن الحكومة والدفع بصفة الفساد بعيدا عن ادائها ، خدمة او محاولة لاستمرار وجودها ودرء محاولات اسقاطها وحجب الثقة عنها ، رغم ان الفساد كان حاضرا بقوة في الاداء بحسب تقارير الشفافية الدولية ومنظمات المجتمع المدني المحلية ووسائل الاعلام المختلفة الاتجاهات ، ولم يترأس الهيئة رئيسا اصيلا منتخبا من قبل مفوضي الشعب بحسب اليات الترشيح الاصولية منذ تاسيها الى اليوم ، لا بل ان شخص رئيسها وتعيينه مناط حصرا بموافقة ومباركة رئيس الوزراء الذي يعتمد تماما على مستشاريه في اختياره ، ويبقى وجوده في منصبه رهنا بارادة رئيس الوزراء ويحدد بقائه بحسب درجة اصلاح  التشويش على عمل واداء الحكومة اذ تم استبعاد كل من الراضي وموسى فرج والعكيلي على هذا لاساس ليكون الرئيس الاخير والحالي بمواصفات اقل ما يقال عنها انه تابع تماما لتعليمات مستشاري الحكومة ، ما افرغ مهمة الهيئة الرئيسية في مراقبة اداء الحكومة واجهزتها ودوائرها والخضوع تماما لارادتها وغض الطرف او عدم استكمال اجراءات المتابعة ضمانا لاستمرار وجود الرئيس المكلف من قبلها الذي بدوره يحرص على اختيار قياداته ارضاءا لمراكز القوى في مكتب رئيس الحكومة او المتنفذين في حزبه ، وهذ يفسر تراجع اداء الهيئة وقبول اجراءاتها في مؤسسات الدولة بل وصل الامر في بعض مؤسسات الدولة ان ترفض هذه الاجراءات او يتم التهكم بها، ما فقدها هيبتها الضرورية للمراقبة والردع ، اما قياداتها ومدرائها العامون فان اختيارهم يخالف بدرجة كبيرة القانون رقم 30 الذي تعمل بموجبه والمحدد لمهام الرئيس ونائبيه والمدراء العامون لمتطلبات تعيينهم وضوابطه ..بل ان انحصر الاختيار والتعيين بارادة المكلف بالرئاسة ودعم مراكز القوى في الامانة العامة لمجلس الوزراء اضافة الى موضوعة المحاصصة وسلبياتها المتكررة ، فتعيين مدراء عامون من هيئة نزاعات الملكية التي كان الرئيس الحالي يقودها لشغل الدوائر المضافة بحسب القانون الجديد يؤكد ما ذهبنا اليه ويؤكد ايضا مستوى الضعف في ادائها اضافة الى الكثير من المراكز الوظيفية الاخرى التي راحت تشغل باشخاص موصى بهم للحصول على الامتيازات التي اقرها قانون الهيئة وخصوصا مرتباتها التي ترتفع بشكل مذهل ضمن الدرجات الوظيفية الاولى على سلم التسكين الوظيفي لتصل الى اكثر من ثلاثة ملايين دينار اضافة الى الاستحقاقات الاخرى من السيارة المستخدمة وقطعة الارض السكنية حتى بدا المنصب او الوظيفة في هيئة النزاهة تمثل كسبا او امتيازا شخصيا .. حتى امتلأت الهيئة باشخاص غير كفوئين. اذن ولاجل ان يكون شعار مكافحة الفساد حقيقيا وجادا على السيد العبادي ومساعديه ومجلسه ان يدفع باتجاه اصلاح الوضع الاداري للهيئة وترشيح رئيسا اصيلا كفوءا وفق الضوابط القانونية المنصوص عليها في اللوائح والتعليمات وان يحظى بالتصويت الضروري من مفوضي الشعب وان تكون هذه الهيئة ذراع ضمن اذرع الدولة الضامنة لنجاح واستمرار الحكومة في تنفيذ برنامجها .