15 أبريل، 2024 4:13 ص
Search
Close this search box.

صرخات صامتة

Facebook
Twitter
LinkedIn

لم يمر صباح إلا وهم يتجولون في الحدائق العامة البعيدة عن مساكنهم قليلا – ليرسموا على أشجار البلوط وجوه الماضي العابسة كي لا ينسوا زمن الحروب والأزمات التي ولدت في محياهم الأثر تلو الأثر!. فلم يعد الشاطىء يضج بحيوية الأسماك بل بات يتقيء بشظايا القذائف وصفائح الفولاذ التي ما تنفك عن الطفو على سطحه لتحل محل قطع الجليد المسكينة !. الناس يتأففون قلقا مماهو قادم حتى عمال النظافة الدخلاء لا زال الفزع والارتياب يطغي قسمات وجوههم , فلم يعد هناك مجالا لاطمئنان النفوس لأن الماضي المأساوي قد يتكرر اليوم بعناوين جديدة, لكن بالرغم من كل هذا القلق إلا أن أصوات أذهانهم لا زالت تهمس لهم كل ليلة حتى في هذا الوقت العصيب بأن “لا شيء قادم أقسى مما حصل قبل سنوات فلا داعي لكل هذا القلق الغير مبرر “. وعلى هذه الحال تستمر الأنفاس بالتبخر الى الأعالي فمنذ اليوم لن يشغلهم شيئا إلا الجنائن التي طالما تستوطن أحلامهم ليل نهار لتصور لهم كيف يطوف الغلمان البيض حولهم وكيف يقدمن لهم الحور الذين يرتدين فساتين الألماس الأباريق الذهبية, كل ذلك كان يبعدهم عن وحل الحيرة والغموض الذين اعتادوه في عالمهم المرئي فلم يعد لديهم شيء يأخذهم نحو أحلامهم وآمالهم غير الخيال الذي بات كأنه أم رقوب تسعى جاهدة لرسم وتلوين كل ما كان يدور و يستوطن في أذهانهم !. صاح أحد المجانين من على نافذة المصحة : “الحرب قادمة” وبعد قليل مر رتل كبير من المصفحات العسكرية بالقرب من المارة محدثا عاصفة ترابية غطت المباني والمحال وبدأ حينها شبح الخوف يستوطن النفوس ليتلاشى شبح الجنائن (الخيالي), الجميع هناك بدأ يردد كلمة المجنون لكن بنبرات متفاوتة !. أدرك الجميع ان فم السماء لا ينتظر الإذن من أحد فسرعان ما يتقيء بالأقدار التي لم تفرق يوما بين الخبيث والطيب في هذه المدينة.

“”ليت الأمر ينتهي عند هذا الحد”, “ليته يكون محض خيال كالجنائن التي نحلم بها كل يوم “ليته يكون كزخة صيف …” . رجل مسن كان متكئا على الجدار كأنه يرى بفمه المفتوح بدلا من عينيه المتجعدتين!, يسيل منه اللعاب بشكل لا إرادي كأنه مسخر في هذه البقعة كي يطلق الشتائم على المارة هنا وهناك دون سبب وجيه, لم يأبه لأمره أحد فما هو قادم أهم بكثير من لسان عجوز بائس !…

خوف أهل المدينة لم يكن فقط من فناء أجسادهم فالأجساد سرعان ما تفنى عاجلا أم آجلا لكن الخوف كان من أثيرها الذي ربما لن يعود إليها حال فنائها وهذا يعني أنهم لن يبحروا من جديد في عالم الخيال والتأمل كما كانوا يفعلون في السابق ولم يحلموا بذلك حتى لأن الأجساد وحدها لاتملك الطاقة الكافية لفعل ذلك !. وعندما فرد الظلام جناحيه دوت صفارات الإنذار في ليلة شبه محمرة وخلت الشوارع من المارة وبعد سويعات قليلة بدأ دوي القنابل بالسقوط تدريجيا على أرض المدينة وامتزج الهلع مع اصوات الانفجارات التي كانت أشبه بمشهد للألعاب النارية في احتفال ليلي طويل, واستمر القصف في هذه الساعات التي كأنها كانت تمر ببطىء شديد لكنهم أذعنوا الى النوم في نهاية المطاف رغم شبح الخوف الذي كان يتربص بهم كل ثانية في هذه الليلة . وعند حلول الصباح ما ان استيقظوا حتى وجدوا اجسادهم يحيطها الظلام من كل صوب الذي كأنه يوحي ببقايا أنقاض كرانيتية, لم يتمكنوا من الصراخ حينها بسبب الغبار الكثيف المتراكم على أفواههم لتبعث قلوبهم المفجوعة صرخات صامتة لا يسمعها غير هذا الظلام !. هكذا قال أحد حكمائهم بعد مرور خمسة أعوام من حدوث هذه الفاجعة : “أنها عواقب الخطيئة لم تغادرنا يوما فكل يوم نتحمل وزر أعبائها رغم انها غير موجودة في عالمنا إلا في الكتب ونصوص الأقدمين!. بنينا كل حيلة هربا منها تعمدنا القهقهات الطويلة وتظاهرنا بالبحث عن السعادة المطلقة كذبنا على وجوهنا في كل مرة ننظر فيها الى المرآة, استمرينا ندور ببيادق تلك اللعبة الطويلة التي نسميها (الحياة) , كل ذلك كان يدفعه فقط هاجسنا خوفا لما هو آتٍ. أما خوفنا من هذه الخطيئة فسرعان ما يزول عنا تدريجيا ليحل محله هذه المرة السكون الذي سيحتوينا بعد الفناء الحتمي لينهي بذلك فصول تلك اللعبة الطويلة على يديه !.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب