18 ديسمبر، 2024 7:07 م

صراع الذوات المأزومة

صراع الذوات المأزومة

قراءة جديدة في ( البحث عن طيور البحر ) لسعد البزاز
لعل من أكثر العلامات و السمات الجمالية إقترانا بأقاصيص

مجموعة ( البحث عن طيور البحر ) للقاص و الأعلامي

سعد البزاز هو ذلك الاستدعاء المطرد في تكثيف اللحظات

التصويرية الشعورية و غرسها داخل فضاءات رؤية

مأزومية الشخصية القصصية الواثبة بين أفق الموقف العابر

و بين جدلية الوهم الأمكاني الذي من شأنه وضع صور

حالات الأشياء في النص القصصي داخل حدود أيقونة

صورية تقترب من حافة ذهنية و نفسانية ( اللامنتمي )

لمحيط و وظائف و صور صفاته الذاتوية الموغلة في

دوامة إنزياح البؤرة الابدالية الذاتوية لدى محور وظائفية

الشخصية القصصية . أن القارىء لأقاصيص مجموعة

( البحث عن طيور البحر ) لربما يواجه ثمة دلالات

غرائبية في عوالم شخوص قصص سعد البزاز ، فالقاص

البزاز لا يخرج في نصوصه عن صوت الحالة الظرفية

و النفسية المعزولة لدى الشخصية السردية ذاتها . بل أننا

نجد وظائفية التنصيص لديه عبارة عن ( شخصية مأزومة)

تواجه واقعها اليومي المسحوق ضمن سلوكيات شبه فنتازية

وصولا الى تعددية عامل المكانية و الزمنية و مفردات صورة المدينة وحالاتها الانفصالية أحيانا عن خطية دائرة

النمو العضوي في المسار المحكي . وهذا الحال ما وجدناه

في قصة ( النهار الشاسع لصبي في العاشرة ) و قصة

( عينان نصف مغمضتين مليئتان بالدموع ) فالقاص في

مساحة قصة ( النهار الشاسع لصبي في العاشرة) يطلعنا

على حكاية شخصيته القصصية في محور النمو السردي

( إيليا ) إذ أن معالمها تتمسك بالتشكيل الحلمي التسجيلي

بالسرد المروي المؤول . و يطول تحديق إيليا في أحوال

هذا المزيج الإنساني بذاته و بمواجهة مرايا دلالات الأشياء

الخارجية من حوله : ( نظر إيليا الى الصندوق الخشبي الذي

يتدلى من كتفه فغمره الأحساس بأشياء جديدة على أيامه /

و أستعرض في لحظة نهائية كل ما حوله وهم بفعل شيء /

و حين أطلق رجليه كما يفعل كل مرة ينسل فيها من باب

الدار أحس بعجز مفاجىء عن أطلاقها كما يفعل الطائر /

فتثاقل إيليا و راقب في مواجهته حزنا يتداعى من عيني

أمه التي أطبقت عندئذ الباب و تركته وحيدا / أنه لا يفرق

بين نفسه و بين كيس يلقى عبر الباب / كم هو صغير إزاء

وحدته في نهار جديد مليء بالأسرار / و كم هو موحش

حزن الأم الذي يتكرر في ساعات المرض و التعب / الباب

المسدود هو الآخر مبهم و معقد كرات حديدية و صدئة

تنتشر على المستطيل الخشبي فتبعث ببصيص مخبوء . )

و تعصف النوازع الأغترابية بالشخصية المحورية إيليا بين

محيط الأسرة و بين جسد المدينة فتتخلخل في ذهنه هواجس

متتاليات الخروج الى مفردات المدينة التي أختطفته في مسار

رؤية اللامألوف و ملاحقات الأخرين له : ( أبوك صار

مقعدا .. ستأتي أيام موجعة ؟ / و يستسلم إيليا في الساعات

التالية من الليل لنوم كابوسي تحيطه هلوسة غريبة لا يتذكر

شيئا منها عند الصباح . )

( سياقية التطبع و فخ الطفولة واحلامها )

في رحاب خروج الشخصية إيليا نحو سعة فضاء عوالم

صندوق أصباغ مسح الأحذية الذي توارثه من والده المريض

. تضعه تراكيب السرد في أجواء مشاهد الطفولة للأشياء

الموحشة من حوله ، محاولا أن ينفخ دقائق روحه الملهوفة

في تقاسيم الصروح الرخامية في أعلى منصة نصب الحرية

فيما تلبسته على حين مرة رغبة في الدخول الى عالم شاشة

السينما : ( أن أمه تشغله .. وجه مرهق و مبحلق لا يغادره

يسمر عينيه على أيما شيء مستقر .. لقد سمر بصره على

معلمه يوما ثم وجد نفسه يقول شيئا ربما لم يكن يقصده بتلك

الدقة :ــ هل تموت العين من الدموع ؟ ساد سكون مفاجىء

في الصف و هجعت طقطة الأقلام وهمهمات الفتيان .. ما

الذي فعلته يا إيليا ؟ .. خاطب نفسه / و المعلم يتجه إليه فيما

حاصرته عيون الفتيان : ـــ أتبكي كثيرا يا إيليا ؟ كان الوجوم

صارخا في وجهه و بدت منه حركات بعثرت انتباه البعض..

لم يجب المعلم .. فنهض واحد من الفتيان : إنه يخاف على

عيني أمه .. ! ) في قصة القاص ثمة مغايرات بؤرية

شاسعة مصدرها خطية السرد الإيهامية في كتابة النص..

فهذا الأمر هو ما أسفر عنه شكل سردية الأحداث بضمير

المخاطب . إذ أن الأحداث السردية تنقل في النص بموجب

وجهة نظر الشخصية المحور و بطريقة تغدو من خلالها

مبأرة من الداخل في حين أنها تبدو بمثابة ( صوت السارد)

الذي له سلطة السرد الأستشرافية في فضاء المحكي . و في قصة ( النهار الشاسع لصبي في العاشرة ) نلمس ذلك التنافر

الظاهر بين دواخل الشخصية و بين محيطه القهري و

الاذلالي . و لعل من أهم مفاصل و تمظهرات حبكة هذا

النص الجميل ، هذه المرحلة التي صار فيها الصبي كنوع

من الممارسة التراجعية عن أجواء و سلوكيات منبوذية

تلك العوالم التي صار يصادفها بروح الطفولة البريئة :

( لمح وجها صاحيا ممتلأ .. تناول الفرشاة و قد حبس أنفاسه

و أنحنى على الصندوق منتظرا قدم الرجل .. لم يضعها ..

نظر ثانية و تمنى لو يمضي الآن .. كان الوجه الصاحي

الممتلئ يتفحص أشياء خلف إيليا بأهتمام و أرتياح .. ثم

أنسحب الرجل هو و معطفه و أهتمامه .. فأدار إيليا جسمه

الى الخلف إمراة بعباءة سوداء عبرت أمام اللوح الأول ثم

أنسحب ظلها الآن من اللوح الثاني .. لوحان صاخبان

بخطوط و رسوم بالأحمر و الأزرق .. على الأول صورة

قبضة يد تحتها تماما كلمة ـــ جبهة ـــ و على الثاني التهب

لون النار .. سأل إيليا نفسه عما شد الرجل أليهما .. وراح

يحاول أن يخلق من الاهتمام على وجهه يقلد بها الحالة التي

بدا عليها وجه الرجل .. لم يستمر .. عاد بنظره مسرعا الى

مشاهد المدينة الزاهية . ) من خلال أفق هذه المشاهد نستطيع

أن نكتشف مدى دقة القاص الرمزية التي راح من خلالها

يجسد دلالة رسومية النسق اللحظوي في علاقة و إيماءة

فكرة رسوم النصب بحالة ذلك الرجل الذي كان يواعد أحدى

البغايا في ذلك المكان . أن مستويات الشروع التمثيلي في

قصة البزاز وجدناها شديدة الدقة و العناية في تشكيل

ابداليات اللحظة العينية في محددات الشكل الفني ، إذ أنها

كانت تتجسد في واقع القراءة على هيئة رموز و ترجمات

ابدالية مختلفة في الدلالة و في كيفية نوازعها الشفرية . على

أية حال نختصر زمن دلالات قصة ( النهار الشاسع لصبي

في العاشرة ) بهذه المشهدية القصيرة : ( فأنفرجت على

وجهه ضحكة غير ذات صوت .. رجل يفتح ما بين رجليه

و يلبث شاهرا مسدسا سحبه من خصره .. عيناه حادتان

و شعره أصفر و صوت رصاصاته تفجع / أيليا لا تخف

هذا بطل .. أنتظر سيقتل مائة .. الأصابع الخمسة المنظمة

أنخفضت الى صدره ثم بطنه لتسكن على فخذه .. مخلوق

حديدي يحف على جسده .. هكذا الأصابع متصلبة لعلها

المسدس .. الأضلاع الحديدية اللامعة التي انطلقت منها

اشراقة لامعة غاصت في خاصرة الرجل على المستطيل

الضوئي أمام إيليا . ) أن الواقع الذي كان فيه الصبي لم

يكن في حقيقته سوى شخص كان يجلس خلفه فيما أخذت

أصابعه تتسلق جسد الصبي . غير أن القاص كان يؤشر

لقارئه صورة أخرى توالدية من أحداث الفلم المعروض

على شاشة السينما و بين ما كان يشعر به الصبي في

الوقت ذاته من رؤية و احساس آخر . أن الدافع الحقيقي

الذي جعل الصبي يغادر رؤية الواقع اليومي تتكرس في

العدمية بين مشاعره الطفولية و بين أجواء تلك العوالم

المنبوذة من الذوات الأنحرافية . ( أيتها الريح أحملي الجسد

المذكور .. إيليا شاهد نفسه يوما في طريق مظلم محاط

بأشجار عالية يطارده رجل مسن أشعث

ـــ أردت أن تهرب ــ لكن جسمه المتثاقل خانه .. فما الذي

أنقذك في الحلم يا إيليا ؟ .. أن الريح كانت تحمل الجسد

الصغير وكان يطير . ) من هذا المنطلق تتجلى لنا فكرة

النص و الشخصية القصصية و هي تبحث عن ماهية حريتها

المحكومة داخل أسوار محيط خيارات الواقع المخيبة ، بل

أنها أرهاصات الوجود الضاغطة على ذهن و تجربة

الشخصية المأزومة بنبضات وحشية الحياة التي لا تخلو من

مفارقات جملة محيطها العدمي الهالك بوجود الكائن

المسحوق .

( أعماق الفرد و اشكالية دلالة التيه)

في قصة ( عينان مغمضتين مليئتان بالدموع ) و قصة

( الطائر الحزين يفيق مبكرا ) و قصة ( الكرة والدماغ)

هذه القصص تحمل ذات الدلالات من مأزومية البطل ،

و أن أختلفت في جوانب البناء و ملامح اطارية النمط

التصويري ، ألا أنها من جهة غاية في التوحد من حيث

المضمون و منظورية التقاطب التوصيفية . في مجموعة

أقاصيص ( البحث عن طيور البحر ) يقوم التقاطب

النفسي لدى الشخوص القصصية بين طرفين مركزيين

يواجه أحداهما الآخر مواجهة تعارض و أختلاف . و هذان

الطرفان هما : الطفل و الواقع أو الشخصية المأزومة و

قهرية الواقع . الطفل كما تبرزه علوم النفس هو ما يشكل

محور نضارة الحرية و الامنيات المستقبلية . غير أننا

وجدناه في نصوص القاص مصدرا كبيرا للهروب و التيه

و الخيبة و الخذلان . كما وجدناه في قصة إيليا و قصة

( عينان نصف مغمضتين ) قصة ( الطائر الحزين ) تلك

الشخصية التي تدعى ب ( عليوي ) المأزومة رغم أنها لا

تتصف بمرحلة الطفولة : ( بعد ساعة من سقوط جسد

كالخشب لم يجتمع أحد .. الأصوات هي الأصوات ..

السوق يزداد أحتشادا .. و مازالت اليد تقترب أكثر من

عجيزة المراة .. الجسد المغطى ب ــ الجنفاص ــ و وقف

على رأس عليوي طائر حاد العينين .. له جناحان ملبدان

ببقع سوداء . ) أما الواقع الذي تبرز منه هذه القصص

فهو محمل بهواجس الحياة المتعبة وصراعية المجتمع

و الهموم المعيشية الكبيرة .

( تعليق القراءة )

من خلال قراءتنا لعوالم مجموعة القاص سعد البزاز

شاهدنا الصورة النصية في مفتتح السرد وهي تأتي

مموهة بعد موقف من الانتظار العتباتي الثقيل و المشحون

بالتوتر الذي يعيشه بطل النصوص في المجموعة . و على

حد تقديري الشخصي أظن بأن القاص البزاز كان يشيد

عمق حالات موضوعة نصوصه من خلال ألتقاطه لنماذج

شخوص الحرمان و الخذلان لغرض ترجمة جوهر تقاطب

الاشياء و المواقف المتراوحة بين رهافة دواخل الأنسان

المأزوم و بين صلابة الواقع الذي يحيا فيه و بشروطه

المشحونة بالتوتر و الشبهات .. و في الأخير أجدني أقول

أن قصص مجموعة ( البحث عن طيور البحر ) ما هي إلا

مظاهر بليغة في المحصلة النهائية بل أنها مظهرا من مظاهر

المماثلة المرسلة بين النص و الواقع وهي مماثلة راحت

تترصد بلوغها الناضج بوسائل إدائية تتخطى أصداء تقليدية

نصوص قهر الذات و النوازع الغرائبية التي كتبت في

مراحل متأخرة من زمن البناء القصصي المطروح قسرا

في توسلات اقطاب السرد القصصي الراهن .