كلنا عانى منها، بغض النظر عما اذا كان الوالدان لطيفين ظريفين ام مستبدين عنيفين، وسبق ان عانى منها آباؤنا وقبلهم أجدادنا، بل الكثير من الاجيال في كل العالم. وسبق ان كتب الروائي الروسي ايفان تورغنيف عن الفجوة بين الاجيال، او صراع الاجيال في روايته (الاباء والبنون) في العام 1860. أما سايكولوجيا، فقد ظهرت النظرية لاول مرة في العام 1960، عندما بدأت حركات الشباب تناهض كل مايمت الى جيل الاباء بصلة من موسيقى، تقاليد، قيم، نظريات سياسية وحتى اساليب التعليم.
وبالرغم من تناولها من قبل الكتاب العرب في اعمال عديدة، الا ان المثل المصري (ان كِبر ابنك خاويه) اختصر المشكلة. وكان يمكن تطبيق هذا المثل في السابق، عندما كانت المشكلة مع الابناء تتعلق في نشاطات مثل السهر في المقهى، او اختيار العروس، او التدخين. ولكن، بعد القفزة التي خلقها عالم التكنلوجيا والتي جعلت من طفل في الرابعة (مفتح باللبن)، تجاوز سقف مطالب الاجيال لتتعدى السيكارة والعروس والسهر.. الخ، لتتناسب وحجم مصطلحات القرن الحادي والعشرين من حرية وديمقراطية وتمكين وحقوق انسان وهجرة. ومع ان هذه المصطلحات كانت موجودة منذ بداية القرن العشرين وارتفعت كشعارات لثورات القرن العشرين، لكن التكنلوجيا لم تكن موجودة. فعندما تحدث ثورة في فرنسا، كان تأثيرها يصلنا بعد عشر سنوات، وعندما يتظاهر الناس في مصر، يصل الخبر بعد شهر او سنة. وباختصار، لم يعد هناك (لبن) يكفي لاستيعاب (العيون المفتحة)، سواء من الجيل الجديد او القديم، وفي كل العالم.
من تابع مجريات الاحداث في تظاهرات اللبنانيين التي حملت اجمل شعار (طلعت ريحتكن)، ربما أدرك ان المشكلة لم تكن النفايات، بل ان غالبية المتظاهرين تحدثوا عن ريحة الفساد التي (فاحت)، والديمقراطية (الخداعة) التي اغرقت شعب لبنان في المحاصصة والطائفية. فالشخصيات التي تحكم لبنان الان هي نفسها التي كنت اسمع اسماءها في الاخبار وانا طفلة، هم ابطال الحرب الطائفية التي استنزفت لبنان 25 عاماً، وهم حكامه اليوم، وهذا بالتحديد ماحصل ويحصل في العراق، وليبيا، وتونس، وسيحصل في سوريا، وربما المغرب واليمن وغيرهم. فبالرغم من تغيير الانظمة، فان من تولى الحكومات بعد التغيير، هم عقليات (متحجرة) تتحدث بالديمقراطية والشفافية والتغيير، وتدير الامور من على ظهر بعير في صحراء الربع الخالي قبل قرنين من الزمان.
المشكلة الحقيقية، هي الفجوة التي كبرت جداً بين الاجيال في المنطقة العربية وبين حكامها، من غادر منهم مرغما، ومن مازال (موغف على كلوب الشعب)، فهم يظنون انهم قادرون على خداع الشعب في عصر الاتصالات والتكنلوجيا، وان اساليبهم (العتيكة) يمكن ان تبني دولة تواكب العقول المتفتحة. لكن الحقيقة هي ماذكره عالم الاجتماع هاجستيد في هذا الشأن، حيث قال ان الفجوة بين الابناء والاباء تتسبب في عزل الاباء عندما يثور الابناء على تقاليدهم وتزمتهم. فمتى يدرك الحكام ان حديث الآباء التقليدي عن (فساد الجيل) لن ينفع، وان (العيال كبرت).
يذكرني كل هذا بسؤال احدى الطالبات، عندما ذكرت امامهم اسم احد الوزراء، فقالت: هذا مو كان وزير الطاقة، ووراها النفط، وقبلها الامن؟ اجبتها نعم. قالت: ست، ليش وزراءنا يفترون نفسهم عالوزارات، ماكو غيرهم؟