18 ديسمبر، 2024 3:56 م

صراخ على ايقاع الخسارة

صراخ على ايقاع الخسارة

قصة قصيرة
” ثمة ضجيج وصخب يدوي في رأسي، كأني أسمعه، من بعيد، من خلف هذه الجدران، على الرغم من انه؛ يواصل الرنين، بلا هوادة أو توقف، داخل جمجمتي؛ بأصوات تأتيني من عدة أمكنة وأزمنة، خارج هذا المكان الملون بلون الشمع، الذي بدأت مداركي تتعرف عليه، على الرغم من الضجيج، الذي لو تزل تحدثه هذه الاصوات داخل رأسي. ثمة ألأم مبرحة في رأسي، الذي، يكاد ينفجر من شدة الضرب عليه. هكذا كنت اتصور وضعي الذي أنا فيه؛ مثل طيف حلم مرَ علىَ سريعا، وايضا سريعا تبخر في الوجود، فلم أعد اتذكر شيئا. من ضربني؟ يا ألهي؛ لا أستطيع حتى، معرفة، من ضربني؟ اصلاً، لا اعلم؛ هل ضُرِبتُ فعلاً أم لم أُضرب؟ لم أعد متأكداً من أي شيء. أسألني. تنظر عيوني الى البعيد، في الفضاء الملون بالبياض الشاحب الذي يحوطني من جميع الأركان، ومن السقف والأرضية. العالم من حولي ضبابي، كل الأشياء والأشخاص والأمكنة والأزمنة التي كنت قبل هذا الحين، قد عشتها، تحولت الآن، في هذه اللحظة، فجأة؛ الى شريط سينمائي. لا أستطيع تحريك يديَ ورجليَ. أشعر بأن حياتي الهاربة مني، صارت الآن حاضرة أمامي بوضوح تام. أتذكر، كيف، أهتز جسدي اهتزازات عنيفة، أختض وأختض ومن ثم خمد. تدفق الزبد من شدقيَ. أسمع في هذه اللحظة كما في حلم، أصوات بشر لم أسمعهم من قبل. يجيئني من حلم طيف قصي، قصي جداً؛ انفتاح باب وانطباق آخر. ثمة من يقول: “دعه ينام”. لم اعد متأكداً من أي شيء، حتى، من الحياة ذاتها. ايقظتني الشمس. دخلت عليَ. طردت آخر بقايا الليل من الغرفة الراقد فيها، التي تلونها المصابيح بلون الشمع.. تجاوزت الخمسين من العمر بسنتين. عشت حياة رتيبة ومملة خالية من أي طعم وبهجة. اتفكر في ما أنا فيه؛ لا احد ساعدني في ولوج هذا العالم الذي بدى لي؛ غارقاً في الظلام. في الليل اكون وحدي في البيت. الوالدان رحلا الى العالم الآخر. لم اتزوج ليس لأني، لا ارغب فيه، بل على العكس؛ كانت رغبتي قوية فيه. كنت، قد عشقت حد الوله، بهيجة، كريمة مدرس اللغة العربية، مدرس في الثانوية. شاعر ضليع في الشعر العربي، علمني عشق الكلمات والقصة والشعر. في الليالي الأخيرة تملكني طيفها مع أني في الركن العميق من عقلي؛ ادرك بومضة خاطفة، سرعان ما تتبدد وتنطمس في الغيهب المعتم من عقلي؛ أنها هناك في بيتها. لكني، على الرغم مني؛ ظللت احاول معها، علها تسترجع الحب الذي كان، وتستعيد معي، السنوات الخوالي، وترجع إليَ، وتساعدني في التغلب على الرتابة والملل اللذان تمكنا مني، ترفض أن تكون هي. تقول لي بشدة وبتوبيخ: ” أرجوك، كف عن مناداتي باسم بهيجة”. هذا الرد، يوجعني ويجعلني، اقضي الليل في البكاء. ألتقيت بها بالصدفة في الدائرة التي عدت الى العمل فيها بعد غياب طويل، فقد تم نقلها من دائرة اخرى الى دائرتنا. هي لم تكن في ذاك الوقت موجودة معي في العمل. أما الان وفي هذا الفراغ الموحش، أذ جردني تقدم الزمن بالإضافة الى حضورها الفعلي من أية مقاومة لطردها من خيالاتي حتى بعد انتهاء الدوام. لم اتمكن من النوم، على الرغم من الوسن الذي يأخذني في غفوة عابرة بين الفينة والفينة الأخرى. لا ازال في القطع الأخير من الليل؛ عندما تذكرت سؤالها لي في ذلك المساء البعيد عندما سألتني “هل تتأخر؟” . كنا واقفان على عتبة باب البيت. “يوم ، يومان. سوف لن أتأخر أكثر”. “يومان ليسا كثيران”. قالت ومن ثم توادعان على آمل اللقاء قبل يوم من الخطوبة. لكن اليومين امتدا لسنين طويلة ومؤلمة. رجعت ذات يوم، رجعت في الليل. اجر خطواتي على الطريق. متعب، لا شيء فيَ؛ ينبض بالحياة. رفضت مرافقة أحداً من الجنود العراقيين، الذين تسلمونا، من الجانب الإيراني في نقطة المنذرية. عانيت صعوبة في أقناعهم بعدم مصاحبتي. اوضحت لهم، بقدرتي، في الوصول الى البيت من غير مساعدة. عندما تأكدوا من اصراري وصلابتي في موقفي هذا. أرادوا عدم أثارة مشكلة أمام الأسرى الأخرين. لذا، تركوني اذهب من غير مرافقة. دخلت الى الزقاق قبل الغروب بقليل. الزقاق مسكون بالسكينة والهدوء والصمت المشحون بالتوجس. كانت الأخبار وأنا، هناك، في احد اقفاص الاسر، تتوارد، ينقلها لنا الايرانيون الذين يحرسون الاقفاص، في الأيام الأولى، والتي، مفادها: جيوش العالم تتجمع على حدود العراق. ثم لاحقا، نصبوا مكبرات الصوت، التي أخذت تنقل لنا، نشرات الاخبار التي تبثها، اذاعة صوت امريكا، التي، ما انفكت مع كل ساعة تبث خبر جديد، تبلغ به العالم عن حجم القوة وقدراتها التدميرية. تأملت البيوت النائمة بصمت. الى الجهة المقابلة لبيت أهلي، باب بيت حبيبتي. تسألت مع نفسي: “هل هي نائمة الآن؟”. أخذتني لحظات فرح، وقلت في وجه السكون بصوت مسموع: “رجعت يا بهيجة”:.. أتذكر الآن، في هذا الليل؛ سنوات الأسر. كنت حينها، ولسنين؛ اجلس في زاوية بعيدة من القفص الكبير، قفص الكائنات الانسانية والتي يتم بهذا القفص عزلها عن الناس والحياة والعالم؛ كنت اضطجع؛ متأملاً حياتي، بمراجعة مؤلمة وقاسية لما آل إليه وضعي وأحلامي وأمنياتي وبهيجة ووالديَ والحياة. تغلبت على وجع البعاد عن الأهل والأصدقاء والوطن والحبيبة؛ بمواصلة الكتابة، كما كنت افعل في السابق، حين كنت حرا؛ عن الأمنيات وبهيجة والأفراح التي تنتظرني في القادم من الأيام. لكن، بطريقة مختلفة كليا، عنها، قبل الأسر. لقد اجترحت طريقة خاصة في الكتابة، اكتبُ بتدفق هذياني، اجعل قلمي يسيل بما يجول في ذات نفسي. ليلة وراء ليلة حتى صارت كتابتي في غاية المتعة واللذة، أو هكذا شعرت بها عندما كنت اعيد قراءة ما كتبت في الليل. كان خيالي هو البديل عن جدب الحياة وشراستها وقسوتها. من شدة انعزالي وانكفائي على نفسي، تركني الآخرون لحالي، وبالذات في الليل مع كائناتي المحببة الى نفسي. بالذات عالم حياتي الخاصة، التي خلقته كلماتي، وضخت الحياة والحيوية والروح فيه.. كانت بهيجي حبيبتي وزوجتي؛ تستقبلني في منامتنا بالأحضان بعد أن تعد لي؛ المنامة والغرفة وتعطرهما بأرقى العطور. تطلب مني؛ أن لا ارفع صوتي واوقظ الأطفال النائمين على مقربة من سريرنا. اخفض صوتي واتابع قراءة آخر قصيدة كتبتها لها، وللناس والحلم والوطن، والأمل. تستمع لي، ورأسها في حضني، وعيونها تطوف على صفحة وجهي. عندما قرأت آخر بيت: ” في صوت السكون الكوني؛ ترعبني لعبة القدر..” ، أصطدم رأسي في باب البيت، بيت أهلي. حول المائدة، في الصبح، أبي وأمي، الأثنان بدت السعادة واضحة عليهما. سألتهما عن احوال بهيجة واهلها؟. أمي، وحتى تقطع على ابي، ما كان يهم القول به، قالت: “تناول طعامك وأنا بعد ساعة سوف أذهب إليهما بعد العشاء، وأخبرهما بعودتك من الأسر.” قالت وعيونها لا تغادر وجه أبي. أنفجر أبي بغضب في وجهها: ” لماذا تكذبين عليه في الأول والأخير سوف يعلم، أبني، بهيجة تزوجت وتسكن في منطقة أخرى بعيدة ورزقها الله بأربعة أبناء”. من ذاك الصبح، ظل طيفها وهي واقفة أمامي، في أخر ليلة معها، على عتبة باب البيت، يأتيني، كأنها موجودة معي. في السنة الأولى لعودتي من الأسر، خشيت على نفسي، من فقداني لعقلي. في تلك الأيام، في الليل، كانت الى الجانب مني، تتحدث معي في كل دقيقة، واحيانا، عندما اكون وحدي في غرفة عملي، في الدائرة. الفرق الوحيد في السنوات الماضية بعد انقضاء السنة الأولى، كنت فيه من القوة والمشاغل التي تؤكل لي مهمة انجازها؛ ما ساعدني في التخفيف من وطأة طيف حضورها بما أنتجته أوهام كلماتي والشعر من عالم حاضر، وهلامي، وموهوم، الذي اعرفه في قرارة نفسي، وفي مكان ما من عقلي الذي بدأ يغرق في العتمة، مما جعل الخوف من القادم يرعبني في لحظة الصحو وهي قليل الحضور، شكل حضور حبيبتي؛ حضورا طاغيا، دفع غيابها الى خارج متن الواقع؛ حضورا موازيا للفقدان. أما الآن فقد عاد الى الوضع الذي كان عليه في السنة الأولى. كانت هي السبب. دخلت الى مكتبي. لا أحد فيه سواي. نهضت من الكرسي وتقدمت الى الباب الواقفة على مقربة منه، قلت لها : ” أهلاً وسهلاً بهيجه”. قالت: ” صباح الخير، أنا زميلتك في المكتب، اعتباراً من اليوم، نقلت الى هذه الدائرة لقربها من سكني ولظروفي الخاصة. هل هذا المكتب لي، أبلغوني في الإدارة، المكتب الثاني في هذه الغرفة مخصص لي”. أنتهى العمل وخرج الجميع وكنت أخر من خرج. انتظرت خروجها. في اليوم الموالي حين سألتها عن أمر يخص العمل: “ست بهيجة، قاطعتني بنعومة مفرطة”. “أستاذ أنا أسمي سعاد وليس بهيجة، أرجوك كلمني باسمي”. أجبتها: بغضب أنت بهيجة ما الداعي لتغير أسمك. تدرعت بالصمت من غضبي. أستمرت عندما اريد عمل ما منها اقول: “ست بهيجة”. تسكت ويتواصل العمل. لكني اخذت اتسأل مع نفسي: لماذا تنكر أسمها، تريد شطب تأريخ حميم من العلاقة. صارت الحياة التي أخذت اعيشها، كابوس مرعب لا يمكن الخروج منه ألا بالموت، لكني لا اريد ان اموت، لأني احب الحياة. (أما هي فقد أيقنت من أنها تشبه؛ تلك التي يحبها وحتى لا تختلف معه رضخت للأمر الواقع وقبلت بالاسم الجديد) مما جعل الكابوس يتراجع كثيراً وتحل البهجة محله. تمر ساعات العمل بسرعة من غير أن احس بها. تفتحت عيناي على الجمال وما يحمله إليَ من معاني تستحق العيش معه والتمتع بمسراته. قوة الحياة التي تدفقت من داخلي جعلتني اهتم بأناقتي، كما كنت افعل قبل سنوات الحرب. حرصت على الحضور الى دائرتي قبل الجميع. اريد أن اكون في المكتب قبل مجيئها ولو بدقيقة لاستقبالها بحفاوة تليق بمقدمها. بهيجة صارت امرأة أكثر جمالا مما كانت عليه من جمال، ممشوقة القوام، أصيلة، هي كما هي لم تتغير أبداً، كأن السنوات لم تعبر على جسدها، لم تزل تحبني على الرغم من زواجها، مثلما كانت قبل سنوات، لذا رجعت إليَ، وما طلب نقلها الى دائرتي الا أن تكون بالقرب مني، حين عرفت بعملي هنا في هذه الدائرة. الليل ينقضي بسرعة مع طيفها. المشكلة التي واجهتني، ولم اجد لها مخرجا أو تفسيرا، ترفض ان تطلب الطلاق، لينفسح امامها الطريق بالزواج مني. كلما طرحت الموضوع عليها، تحتمي بالصمت مني ومن الحاحي، وفي نفس الوقت اشعر من تغييرات في معالم وجهها، ان هناك فيها؛ حزنا وألما يعتصرها. مما جعلني أتأكد من انها تريد وترغب بالزواج مني، لكنها تحت ظروف قاهرة لا تستطيع الخلاص منها. هذا الامر زاد من يقيني بثبات وبقاء حبها لي كما كان قبل الحرب او قبل ان اقع في الاسر. أنقضت أكثر من سنة وأنا على هذه الحالة اتحادث معها في الليل وهي هناك في بيتها. قررت أعادة مفاتحتها بقضية الطلاق والزواج، ولكن هذه المرة سوف اصر على ذلك، بل سوف اجبرها على الطلاق، ما دامت لم تزل تحبني كما كانت قبل عدة سنوات. بل أكثر من هذا؛ سوف اقوم أنا بالمهمة بالإنابة عنها. لذا، في احد الايام شددت عزمي وفاتحتها بنيتي وخطتي، في اجبار زوجها على طلاقها ومن ثم الزواج مني. عندما فاتحتها بالأمر، لم تجب كما في كل مرة. لكن هذه المرة كما بدى لي، لم يجلل وجهها الحزن والألم فقط، بل الرعب صارخا من فيها ومن عينيها. حين يآسة من رد يشفي رغبتي، صرخت : “ما معنى رفضك الطلاق ومن بعد هذا؛ الزواج مني، وأنت خطيبتي في السنة الثانية من الحرب، وقد مضت عدة سنوات على ذاك اليوم، وأنت وأنا لم نزلا كما كنا قبل عدة سنوات مما كنا عليه من حب جارف”. واصلت الصراخ وهي أيضاً فقدت السيطرة على أعصابها: “أنت مجنون ولا شيء أخر”. الموظفون تجمعوا في الغرفة وهي من الخزي وما شعرت به من الخجل، أجهشت بالبكاء. حضر المدير وتوجه إليَ بالسؤال: “ماذا جرى لك أستاذ مؤيد، هل نسيت أنت في الخمسين وهي شابة في العشرين”. أجابته بصراخ عَبرَ جدران الدائرة الى الطريق: “هي خطيبتي من ثلاث عقود” . “حقاً أنك كما يقولون؛ مجنون، بحق أنت مجنون ويجب أحالتك الى الفحص الطبي” ضربت المدير بالمرمدة، شقت جبين المدير، تدفق الدم وسال على وجهه. ثم هجمت عليه بالكرسي. الموظفون اوقفوني.
بعد نصف ساعة، كان صراخي يتصادى في جدران الدائرة. أثنان من الممرضين، سحباني على الرغم مني الى سيارة الاسعاف الواقفة عند باب الدائرة…