كان لقائي بك صدفة، و الصدفة خير من ألف ميعاد، كما يقال. جلست على كرسي خشبي متهالك بحديقة عامة، فتحت” الطابليط”، وحدقت في صورتك. كنت باسمة.
أرجعتني الذكريات إليك، إلى جمالك الأفروديتي خصوصا وجهك المشتعل بياضا، المتناسق التقاطيع. وملامحك الطفولية، الصافية بدون ماكياج. وشفتيك الرفيعتين المضمومتين، ينفرجان عن أسنان ثلجية. وأنفك المستقيم.
أتأمل شعرك الذي لو فككت الإسفين منه، فسينساب على كتفيك كجدائل حرير، متراقصا في عفوية وجنون و تكبر.
كنت أود أن أكتب عن صورتك، لكن الصورة على ما يبدو هي التي ستكتب قصة حبي لك: فرموشك تحكي في صمت، وعيونك تسرد السحر والروعة، وغمازتي وجنتيك مثل حورية بحر، ترمي شباكها على شيخ البحارين، فتأسره، وتسحبه نحو الأعماق.
تنطقين اسمي: وديع.كان صوتك موسيقيا عذبا، يحتلني من الأذنين، حتى أصغر ظفر في أخمص قدمي. فهل هناك سحر بعد هذا السحر؟
***
تكتمل سعادتي بوجودك، قد لا أعترف لك بذلك، لكن طبيعتنا ـ نحن بنات حواءـ لا نعترف إلا لأنفسنا فقط.
نعم. لقد كان لقائي بك نقطة مفصلية في حياتي.
طوال عمري لم أعرف الحب ولم أكثرت لأحد قط، حتى رأيتك يا وديع.
وجدت فيك صفات رجل تتمناها كل امرأة في هاته الدنيا.
كنت شابا في الثلاثينات من عمرك، مهندسا تقنيا، أسمر الوجه، لكنك كنت أشد وسامة وجاذبية، لا عيب فيك ولا نتوء.
عيناك تسبح فيهما كرتا عسل، قامتك شامخة، وجسدك مشدود، في تناسق بفعل التمارين الرياضية المستمرة.
كان صوتك الأجش يزلزل كل خلية من خلايا جسدي، وينفذ إلى قلبي في لمح البصر.ما أعجبني فيك، ذكائك الاستثنائي المدهش، وروحك المرحة. إذا كان كل الذكور رجالا، فإنك طاووس الرجال كافة، ألست محسودة على نعمة امتلاكك، وشرف الارتماء بين أحضانك الدافئة؟
***
عندما نتجول في الماضي، تطفو على السطح مجموعة من الذكريات، تجلو خواطرنا، إما اللحظات السعيدة جدا أو المؤلمة جدا. أما مابينهما، فلا نتذكر منها سوى الذرات.
الذكريات السعيدة هي ما مر في بدايات حياتنا، مثل جولة في قطار قوس قزحي.
هكذا سبح خيال وديع إلى ذلك الزمن، تحديدا، عندما كان يتوق إلي ثريا كتوق النحلة لرحيق الزهرة الفواحة، وينتشي بها كنشوة الثمل إلى زجاجة الخمر، وقبل أن تأتي إلى مكان لقائهما، كان يتخيل شبحها و قد سبق جسده، فيتحدث إليه.
تراه العنادل فوق الأشجار فتحسبه قد فقد عقله، ولا تتيقن من اتزانه إلا عندما تقف أمامه ثريا، بشحمها ولحمها.
عجيب أمر قلبه هذا، يغوص بسرعة في ركبتيه، فإذا بصوتها المغناج يشل لسانه بمجرد سماعه، ويشرق الظلمة في جوفه. أما هي فتستطيع أن تخبئ لهفتها لرؤيته، وتدفن الحنين لسماع صوته. إنها الحرباء الأسطورية التي ورثت فن التلون عن حواء، لهفة مغلفة بعدم اكثرات وصد، يخرج الكلام من جوفها منمقا فيجلد قلبه، وللإشارة، قبل أن تأتي إليه كانت قد وقفت لساعات أمام المرآة، وسألتها:
ـ مرآتي، هل هناك حيلة لأصير أجمل الجميلات؟
ابتسمت المرآة وقالت لها:
ـ أنت فاتنة حقا.
ـ كيف أبدو أكثر جمالا في عيني وديع؟
ـ مشطي شعرك بعمق، وضعي أحمر الشفاه، وارسمي ظلا أحمر على خديك بدم الغزال، ورشي عليك رذاذ عطر مركز، ستبدين أكثر رونقا وبهاءا.
ـ مرآتي، قولي لي أي فستان يليق بي؟
ـ هممم… لنرى..هذا الفستان البني طراز قديم، وهذا الأبيض.. “كلاسيك! واللباس الأسود الجلدي طفولي، ولكن الأنسب لك، هو …هذا الرداء الحريري الأزرق، ذو الأزرار الكبيرة السوداء، أكثر شاعرية، تبدين فيه أكثر امتلاءا. أنت “سنو وايت” كل الجميلات!
***
يال حبيبتي العجيبة. حقا عجيبة في كل شيء:
في مشيتها،
في نظرتها،
في بسمتها،
في فتنتها.
والعجب العجاب أنها لا تهتم بأقاويل الوشاة و نقيق ألسنتهم.لأنها بكل بساطة سليمة القصد وصافية السريرة.
نرتمي معا فوق بساط العشب.كلانا يجلس بجوار الآخر.
لا نمل من أحاديثنا.
نقهقه كمجنونين هبطا إلى الأرض، مع أول مذنب.
الطبيعة ملجأ عشقنا.
***
رأى زهرة أقحوان، فاقتطفها، وقال لها و يده ترتعش صبا:
ـ هذه عربون عشقنا الأبدي..
احتقن وجهها خجلا، مد يده بجرأة، و دفن الزهرة في شعرها المتموج، وقال لها بشغف:
ـ هل تحبينني؟
اصطنعت الجهل، وقالت له بمكر:
ـ لنرى.
ثم سحبت الزهرة، وبدأت تقلم وريقاتها، وريقة وريقة، وهي تقول:
ـ تحبني..لا تحبني.. تحبني..لا تحبني.. تحبني..لا تحبني.. تحبني..لا تحبني..
ثم التفتت إليه وقالت له:
ـ إذن، فأنت…
فقاطعها، واضعا إصبعيه على فمها:
ـ حتى لو اجمع كل الناس، على أنني لا أحبك، فسأصرخ في وجوههم، بكل ما أوتيت من قوة، لأقول لهم: أحبك.
علت ثغرها بسمة فاتنة، تذيب كل شموع الدنيا.
حقيقة… سهل أن يصاب المرء بأشياء رغما عنه، والأصعب أن تستعبده تلك الأشياء، رغما عنه.
***
لماذا يصفق القلب لرؤيته؟
لماذا يلفني طيفه، كل ليلة؟
لماذا أوشوش للوسادة بحميميتنا؟
لماذا يشتد شوقي إليه؟
ولماذا تتقد شرارة اللوعة نحوه؟
ولماذا لا يخيط النوم عيني؟
لماذا؟
لماذا؟؟
لماذا؟؟؟
***
لماذا أتلعثم وأنا أتحدث إليها؟
لماذا أغرق في عسل عينيها؟
لماذا أشرد وأنا أتذكرها؟
لماذا يتفاعل كميائي مع فلز أنوثتها؟
لماذا أنجدب نحوها كالمغناطيس؟
لماذا كل شيء ـ من دونهاـ بلا نكهة أو طعم؟
لماذا؟
لماذا؟؟
لماذا؟؟؟
***
تحكمت ظروف هوجاء في حب وديع و ثريا، طاشت معها كل سهام الوجد والغرام؟. لقد حاولا السير سوية في الطريق، لكن الأقدار هي التي خطت لهما خطواتهما، نحو طريقين مختلفين تماما، لا أمل في لقائها مرة أخرى.
لكن، هل سينسى القلبان كل ذلك؟
ما أقسى أن تمحى تلك اللحظات الرائعة هكذا.
والأقسى من ذلك أن يتحول ذلك اللهب الحارق إلى صقيع متجمد.
لماذا انقطع كهرباء التواصل بينهما؟
لماذا لم يتمرد حسن الحظ ويعلن عصيانه على سهم صبابة انكسر في نياط قلبيهما؟
لماذا لم يكتمل التئام نصفي روحيهما ؟
لماذا تبخر حنانهما وخبا جنونهما؟
ولماذا جمعهما العشق، وفرقتهما اللعنة؟
لماذا مستهما عصا الهيام السحرية، وجلدهما الفراق بسوطه المؤلم؟