حَدّد الموقع الرسميّ للأمم المتّحدة أكثر من (170) يوما عالميّا أو دوليّا، وتلك الأيّام تتعلّق بالإنسان وصحّته وتعليمه وطعامه وشرابه وما يتصل بسعادته وتعاسته وكرامته وغير ذلك، وأيضا ترتبط بالأرض والفضاء والبحار وما يتّصل بها.
والغاية من تحديد تلك المناسبات وتسليط الضوء هو لبيان أهمّيّتها، وضرورة العناية بها وبمَنْ ارتبطت بهم، وليس لمجرّد الاحتفال بها، أو تسجيلها كأيّام مَيّتة تُضاف لرزنامة المنظّمة الدوليّة وبلدان العالم.
في الثالث من آيار/ مايو يحتفل صحفيّو العالم باليوم العالميّ لحرّيّة الصحافة، وذلك لأهمّيّة الصحافة (أو صاحبة الجلالة) والمعروفة في الأنظّمة الديمقراطيّة بالسلطة الرابعة بعد السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة.
والحقيقة أنّ تسلسل مكانة الإعلام في عالمنا اليوم قد تغيّر، وربّما، قفز للمرتبة الثانية أو الثالثة، وذلك بسبب التطور الهائل لمواقع التواصل والإعلام الرقميّ، وقد لاحظنا التأثير الملموس لتلك المواقع في الكثير من دول العالم، وبالذات خلال الثورات الشعبيّة ممّا دفع الأنظمة القمعيّة لقطع الأنترنيت، حينها، لقطع التواصل بين عموم المحتجّين والمواطنين.
ولا يمكن تصوّر صحافة ناجحة أو مؤثرة دون وجود سقف واضح للحرّيّات يُضمن فيه، على الأقلّ، الحفاظ على حياة الصحفيّ وكرامته وأمنه الشخصيّ، ولهذا قال الفيلسوف الفرنسيّ ألبير كامو: ” بلا حرّيّة لن تكون هناك سوى صحافة سيّئة”!
وهذا السقف من الحرّيّة، مع الأسف، غير متوفّر في بعض دول العالم غير الصافية ومن بينها العراق، الذي تَصدّر ولأكثر من عشر سنوات، مؤشّرات الإفلات من العقاب، وتعرّض العاملين في المجال الصحفيّ لهجمات مُميّتة ومخيفة!
وبحسب الإحصائيات التي نفّذها مرصد الحرّيّات الصحفيّة للفترة من 2003 – 2019 فقد قتل 277 صحفيّا عراقيّا وأجنبيّا، وتعرّض 74 آخرين إلى الاختطاف، قُتل أغلبهم، وما زال مصير 14 مجهولا!
وقد أعلنت جمعية الدفاع عن حرّيّة الصحافة في العراق توثيق أكثر من 300 انتهاكا ضدّ الصحفيّين والمؤسّسات الإعلاميّة خلال العام 2020، فيما سجّلت 233 انتهاكا خلال العام 2021!
وكشفت مؤشّرات حرّيّة الصحافة لمنظّمة “مراسلون بلا حدود”، أنّ العراق في حالة تراجع مستمرّ حيث كان ترتيبه في المركز 124 عالميّا من أصل 180 دولة في العام 2003، وقد تراجع للمرتبة (156/2019) وإلى المرتبة (162/2020) ثمّ إلى المرتبة (163/ 2021) وأخيرا أكّد المؤشّر، يوم الثلاثاء الماضي، تراجع العراق في العام 2022 إلى المرتبة 172 عالميا!
هذه المؤشّرات العالميّة الخطيرة، وهذه الفواتير المرتفعة من الدماء الطاهرة التي سالت، والحرّيّات التي كُبّلت، والكرامات التي أهينت من أجل نقل الحقيقة للجمهور بلا رتوش، وبعيداً عن التزلّف والتملّق قابلتها حالات سلبيّة استغلّت فيها الصحافة والإعلام من بعض الصحفيّين والإعلاميّين والمدوّنين المتملّقين الطارئين على مهنة المتاعب، والذين حاولوا من خلال عملهم وكتاباتهم في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعيّ، وظهورهم التلفزيونيّ مجاملة الأشرار وتلميع صورهم الملطّخة بدماء الأبرياء، وتهوين حجم الكوارث الواقعة وذلك على حساب الدماء والحرّيّات والكرامات، وسعيا للحصول على مغانم شخصيّة آنية مبتذلة، ومناصب شكليّة مليئة بالدولارات المُغمسة بدماء زملائهم، والمطرّزة بأنين المختطفين وصرخاتهم في ظلمات السجون ومدافن الاختطاف!
ويُعدّ هذا النوع من الاستغلال المهنيّ في زمن الديمقراطيّة غير المُفعّلة ظاهرة خطيرة، تضاف لعشرات الظواهر المدمّرة الأخرى، التي يفترض كشفها للجمهور وهي جزء من حالة الفساد العام في غالبيّة مفاصل الدولة!
وفي وسط هذه المواقف الإعلاميّة المتناقضة تستمرّ فوضى المبادرات السياسيّة، ومنها مبادرة الإطار التنسيقي يوم الثلاثاء الماضي والهادفة لإحراج التيار الصدري بحجة الخلاص من الانسداد السياسيّ المستمرّ منذ سبعة أشهر.
وقد قدّم مقتدى الصدر، بعد 24 ساعة، مبادرة مختلفة وضاربة للإطار، حيث أعطى للنوّاب المستقلّين مهلة أسبوعين لتشكيل حكومة مستقلّة!
ويعلم الصدر، قبل غيره، أنّ تنفيذ هذه المبادرة من سابع المستحيلات بالنسبة للمستقلّين، لأنّنا نتحدّث عن مرحلة الأحزاب المُسيطرة بالرجال والسلاح على زمام الأمور بتفاصيلها الدقيقة!
هذه السياسات الغامضة بحاجة لصحافة حرّة نزيهة لكشفها وبيان حقيقتها، ولهذا فإنّ الصحفيّ والإعلاميّ الذي يحاول استغلال نفوذه ومنبره لمآرب خاصّة (هدايا وهبات وعلاقات ومناصب) لا يقلّ خطرا على الدولة والمجتمع من أيّ قاتل أو سياسيّ مُتقلّب لأنّه يُزيّف الحقيقة، ويقلب المواقف، ويستخفّ بالإنسان، ويقف مع الظالم ضدّ المظلوم، ومع السارق والفاسد ضدّ الشعب المغلوب على أمره!
لا يمكن اعتبار الإعلام والصحافة مهنة هادئة لتوفير لقمة العيش والحياة الناعمة بل هي وظيفة مُهلكة، وبوّابة للمخاطر، وساحة للصمود وقول الحقّ ومواجهة الخراب والاستعداد للتضحية والبذل، وهي، في ذات الوقت، القوّة الناعمة للتغيير والبناء ونشر السلام والسعادة والمعرفة والمتعة بين الناس!
يُفترض تنقية الصحافة والإعلام من كلّ المتملّقين والمتزلّفين والراكضين وراء الشهرة والمناصب لأنّهم سرطان مهلك للحقيقة، وآفة مدمّرة لفكر الجمهور الذي ينتظر المعلومة القاطعة من وسائل الإعلام المختلفة!
dr_jasemj67@