قبل شهر , من كتابة هذه السطور ,جاءني ولدي بكتاب لسياسي عربي معروف , وألح علي كي أقرأه , لان الصحفي (حسب قوله ) لايمكن ان ينقطع عن القراءة ,وخصوصاً مايكون منها ضمن اهتمامه. حاولت ان أقرأ بعض صفحات الكتاب , لكن الملل اسقطه من بين يدي بعد يوم او يومين !
كنت , وصبري الربيعي , في شبابنا وكهولتنا , نقرأ ونستوعب ما نقرأه . لكن في شيخوختنا افتقدنا تلك المتعه المحببة , واكتفينا بتقليب صفحات الكتاب ثم نطويه من دون مبالاة . ولعل السبب في هذا العزوف هو ان همومنا كانت قد افقدتنا حتى الرغبة في الحياة , فما بالك بالقراءة ؟.
لعلي قد انسقت وراء احزاني في مناسبة يفترض بي ان احبس همومي واخفي مواجعي لأؤدي واجباً اتجاه صديق حبيب. لكن ,عذري هو ان صبري الربيعي , لو كان هنا معنا في العراق لأفترسه اليأس وأستسلم الى الكأبة والحزن . قرأت المقدمة , وكانت بليغة. حاول فيها الكاتب ان يهندم كلامه . على عكس باقي الصفحات التي تجاوز عديدها الأربعمئة وخمسين صفحه. في المقدمة رأيت (صبري ) بكامل عقله , ولباقته , وذوقه في اختيار ملابسه , عفواً كلماته ! اما في الصفحات التاليه , فكان صبري تلقائيا , كما عرفته , يقول ماله وماعليه , وبالطبع لايحسب عليه ان تغاضى عن ذكر بعض الحقائق التي قد تجرح اخرين , فالرجل , كماقال , قد شبع من الدنيا وأشبعها مثلنا جميعاً, ولايريد لأحد ممن عرف وتحدث عنه , ان يزعل منه . فالدنيا لاتستحق ان يجرح انساناً, الا انه يراهن على ان تبقى الحقيقية رائدا حتى لمن تناولتهم مضامين الكتاب, برؤية صريحة>
حقيقة , اعترف, بأني حسدت صديقي على نشاط ذاكرته , وقد ضحك طويلاً عندما قلت له , في مكالمة هاتفيه جرت بيننا قبل ايام : (( يبدو ان نشاطاتك اللاصفيه كان محددة في امستردام, وأظن ان هذا هو سر اشتعال الذاكرة ))!
وقد تكون الحرية والشعور بالامان , والذي نفتقده نحن في محبسنا داخل الوطن , هما من اتاحا لعقل وذاكرة الربيعي من البحث المتأني والمستريح عن دقائق الاحداث وتفسيرها , فالذي يعيش منا في هذا البلد المحزون , لايكاد يتذكر مارأى وسمع في أمسه ! فالواحد منا , يتلقى الصفعات حتى وهو في فراشه , وعندما يخرج من بيته , ويعود اليه سالماً, بقدرة الله , فأنه يعود معصور القلب كسيراً .. بالطبع , انا هنا, لا احسد صديقي , ولكنني ابرر لنفسي هذا الكسل الذي نحن عليه , كما هو حال الكثيرمن اصدقاء الربيعي .
نعود الى كتاب صبري الربيعي ( اوراقي في الصحافة والحياة ) .. مان ان انهيت المقدمة الى عنوان اخر ( انا والمرأة ) حتى بدأت ارى الضوء في اخر النفق, ورحت استعجل انهاء الصفحه لانتقل الى اخرى وانا مستمتع , بما ارى ! نعم , انا ارى مشاهد يعرضها صبري الربيعي امامي بكل تفاصيلها . ومن حسن حظي انها غير مملة!
كنت ابدأ القراءة فجراً, بعد ان تهتز دارنا من جراء انفجار قريب ,فألوذ بصبري وحكاياته المكتوبه هرباً من مواجهة الواقع المرعب , فاقضي معه ومع اوراقه ساعات طوال مستمتعاً بما ارى واسمع من صبري , وكأنه جالس قرب فراشي يحدثني وضحكته المحببة تعيد النشاط الى عقلي الذي كثيراً ماينام وانا لاادري. لكن ضحكة صبري المجلجة توقظه من غفوته .
انا ,هنا , قد قضيت اياماً عديدة , سعيداً بما اكرمني به صبري من عطلة ربيعية , كما كنت تلميذاً انتظرها في خمسينيات القرن الماضي . فلقد اعطاني (( ابو رغيد استراحة من وجعي وهمومي.. فشكراً له .
قد يقول صبري الربيعي : ولكنك انشغلت بالحديث عن نفسك من دون ان تتحدث ملياً عن الكتاب , وهذا ماهو مفترض بك . فأجيب عليه : لندع القارئ يستمتع بجديدك وحرام علي ان اهدر المفاجئه التي اعددتها له .. لكني اقر بأن عرضاً واسعاً للكتاب يعد امراً في غاية المشقه على رجلاً مثلي رجله في الدنيا والاخرى تتجه نحو الفراغ. واقول ايضاً : لقد منحتني سعادة لايام وكم تمنيت ان تكون معي وانا اقرأ اوراقك التي كشفت ماخفي منها في صدرك طوال نصف قرن .