في خضم المسارات الأدبية المتشعبة، حيث تتنازع القصة القصيرة والنقد مواطن التألق، يبرز اسم القاص والناقد صبري الحيدري كأحد أولئك الذين آثروا ألا يكونوا مجرّد عابري كلمات، بل صنّاع دهشة ودهاقنة تأمل.
وُلد الحيدري في بغداد عام 1952، ونشأ فيها وسط أحلام مؤجلة وواقع اقتصادي أجبره على ترك الدراسة بعد اجتياز الدراسة المتوسطة وانتقال اسرته للحلة، لكنه لم يترك سعيه إلى المعرفة، فصنع من ذاته قارئًا نَهِمًا وكاتبًا دؤوبًا، ومثّل نموذجًا مغايرًا لمن أدرك أن الثقافة لا تُمنح، بل تُنتزع نزعًا.
عُرف الحيدري ككاتب للقصة القصيرة منذ منتصف السبعينات، وكانت أولى خطواته المنشورة قصة “ملصق” التي ظهرت في مجلة الطليعة الأدبية، إيذانًا ببزوغ قلم سيستمر في صوغ الحكاية، لا كحَدث فقط، بل كبنية تتسع للتأمل والرمز واستبطان المعيش. وقد توّج هذا المسار بثلاثة أعمال صدرت له: “حلم مبكر، حلم متأخر” (2014)، “صبيان الماراثون” (2019)، و*”كتاباتي في النص ونص الذاكرة”* (2023)، وهو الكتاب الذي أتاح للقارئ أن يلامس عوالمه النقدية، وأسلوبه الذي يجمع التحليل الرصين بروح القاص المتأمل.
الناقد عبد الجبار عباس كان من أوائل من التفتوا إلى الحيدري، فكتب عنه، كما ترجمه الدكتور صباح نوري المرزوق، واحتفى به د. عبد الرضا عوض في أدباء وكتاب بابل المعاصرون، ودرسه د. سعد الحداد في أنطولوجيا القصة. وهو ما يعكس أثر هذا الاسم في المشهد الثقافي، خصوصًا في بابل، المدينة التي احتضنته عضوا فاعلاً في اتحاد أدباءها، وناشطًا في منتدياتها الثقافية.
لكن الحيدري لم يكن قاصًا تقليديًا ولا ناقدًا منغلقًا في معايير المدرسة، بل حمل حسًّا مغايرًا في مقارباته، حتى في أكثر الأمور التي يعدّها بعض النقاد هامشية، كما فعل في مقالته اللافتة عن “الإهداء بوصفه نصًا”، حيث استطاع أن يعيد رسم العلاقة بين الإهداء والنص الأدبي، راسمًا أفقًا جديدًا في التأويل.
يكتب الحيدري:
“ثمة إهداء مباشر لا يدعو إلى التأمل، وهناك إهداء آخر يصاغ بعناية، يصدم القارئ ويشحذ طاقته إلى التأويل… قد يساعد الإهداء القارئ على فهم الشفرات المراد إيصالها بيسر وبلّا عناء.”
وفي هذا المسعى، لا يُحلل الحيدري نص الإهداء كمجرد تقدير معنوي أو تحية شخصية، بل يراه بوصفه “عتبة ثانية” لا تقل أهمية عن العنوان، بل قد تفتح مغاليق النص، أو تلمّح إلى مكنونات الذات الكاتبة. ولعل تأملاته في إهداء الشاعر عباس مزهر السلامي:
وحين يعرض إهداء فلاح رحيم لصديقه الشهيد كامل شياع:
“إلى الصديق كامل شياع / الذي عاد من المنفى لأنه قرر ألا يموت“، يمنح الحيدري الكلمات حياة أخرى، فيراها “تجليًا” ينتشل الاسم من النسيان، ويحوّله إلى نبض جديد لا يموت، لأن الكاتب أراد له البقاء.
في هذا المسار، تبدو كتابات الحيدري النقدية أقرب إلى العزف المنفرد، لا لأنّها نشاز، بل لأنها تبحث في الهامش عن متن، وفي الغفلة عن البصيرة. يلتقط إشارات صامتة، ويحوّلها إلى ضجيج فكر، يتناول التفاصيل كما يتناول الشاعر قصيدته الأولى، بوله ورهبة معًا.
ولئن كان بعض النقاد يتتبع النصوص في بنيتها الظاهرة، فإن الحيدري يلجها من فجواتها الخفية، يربط الشكل بالمضمون، ويضيء “المسكوت عنه” في ثنايا العبارات. وربما يمكننا القول إن الحيدري في نقده كقاصه: لا يركن إلى السرد الخطي، بل يفضل الانزياح والتكثيف، حيث الكلمة تستبطن فكرة، والفكرة تلمّح إلى نصوص أخرى، في حوار طويل لا مع القارئ فحسب، بل مع الأدب نفسه.
يبقى صبري الحيدري قاصًا لم تغوِه الأضواء، وناقدًا لم يستسلم لسلطة المعايير، بل صنع له ضوءًا من حبره، ومجهرًا من تأمله، يقرأ الإهداء كما لو كان رواية، والعنوان كما لو كان مرآة نصّ خفي. وفي زمن يركض فيه كثيرون خلف اللحظة العابرة، اختار الحيدري أن يمشي على مهل، أن يكتب بهدوء، وأن يقول كلمته، لا بوصفه شاهدًا على الأدب، بل صانعًا في صمته لما هو أبقى من الضجيج.