18 ديسمبر، 2024 9:59 م

صباح فخري ،، صناجة العرب ومؤسس الطرب

صباح فخري ،، صناجة العرب ومؤسس الطرب

“الصوفي المنشد الذي جرته موهبته للغناء”
رائد الابتهالات الدينية و ملك القدود الحلبية ومجدد الموشحات الاندلسية، كأنه صمم للطرب والتطريب ، ينتقل من نغم الى نغم ، اتعب الموسيقيين لانهم يريدون ان يلحقوا به ، يطوّع النغم ويقود الموسيقى ، حنجرته صممت لذلك ودربت عليه ، ينقلك من وصلة الى وصلة وانت مندهش، ملك التطريب ، يلحن ارتجالا ، يغير الانغام ارتجالا ، لايكاد الكورال يلحق به أو يجاريه و ان تدرب معه ، ففي لحظة الغناء وبعد التدريب يبتكر شيئا لم يتفقوا عليه ، يقوده اليه ذوقه او حاجة النغم او ربما حاجة نفسه واندماجه و استمتاعه.
ليس وسيما ،، فالطرب في الحنجرة وليس في الوجه ورغم هذا يتوق الجمهور لرؤية وجهه اللطيف القسمات و يطمئن اليه ،،، فلا يهمه كيف شكله يكون وهل في الحضور نساء ليتظاهر بالاناقة او الوسامة ، يهمه من وقوفه امام الجمهور طربه وتطريبه ، فان لم يجد فيهم من يطرب كما يحب عاد الى نفسه فأطربها، كانما يغني لها ، بينما هو يغني لكل العرب وكل من يفهم العربية ساعده في ذلك اتقانه للغة الفصيحة ونحوِها وكذلك سلاسة اللهجة السورية الأكثر تقبلا عند الجمهور العربي، ولو فهمه الغربيون لأغرموا به وتركوا اغانيهم .
كيف سأنقل اليك الكلمات و ذلك الجو المفعم بالطرب والتنقل في النغمات والاحتفال من خلال خطوط القلم الصامت ، كيف سانقل اليك انتشاءه وسكره مع النغمة التي وضعت أو تلك التي ابتكرها في اللحظة ، صباح فخري حالة فريدة ، لايمكن ان تدرس او تحاكى ، فكيف تحاكي شاعرية جرير وقفشة بيرم التونسي ومشاعر زامل سعيد فتاح ، هؤلاء اعطاهم الله مواهب حقيقية لايمكن ان تتهيأ لغيرهم ، فالف مطرب من الدرجة الاولى والف فنان ، ولكن من اين لك بإثنين من دافنشي واثنين من الجواهري واثنين من صباح فخري.
• عندما تغني لتعطي الدروس وتضع الاسس
صباح فخري ، نعم أسس الطرب ولكنه اخذه معه ،”ودعتيني وعاهدتيني ،، لاتنسيني و لا انساك.ي” المطرب الذي إن دفعه اندماجه فانه لايتحرج ان يؤذن في الوصلة وسط انبهار الجمهور وتصفيقه “قد كان شمر للصلاة ثيابه ،،،لما وقفت له بباب المسجد” للصلاة ،،ثم يكبر” وقد عمل في ردح من حياته مؤذنا في المآذن فعلا . وهو نفسه الذي يقف ساعات طويلة دون كلل حتى سارت شائعة بين الناس انه دخل موسوعة غينيس كأطول نفس و اكثر وقوفا وغناء على المسرح ، وهو عن نشاطات غينيس–بفضل جمهوره العريض ومحبيه- في غنى.
يطوّع صباح فخري صوته فيصعد وينزل ويقفل الوصلة وينتقل الى غيرها و يسكت متى ماشاء، فلا تسأل لماذا يحفظ صباح فخري كل ذلك التراث من القدود و الاغاني وبلهجات متعددة ، “السمك البني وعالهوده لك و هالله هااله يا جملو وسكابا يادموع العين وعمي يابياع الورد و فوك النخل وياطيره” ، وفي الوقت ذاته “حبيبي على الدنيا اذا غبت وحشة ،،،، فياقمرا قل لي متى انت طالع” الفصيحة للبهاء زهير و “جاءت معذبتي في غيهب الغسق ،،،، كأنها الكوكب الدري في الأفق” الاندلسية للسان الدين الخطيب ،و”سلي فؤادي عن الخضراء يا حلب ،،،، لله كم حسنها اليك ينتسب” للشاعر التونسي احمد الغربي ، فقد جمع بين احتراف الشعبي واتقان الفصيح.
تأثر بصالح عبد الحي المصري -كما قال- وذاك مطرب بالفطرة لكن محترف معروف من جيل الدور القديم ،، (لما انكويت بالنار ، و ليه يابنفسج بتبهج رائعة بيرم والسنباطي) و تخيل انه ذات مرة أحرج من ضيوفه ولم يكن لديه برنامج مسبق فغنى للترضية “اصل الغرام نظرة” بينما هي من أصعب الادوار المصرية القديمة و كانت غنتها قديما ماري جبران ونور الهدى للموسيقار محمد عثمان ، و كانت تنافس (اصل الهنا كلمة) لفتحية أحمد ، فأداها تلك الليلة و أبدع بأقل جهد و حتى لايخذل مضيفيه.
فهل تريد ان ترى التمكن التام غير المصطنع ولا المزيف ، انظر الى صباح فخري على المسرح وهو يغني “صيد العصاري ياسمك يا بني ،، تلعب بالميه لعبك يعجبني”، ليس هناك تمكن الا عند صباح فخري واقرانه القلائل يوسف عمر وداخل حسن وام كلثوم ووديع الصافي وفيروز ورياض احمد وعبد المطلب و ابوبكر سالم وشيخ إمام و رابح درياسة رائد الاغنية البدوية والجماهيرية الجزائرية ، بيد ان صباح فخري الملك ، كلهم تقودهم الموسيقى الا هو يقودها ، ويؤثر في ايقاع الطبلة ونغم القانون .
المطرب الذي لايعيد مايغنيه بالعرب والانتقالات والتونات نفسها ولو غناه الف مرة لذا فهو يعيد ولايكرر وانت لاتمل ولاتضجر ، “ياطيرة طيري” التي تغنيها الايقونه فيروز بنمط واحد يغنيها هو بعشرين نغم وفي كل حفلة يبدل فيها من تطريباته الابداعية وهكذا مع اغلب أغانيه ، فلايمكن ان تسجل لصباح فخري نوتة موسيقية وتطلب منه الالتزام بها ، او تطلب من غيره مهما احترف ان يغني وصلة ما كما غناها صباح.
والكورال يقول شيئا ويقول هو شيئا غيره في الوقت عينه ، فهو الذي أسس تداخل الاصوات واختلاف النغمات دون نشاز ، و ان لم يكن فعل الا هذا في الطرب فيكفيه.ثم يخرج من بين الكورال ،،امان امان ، ثم يجاريه عازفه الخاص للكمان “يانوگ سيري حدا الخلان وامشي بي ،،، نحو الذي نارهم بحشاي ومشيبي”.
عندما غيروا فرقته السورية -التي اعتاد عليها- في مصر كان العازفون المصريون “الأفضل عربيا” في حيرة و ارتباك اذ لا التزام بالنوتة المكتوبة و لا بتسلسل الكوبليهات و لا أي شيء مما اعتادوا عليه ، فلسوء حظهم كان قد خطر بباله او بقريحته ان يجود في اللحن مرة جديدة ، ولكنك رغم هذا الاحراج ترى السعادة والفخر على وجوههم غير منزعجين فهم يعرفون وراء من يقفون و لمن يعزفون ، و هل مثل المصريين من يقدر الفن و الابداع!
و لكنه ومنذ حين كان افتقد كوراله الثلاثي العجوز المغرق في الطرب ، الذي كان يقول لهم “لو المطال طال وطوّل” ثلاثين مرة ويردون عليه كل مرة كما يشتهي “لا بتغير ولابتحول”! ، فما خذله محترفو المصريين لنقص في قدرتهم بل لأن اولئك مثله فريدون ويعرفون ماهو طرب الشام كما هم يعرفون ما هو طرب مصر العظيمة ، فكانوا فرحين غير ضجرين ولو بقي صباح الى الصباح ، فهو ملك الطرب ومؤسسه ، وهم مدمنو الطرب وأساتذته وخبراؤه.
المطرب الذي يقول “لليل لليل لليل” ولايمل ولايُمل ، والذي يغني في جلسة صغيرة وفي حفل ضخم بالتاثير نفسه ،،المبكي المفرح ، وتعجب من ادارته للفرقة التي وراءه ،كيف دربها لتنتقل من طرب عراقي الى مصري ثم شامي ثم فصيح ثم يصعد ثم يخفض ، وهو الذي يكرر عشرات المرات ولا واحدة تشبه اختها ، كم أطرب أناسا واسعدهم ، صباح فخري الصوفي وقد كان مؤذنا ومنشدا دينيا في مساجد حلب العريقة ومن الصوفية اخذ دورانه الراقص الشهير الذي كان يفتن به الجمهور كلما انتشى على المسرح.
المطرب الذي يقرا الشعر العربي العريق على رواياته المتعددة “قد كان شمر للصلاة ،،قد كان ينوي للصلاة ،، قد راح يقصد ، حتى وقفت له بباب المسجد ،،حتى خطرت له بباب المعبد” و كأنه موكل باللغة العربية والعناية بأصولها كما يشعر أي استاذ محترف. ثم يقسّم “ردي ردي ،،،عليه ردي” كم نغمة وكم مقام ، وكم -ياروحي ردي- و -ياعيني ردي- -والنبي ردي- ، ثم مرة اخرى موال ، و “يبكي ويضحك لاحزنا و لا فرحا” و انما هي خطرات من مواهبه. يختار من الشعر احلاه لما يناسبه كما يختار يوسف عمر للمقام العراقي الحزين، ثم “ابعثلي جواب وطمني ،،، ولو انو عتاب لاتحرمني ”
هل استمعت له وهو امامك على بعد مترين يخترق اصوات الكورال ليصعد بصوته الى طبقات لايدركونها فيشعرك ان الصوت قادم من بعيد : “انا ليّ اله يعرفني ،،من حرّ ال آه ينصفني” ثم يعيد ال آه آه ،،ينصفني ، ويعيد و تطرب و تتمنى ان يعيد، يغني ساعات واقفا دون كلل ولما سئل قال لا فرق عندي ، بل وانّي ادخن للاسف ايضا. يقول في الموال السبعاوي كما يسميه اهل الشام ويقابله (الزهيري العراقي):
” فتح بخدك ورود اشكال والواني
شفت المها تـنعش العطشان والواني
يابا لظل أهواك طول العمر والواني
ذقت الأمرين مابغي وريد الصبا
يامن برياه يتعطر نسيم الصبا
لا زلت ألهو بحبك يا عشيرالصبا
حتى حناني بهواك العشك والواني ،،،يا ويلي”
وهو من الذين يحيون احيانا حفلة طرب لرجال فقط –كما يفعل رواد المقام العراقي القديم ،فهؤلاء هم من يحسون طربه ويتذوقونه أكثر ويشربونه اعمق فيمكن له معهم ان يظل عشرين دقيقة متواصلة يطرب با “الآه او العين” كما فعل “في اصل الغرام” او “لما أناخوا” و “ياليل ليل ليل ياعيييين” في ” نعم سرى طيف من اهوى فأرقني”،، نننعم ،، نعم “والحب يعترض اللذااات بالألم ي”آااه نننننعم ،، ثم يخفض نعم ،، ثم يسرعه نعم سرى ،،ثم نعم؟ استفهام ،، ثم نعم تعجب ، ثم نعم حسرة ووجع ،، كم تتمنى لو ان شاعرها الأمام البوصيري او معارضه سمعاها تغنى هكذا ، فقد حمل صباح فخري مطلعها مالم يحمله شاعرها من شجن ، و ان كانت في أصلها مدح لسيد المرسلين .
المطرب الذي يخلل البكاء والضحك والتعجب في غنائه ،، يقول:”اني على العهد” بعبارة من هو على العهد فعلا و بصدقيته ،، “بطوووول الهجر مافعلوا” ” بطول البعد مافعلوا” فيغير النغم ليناسب الكلم ، ويجود المقام ليناسب المقال ، و موشحات ابتدعها او طورها و جددها فصارت ببصمته و اسمه “أحن شوووقا الى ديار ، الى دياار رأيت فيها جمال سلمى” آاه ياليييل.” ، أو “يا شادي الالحان آه اسمعناا رنة العيدان يللي ، رنة العيدان آه واطربنا آه يللي” أو “أيها الساقي اليك المشتكى،، قد دعوناك وان لم تسمع” و ابتهالات “ياذا العطا يا ذا النما اسق العطاش تكرما ،، ااسقي ،،،العطااش” ، وحزن الشعب الفلوكلوري “سكابا يادموع العين سكابا ،، تعي وحدك ولا تجيبي حدا با ، وأن جيتي وجبتي حدا معاكي ،، لهد الدار واجعلها خرابا” “تركوني انوح واشتكي زماني ،،زماني والله بالهوى رماني ،،حبيب الروح مدري ليش جافاني ،،جفاني وراح خلفلي العذابا ” و الفرح الشعبي والتغزل يلحن ويغني “هالله هالله يا جملو ،، يا عشيرة زمان ،،خصرك دخيل ال عملو لولح كا لخيزراني. واقفه جملو بباب الدار،،لمّا شفتا قلبي احتار ،، قلتلها يا ريتني جار ،، طول عمري وزماني” . و الموال :”من عيسهم گدموا للمرحله جودي ،، ما عاگهم ع المسير من الظما جودي ،،مات الكرم بعدهم والعز والجودي . عقبن على مين هل تخطر يا طارش و مر،، وشربت ع فگدهم كاسات حنظل ومر ،، آه و آواه ما أصعب فراگن ومر ،،جودي عليهم عيوني بالبكا جودي”
ثم طرب ،،، “مش قادر اقول انت الجاني ،، حصبر على طوووول على احزاني” و “خممممرة الحب اسقنيها” و مع هذا فان المسرح يرقص ويزغرد ، لو فهم عليه شكسبير وجان جاك روسو ومايكل جاكسون ، لكانوا من جمهوره ، ويكفيه ان فيروز لا تستمع الا له ، كما صرحت عندما سألوها من تسمعين. “والنبي يمه تعذريني ،، حبي حبيبي شاغلني،، والنبي يمَّه تعذريني ،، تأنِّي عليَّ، آه حُبِّي حبيبي شاغلني ،،لاني رايحة، ولا جايَّة. “أشوف حبيبي عالطريق يتمختر،،العين سوده سوده،، والخديد ورد أحمر،، طلبت وصلو ،، قال حاضر لما نسهر ،، والله إن ما جاني جاني لاني رايحة ولا جايه ،، والنبي يمَّا”
رافقنا صباح فخري منذ طفولتنا واليوم صار وجهه مليء بالتجاعيد وهو ينصت لعازفه على القانون ولا يريد ان يقصر ، فقد صار شيخا وما زال يطرب الشباب ، واي شباب؟ الموسيقيين من الأجيال الجديدة الذين وقفوا وراءه يعزفون له ، فتراهم يصرخون دون وعي في احتفالية بهيجة دائمة ، صباح فخري تبكينا وترقصنا وتفرحنا وتسكتنا عندما تصدح بالموال أو تقسم بالقدود أو تغرد بالموشح او تناجي باالابتهال.
صناجة العرب بلا منازع طيلة مايقرب من قرن و أظنه سيبقى ، كان في اخر ظهور يصارع شيخوخته التي ولى منها الشباب والحيوية وكل من يراه لسان حاله يقول : لا تحزن فلعل الله يغفر لك ويرحمك. فانه يغفر لمن يشاء مادام على ملة توحيده وصحيح دينه. صباح فخري بكى عندما راى نفسه شيخا كبيرا وقد بدأ مؤذنا يوقظ اهالي حلب لصلاة الفجر ،، واستغرق في الطرب المحرم عند الفقهاء، ارجو الله ان يغفر لنا ولك فهو الذي خلقك بهذه الموهبة الفريدة الأصيلة المميزة. بكى في حفل تكريمه أمام جمهوره ومحبيه وهو على كرسي متحرك وهو ينشد بطلب من عشاقه –باكيا- : “مشتاقلك يانور عيوني ،،حتى نعيد الزمن الاول” بجملة تحمل كل معاني الشجن والحسرة والحنين والندم ربما والله تعالى أعلم ، أو ربما ذلك تذكرا للدنيا التي تهجره او لأيامه الخوالي أو للاخرة او ندما على مافرط فيما كان قد وهبه الله من نعمة القراءة في المساجد والحلقات ، بكى كما بكى في شيخوختهم المقصرون او المستذكرون او الذين غافلهم الزمن فكبروا وهم لاهون غافلون ، الله قضى علينا الشيخوخة وقهرنا بالموت ، نحن العوام وانتم النوادر في الفن والشعر على حد سواء ، غفر الله لنا ولكم ، فقد اغنيتم الحياة بالمتعة والسرور بطريق الفن-اذا كان ملتزما محتشما- ولم تؤذوا عبدا ، فنرجو الله المغفرة لنا جميعا فهو خالقنا وهو الغفور الرحيم .فلعله احس بذلك النوع من التقصير بحق نفسه، لذا انشد اخر ايامه “يارب ان عظمت ذنوبي كثرة،،، فلقد علمت بأن عفوك اعظم ” “ان كان لايرجوك الا محسن،،،، فبمن يلوذ ويستجير المجرم” المنسوبة لأبي نؤاس .
و أخيرا صباح فخري مثل –كل اقرانه من الافراد المعدودين في كل فن او أدب او شعر- لن يتكرر، فقد تيتم الطرب،، بعد اسطورة الطرب.
من سلسلة “يوم للفن”