18 ديسمبر، 2024 2:06 م

صاعقة الخوف .. قصة قصيرة

صاعقة الخوف .. قصة قصيرة

أفقت صباحاً على ما نُقل ليلاً من أخبار سقوط نيزك ينهي الحياة على كوكب الأرض، هدوء لم أعتد عليه من قبل.

ولم أسمع صراخ جارتي السيئة سوسن، ولم أسمع أصوات السيارات وأبواقها التي تزعجني كل صباح، والدتي ليس من عادتها أن تتعبد لهذا الوقت، حينها وجدتها تقرأ القرآن وصلاتها لم تنقطع، أنا لا أخفيكم.

إني في دهشة من أمري يتملكني بعض الخوف وكأني لم أكن مصدقاً للأخبار، لم أشرب القهوة كعادتي في البيت، وأمي لم تحضرها لي كعادتها، كنت أرغب بالذهاب إلى المقهى لأشربها وأرى وجوه الناس، لبست ملابسي وفتحت باب شقتي.

تفاجأت لأني لم أرَ سلة مهملات جارتي السيئة سوسن أمام شقتي كالعادة، بل بالعكس، وجدت ما بين شقتها وشقتنا نظافة لم آلفها سابقاً، وعند وصولي باب العمارة سلمت على صاحب المحل أبي محمد.
– أنا: السلام عليكم يا أبا محمد…
– أبو محمد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
لم أعتد على رده السلام بأفضل من سلامي، أبو محمد صاحب محل صغير لبيع السمانة متكبر ومتعالٍ نادراً ما يرد السلام، وأكثر ما يشغل باله المال.
– أنا: أبو محمد، أعطني علبة دخان مارلبورو…
– أبو محمد: خذ وحسابه عليه، والرجاء براءة الذمة
– أنا: لا، أبا محمد خذ هذا ثمنها.
– أبو محمد ودموعه على عينه ويده ترتعش: لا ينفع المال، ولم يبق من حياتنا سوى ساعات…
– أنا: هذه حياتنا، ماذا نفعل؟ نحن ضيوف على الدنيا، مع السلامة يا أبا محمد…
– أبو محمد: رافقتك السلامة، تحرسك ملائكة الله…

لم أر أبا محمد بهذهِ الأخلاق والتواضع سابقاً، بدأت أسير وأرى هدوءاً كبيراً وتجمعات صغيرة تتجاذب الحديث، وعند إلقاء السلام أجد رداً بصوت عالٍ بأفضل مما سلمت، وأسمع شيخ الجامع يتلو آيات القرآن، وجموع كثيرة من الناس حول الجامع ينصتون لشيخ الجامع وهو يبكي من التوسل.

ويتضرع لخلاصهم من يوم نهاية العالم، فأكملت مسيري ووصلت المقهى، ورأيت الجميع جالسين في يديهم القرآن، ألقيت السلام والجميع ودودون ووجوههم صفراء من شدة الخوف، كيف لا ونهاية الحياة لم يبق عليها سوى ساعات؟

وكان وسط الجمع أدهم، رجل مفتول العضلات يتباهى بقوته جالس يأكله الرعب وفي يده كتاب الله، وصديقنا المسيحي سمير يتلو الإنجيل، وعماد صاحب مقهى أبي عماد يوزع الشاي والقهوة مجاناً، فجلست وطلبت فنجان قهوة مع سكر قليل كالعادة، وبسرعة البرق أحضر لي القهوة عماد وقال:

– هذه ثواباً لوالدي رحمه الله…

هو ليس كعادته، 5 سنوات وأنا أتردد على المقهى، لم أره يوماً قدم قهوة ثواباً على روح والده، دار بيني وبينه هذا الحوار:

– أنا: ما بك اليوم على غير عادتك مرتبك ووجهك أصفر؟
– عماد: أخي سلام، ألم تسمع الأخبار، إن نيزكاً سوف يسقط وينهي العالم.
– أنا: نعم سمعت، ولكن هذه هي الحياة، لكل أجل كتاب، يوم الموت آتٍ وحق فلم نخاف؟ لماذا التشاؤم؟ لنقل سوف يسقط بعيداً ونتفاءل…
– عماد: أي تفاؤل؟ الاخبار لا تكذب، سينتهي العالم ونموت…
– أنا: يناديك ماجد، اذهب وأعطه شاياً على روح الوالد…
وفجأة جاءت أم عادل صاحبة محل لبيع الفواكه لتوزع الموز والبرتقال والرمان على المارة، وجاءت للمقهى توزع بضاعتها وتقول بصوت عال:

– أبرونا الذمة…

أم عادل لا تتفاهم بالسعر، كانت تبيع بضاعتها بأغلى ثمن، واليوم أراها توزعها مجاناً، وبمودة وتتوسل الجميع ببراءة الذمة.

وإذ بي أسمع صوتاً يصدح بصوت عال من جهة سوبر ماركت أبي شوقي، صاحب الأسواق الكبيرة الوحيدة في حارتنا:

– سنوزع كل شيء بالمجان…

وفعلاً بدأ أهل المنطقة والفقراء يتوافدون على محله مع أنهم كانوا يحلمون سابقاً بدخوله لغلاء ثمن بضاعته، وأنا أيضاً ذهبت لأن هذا يوم الثواب ويوم الوداع الذي لا ينفع معه المال، الناس انقسموا بين آخذ للحوم وآخر دواجن، وغيرهم فواكه.

وأنا أخذت فرشاة أسنان ومعجون أسنان وأدوات حلاقة وشامبو وصابون، وأكثر الناس أخذوا مواد غذائية كانوا لا يستطيعون شراءها من زمن لغلاء أسعارها ولعدم تمكن الفقراء من شرائها، والمثير للدهشة أن الناس كانوا ودودين ومتعاونين مع بعض، على عكس ما كان يحدث قبل أخبار وقوع النيزك..

بعد الخروج من السوبر ماركت بدأت أسير خارج حارتنا، وأجوب الشوارع، أكثر المحلات مغلقة، والشوارع شبه فارغة، ووجوه الناس القليلة الموجودة عند كل مفرق طريق شاحبة، وأغلبية محلات المواد الغذائية كانوا قد كتبوا لوحة صغيرة كتب عليها “التوزيع مجاني”، تباطأت خطاي وقصرت.

وأحسست فعلاً بخوف شديد تملكني رغم قصر المسافة لشقتي، لكن أحس الطريق بعيدة، تارة أنظر للسماء وتارة أنظر لليسار واليمين، وأرى النساء في باحة الشرفات، هدوء وسماع تجويد من القرآن ومن شقة صديقنا المسيحي أسمع قداساً داخل شقتهم وتراتيل.

لم تسجل حالة سرقة أو حادث دهس أو جريمة في هذا اليوم من بداية الصباح لحد الساعة 6 عصراً، ولم يبق لزوال الحياة سوى 6 ساعات تفصلنا عن نهاية الكون، وصلت شقتي وكانت والدتي تقف على شرفة شقتنا حالها حال الجميع، تبتهل بالدعاء مع جميع سكان حارتنا بأن يرحمهم الله، ناديتها وأنا جالس على الكنبة مطأطئ الرأس…

– أنا: ماما، هل اتصلت بأختي مريم ونور وسهام…

كنت الابن الوحيد في عائلة تتكون من 3 فتيات ووالدي متوفى.
– ماما: نعم، اتصلت وودعتهن، ودعوت الله أن يجمعنا في الآخرة..

كانت دموعها على خدها وتتكلم بعبرة، ثم أكملت حديثها:

– ماما: سلام، هل أنت خائف من الآخرة؟
– أنا: لا أخفيك يا أمي، أشعر ببعض الخوف، ولكن لم أصدق، ورغم هذا أصبح الناس جيدين أكثر من قبل خبر سقوط النيزك، لم يفرح من الناس سوى المجنون، ورأيت عمار بن الحاج جاسم يصرخ ويلعب، ولم أر أحداً يؤذيه أو ينعته بمجنون كما كان سابقاً يحدث، والمتسولين الذين لا يهمهم زوال الدنيا من بقائها أصبح لهم هذا اليوم يوم فرح، فالجميع لا يردهم ويمنحهم المال الكثير.

– ماما: فعلاً مثل ما قلت، حتى جارتنا سوسن جاءت إلى الشقة، وبكت واعتذرت عن إساءتها لنا، وطلبت السماح، مثلما قلت يا بني، أصبح الناس جيدين أكثر من قبل خبر سقوط النيزك…

– أنا: المهم يا أمي، ماذا عملت لنا عشاء، فهذا هو العشاء الأخير، وابتسمت لأطمئن أمي التي رغم إيمانها الكبير منهارة من الخوف.
– ماما: أتسأل عن العشاء ولم يبق إلا ساعات قليلة لزوال الحياة؟
ضحكت، وقالت:

– أنا صائمة، وسأفطر على ماء وتمر وأحضنك ونموت معاً…

ذهبت أمي للشرفة وبيدها سبحة سوداء، تسبح وتدعو مع نساء الحارة من شرفات المنازل للخلاص من هذا النيزك الذي أذيع عنه خلال شاشات التلفزيون من وكالة ناسا، فقد قال الخبر بأن نيزكاً سيزيل الحياة على الأرض وينهي كل ما فيها، وأنّ احتمال سقوطه بنسبة 90٪، و10٪ سيسقط خارج الغلاف الجوي، لكن هذا الخبر جعل الناس أكثر هدوءاً ومسالمين ومتعاونين مع بعضهم البعض.

ليت الناس كانوا قبل هذا الخبر بهذا الود، ومع ذلك أصابنا الرعب، هذه أول مرة أحس بالخوف والرعب الذي يجعل الناس أكثر عدلاً وهدوءاً.

بدت الدقائق ثقيلة جداً وبطيئة، رغم تأكدي من أن حياتنا لا تزيد عن يوم واحد، فلو استرجعنا ذاكرتنا سنجد الذي حدث قبل 5 سنوات كأنه أمس، لذا هذا الاطمئنان والهدوء يلف شخصيتي رغم الخوف.

لم يبق إلا 5 دقائق تفصلنا عن عالم الفناء، والجميع منتظر لحظة الزوال بارتطام النيزك بكوكب الأرض، ساد هدوء فظيع كأن الحياة في الأرض معدومة، ومع ارتفاع صوت التكبيرات في الجوامع والكنائس قاربت الساعة 12 ليلاً إلا دقيقة، وخرج المذيع مبتسماً الساعة 12و5 دقائق…

– إن النيزك سقط خارج الغلاف الجوي للأرض، وهذه معجزة، إن الأرض أُنقذتْ بأعجوبة…

وبدأ أهل الحارة يصرخون بأصوات عالية من الفرحة ممزوجة بالدموع، وأولهم أمي التي أسمع نحيبها بصوت عالٍ وأرى سجودها من الفرحة، بعدها أخذت تتصل بأخواتي ليعبرن عن فرحهن باستمرار الحياة.

ذهبت لأخلد للنوم بعد يوم عصيب من القلق والخوف، رغم أنه كان يوم الهدوء الذي دفع بالجميع إلى الابتعاد عن الجرائم في العالم.

استيقظت على صراخ جارتي السيئة سوسن، وبدأت أسمع صوت السيارات، وبعد أن استحممت وخرجت من الحمام وجدت والدتي قد هيأت لي الفطور مع فنجان القهوة المعتاد، تناولت فطوري وشربت قهوتي واستعددت للخروج وإذ بي أجد جارتي السيئة وضعت سلة مهملاتها عند باب شقتنا كعادتها السيئة.

فهززت رأسي متعجباً من تصرفها السيئ، نزلت الدرج فأنا أسكن في الطابق الثاني وعندي فوبيا من استخدام المصعد، وكعادتي سلمت على أبي محمد صاحب المحل تحت عمارتنا فلم أسمع منه سوى (هلا)، تابعت سيري نحو عملي فوجدت الناس مختلفين عما كانوا أمسِ عليه اختلافاً كلياً، فقد عاد الجميع لطباعه بعدما آمنوا باستمرار الحياة.

في طريقي مررت بأسواق أبي شوقي وإذ بي أجده يضع يديه على رأسه يندب حظه السيئ لأنه وزع بضاعته طلباً للثواب متألماً على خسارته الفادحة، الناس أصبحت أكثر سوءاً بعد نجاتهم من كارثة النيزك.