سأبين في مقالتي هذه ماذا أقصد بوجود متدينين ومتدينات رغما عنهم وعنهن، وبصائمين وصائمات رغما عنهم وعنهن، وبمحجبات رغما عنهن.
بلا شك، وانطلاقا من إيماننا بالحرية الشخصية، بما في ذلك الحرية الدينية، فأن يكون هناك متدينون وملتزمون بأحكام الدين، وأعني هنا بالذات الدين الإسلامي، من واجبات دينية ومحرمات دينية، فهذا ما يجب احترامه، بل والدفاع عن حرية مزاولته، طالما لم يتجاوز على حريات وحقوق ومصالح الآخرين، ولم يؤثر على الصالح العام والأمن العام والذوق العام.
لكن المشكلة تكمن في القمع الاجتماعي للكثير من المرغمين على الالتزام، أو مواصلة الالتزام بلوازم الدين، حتى عندما تحصل لديهم تحولات في قناعاتهم، ولم يعودوا مقتنعين بما يزاولونه من عبادات وطقوس وشعائر والتزامات.
لكني أعرف أشخاصا صاموا شهر رمضان رغما عنهم، أو بما يقترب من ذلك، بحيث لم تعد لديهم قناعة مئة بالمئة بوجوب الصيام، بل قد يكونون توصلوا إلى ما يتراوح بين 70 إلى 90% بأن الدين ليس من الله، وبالتالي ففرائضه وواجباته ليست واجبة الالتزام بها. فلنتصور إن هناك أشخاصا يصومون في أيام طويلة، كما هو الحال في بعض بلدان أورپا، فيحرمون أنفسهم من الطعام وشرب الماء لعشرين ساعة أو أكثر. نعم من يفعل ذلك عن قناعة وإيمان بأنه يؤدي طاعة لله، فهو راض بذلك، ما زال يعتقد اعتقادا راسخا أنه أمر الله، ولكن أن يواصل الصيام، وهو غير مقتنع باحتمال راجح جدا عنده بوجوبه، ويواصل الصلاة، وإذا كان ذلك الشخص امرأة فتواصل لبس الحجاب، من غير قناعة بالصلاة والحجاب، فهذا هو القمع للحريات، الذي تكون وطأته شديدة على من يجب عليه أن يخضع له غير مقتنع وغير مختار.
صحيح، قلت أن الواجب احترام من يلتزم بلوازم الدين باختياره، وعن إيمان وقناعة راسخة، ولكني – مسموح لي طالما لا أعبر عن ذلك بشكل مباشر وموجه إلى أشخاص محددين – أن أشعر بالعطف على من يصوم بعناء، وعلى من ترتدي الحجاب، لأنهم إذا اكتشفوا أن الله لم يأمرهم بكل ذلك، كما لم ينههم عما ينتهون عنه، مما ليس فيه اعتداء على مصالح أو حقوق أو حريات أو مشاعر غيرهم، لأنهم يكبلون أنفسهم بقيود يتوهمون أنها قيود الله، وما هي بقيود الله.
فالذين يصومون بعد حين من غير قناعة، واللاتي يواصلن لبس الحجاب بعد حين من غير قناعة، رغم أن كلا منهم كان سابقا يصوم ويصلي عن قناعة، وكلا منهن كانت سابقا ترتدي الحجاب عن قناعة، ولكن أن يواصلوا كل ذلك رغما عنهم ورغما عنهن ومن غير قناعة، فهذه بصراحة محنة ما بعدها محنة.
ثم نجد ظاهرة أخرى طالما عايشتها، إذ نجد أمهاتٍ وآباءً ربوا بناتهم وأبناءهم على التدين، وفي وقت متأخر نجد ثمة أبوين يعيدان النظر بالدين، بحيث لم يعودا مقتنعَين بذلك الدين، ومن قبيل الأولى غير مقتنعَين بلوازمه، إذ لم يعودا يريان وجوب التزامهما بأحكامه، بينما بقيت بناتهم وأبناءهم على تدينهم، وصومهم وصلاتهم وربما على حجابهن، دون أن يعلموا بالتحول الذي حصل عند أبويهم، لإخفائهما تحولهما على أبنائهم.
أما إذا عاش الإنسان في محيط متزمت وشديد التدين، فترى تدخل الأهل والجيران والأقارب والأصدقاء والمعارف في شؤونهم الشخصية: لماذ أخّرتَ صلاتك؟ لماذا لا تجعلين حجابكِ أكثر دقة كما يريده الشرع منكِ؟ لماذا لم تحجّبا بعدُ ابنتكم وقد بلغت التاسعة؟ لماذا تأكلون من هذا الطعام وهو مشكوك في تذكيته؟ لماذا لا تأتي إلى صلاة الجمعة؟ لماذا حلقتَ لحيتك؟ لماذا لم نعد نراك في المسجد أو الحسينية؟ لماذا تصادق ابنتكم صديقات غير محجبات؟ لماذا لا تلبسين العباءة فوق حجابكِ؟ لماذا تسمحون لأطفالكم باللعب مع كلب الجيران؟ لماذا يلعب ابنكم مع أصدقائه الكفار؟
هذا ناهيك عن الذين منذ البداية يصلون ويصومون رغما عنهم، واللاتي منذ البداية تتحجبن رغما عنهن. وأفتى بعض الفقهاء بضرب الولد إن أبى أن يصلي، وبحرمة الابتسام بوجه الفاسق أو الفاسقة، والفسق هو عدم الالتزام بواجبات الدين ومحرماته، كتارك الصلاة وتاركة الحجاب وشارب الخمر، بل يجب العبوس بوجههم، وعدم السلام عليهم، وربما مقاطعتهم، إلا من فهم الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فيجاملون العصاة رجاء أن يعيدوهم إلى سبيل الطاعة، أو من فهم دينه سَمِحا.
ومن المتدينين من يشق على نفسه أكثر مما يريد منه الشرع، فيلغي الرخص، ويحول كل ما يحتمل استحبابه شرعا إلى واجب، وكل ما يحتمل كراهته شرعا إلى حرام، وكل ما لا يتيقين من طهارته نجسا، بل يخالف الشرع، فيصوم رغم تأكيد طبيبه لضرر الصوم عليه، بينما إفطار المريض واجب وليس رخصة.
والأدهى من ذلك كله هناك آباء يمارسون التقية أمام أبنائهم، وأبناء أمام آبائهم، وأزواج أمام زوجاتهم، وزوجات أمام أزواجهن.
ولو استطاع المتزمتون من المتدينين – حاشا للعقلاء والمعتدلين منهم – لأضافوا إلى الأسماء (الحسنى) لله اسم «قامع الحريات» على سلبيل المثال، أو «خانق الحريات»، أو «قاتل الحريات»، أو «عدو الحريات»، أو «لاعن مزاولي الحريات».
لكن المستقبل سيكون للعقلانية والاعتدال والمحبة والسلام، وإن طال الطريق حتى بلوغ ذلك المستقبل.