23 ديسمبر، 2024 6:32 ص

صائد الجرذان من دفاتر مذكراتي      

صائد الجرذان من دفاتر مذكراتي      

الزمان :أواسط الثمانينات عندما كانت المعارك بين العراق وايران على اشدها ..
المكان : في احدى وحدات التشكيلات الحديثه .. تحديدا على (الطريق الاستراتيجي)المؤدي بين البصرة والفاو .. مقر الفوج يحتضن عادة أصحاب المهن : – الخياط – الحلاق – الكاتب – المراسل – السائق – الطباخ – المضمد…الخ ..مطبخ الفوج كان على بعد 200  متر عن المقر ..
جميع الجنود والمراتب يلتزمون بأرتداء البدله العسكريه ، والخوذه ، والبوسطال الا المراسلين الذين يرتدون الحذاء الخفيف ، ولا يلتزمون  في الغالب بغطاء الرأس  ، مع الطباخين الذين يرتدون البدلة الزرقاء (قطعه واحده) مع الحذاء المطاطي (الجزمه).. ولعل الطباخ صلبوخ (ألازرق) الذي أكتسب لقبه من لون بدلته هو الجندي ألاكثر تمردا على الاوامر العسكريه ، حيث أعتاد على تلقي العقوبات الغزيرة وبأستمرار من سجن ، وحلاقة الرأس ، وقطع الراتب ، وتأخير الاجازه …الخ لفرط مخالفاته ..
لكنه والحق يقال كان لطيف المعشر – حاظر النكته – خفيف الظل  – كريم النفس- يحبه جميع الجنود لطيبة قلبه ، ولأنه كان من أهالي قضاء أبو الخصيب كان كلما سنحت له الفرصه يذهب خلسة الى أهله ، ولا يعود الا في صبيحة اليوم التالي وهو محملا بما لذ وطاب من طعام وحلوى لاصدقائه .
في حال ذهابه الى أهله خلسة  لو سلم أفلت من العقاب ، أما لو صادوه على أثر وشاية من الجنود أنفسهم فسيكون نصيبه العقوبه التي لم يعد يكترث لها كثيرا لتعوده عليها ..
المنطقه المتاخمه لمطبخ الفوج صارت مرتعا للحيوانات السائبة من قطط ، وكلاب وغيرها .. ذلك لان بقايا الطعام في الغالب تترك لاكثر من يوم وروائحها تجذب الزوّار من بعيد ، لاسيما قطعان الخنازير في الليالي الحالكه ..وكلما زادت عفونتها ورائحتها النتنه في خضم الحرارة الملتهبه كلما أغرت روادها من تلك القطعان ..
أما أفواج الجرذان فحدثوا ولا حرج .. فقد جعلت ألارض المحيطة بالمطبخ رخوة جدا لكثرة الثقوب والحفر التي صارت أوكارا لها ..أعتاد صلبوخ الازرق بعد أن ينتهي من مهمة توزيع قصعة العشاء أن يجمع كميّات من الصمون العسكري اليابس المعروف بثقل وزنه ، ولونه الداكن لما يحتويه على نسب من الخلاله ، والشعير أحيانا ليستخدمه (كعتاد) كما يقول هو لمكافحة الجرذان !!حيث يقوم بأصطياد الجرذان بقذفها بالصمون وهو يشعر بنشوه عارمه ، غير آبه لنداءات الجنود المؤمنين الذين ملأوا الدنيا بصيحات : – (أستغفر الله – أستغفر الله – لعنك الله أيها الكافر) ..
وكان في الختام يجمع الجرذان النافقة التي تتراوح أعدادها في اليوم الواحد مابين 10-14 جرذ ويقدمها طعاما شهيا  للقطط والكلاب الجائعة .. 
فهو في الوقت الذي يضمر العداء للجرذان كان يعقد الصداقات مع الكلاب والقطط التي الفته وهي تقترب منه ، وتلعب معه ..كان كلما زاد عدد الجرذان التي يصطاداها كلما كبرت فرحته، حتى انه في احد الايام استطاع ان يحطم الرقم القياسي حيث اصطاد 22 جرذا ..
في ليلة ظلماء أصيب صلبوخ ألازرق بأسهال شديد .. 
حمل ابريقه ، وراح مسرعا ليملأه بالماء ليذهب الى الخلاء لقضاء حاجته .ولفرط عجالته ووسط هذا الظلام الدامس نسي ان يتجنب الجرذان حيث مر فوق ثقوبها الغزيرة ، داس على جرذ سمين مدوّر.. عثر وكاد يسقط ، لكنه تمالك نفسه بالكاد ..نهض وعلى حين غره دخل جرذ آخر من فتحة بدلته الزرقاء الى جسده، وبدأ يصعد بسرعه الى فخذه وسط ذعر صلبوخ ، وقفزاته المتعدده ،  ومحاولاته اليائسه للخلاص منه ، ووسط الضربات العديده للجرذ الذي أفلح بالوصول الى أعضائه التناسليه ، فاز بعضة شرسة من احليله!!..تغوّط في لباسه لفرط المه واسهاله وأمسك بالجرذ من الخارج من بدلته ، وهو يشعر بألم لايطاق .. 
صرخ صرخة مدوية أستجاب لها الجنود من كل حدب وصوب .. تجمهروا حوله بين ضاحك وساخر ومستهزء ومتشف ، ومرتعب وخائف من الجرذ ، وبين من أشفق لحاله ..لسوء حظه كان حجم الجرذ كبيرا جدا قد يقترب الى حجم القط !!خلعوا بدلته وصار شبه عار لكون البدله قطعة واحدة ، وفاحت منه رائحة تزكم الانوف .. 
لكن الجرذ أفلح بالهزيمة والخلاص بعد أن نفذ فعلته ، وأنتقم لربعه الجرذان ..انبرى احد الجنود وهو بكر أحمد الكوردي من أهالي السليمانيه الذي قام بغسله وتنظيفه ، وجلب له ثياب نظيفة البسه ، ونقله الى الملجىء الخاص بالطباخين ..لم تكن اصابة صلبوخ الازرق بسيطه ، لاسيما في هذا المكان الحساس ..ولسوء طالعه ان مضمد الوحده كان غائبا لكونه يتمتع بأجازته الدوريه ..نصحه زملاؤه بأن يذهبوا به الى وحدة الميدان الطبيه القريبه في الفاو لتلقي العلاج ، لكنه رفض برغم آلامه المبرحه ..في اليوم التالي تورّم احليله ، ولم يستطع التبول ، فتم نقله الى مستشفى البصره العسكري ..
ومن يومها غيّروا أسمه من صلبوخ الازرق الى صلبوخ أبو الجرذ ..
أصيب صلبوخ بمضاعفات والتهاب شديد ..

تم نقله من مستشفى البصره العسكري الى مستشفى الرشيد العسكري في بغداد .. 
وبعد أن أمضى ثلاثة أشهر من المراجعات والاجازات المرضيه كانت نتائجها ان المسكين أصيب بعقم ، ولم يعد يشعر بالرغبة الجنسيه ، حيث خمدت كل رغباته وهو في عز الشباب ..
لكنه أستطاع أن يستثمر حالته الصحية الاستثنائية و يقدم طلبا لاحالته على لجنة (شرحبيل)* الطبية المختصة لاعفائه من الخدمه العسكريه المسلحه ، وتحقق له ما مطلوب في عشية أشتراك وحدته بمعركة شرسة مع العدو في منطقة الفاو والتي راح ضحيتها أكثر من نصف منتسبي الفوج بين شهيد وجريح ..سلم صلبوخ أبو الجرذ من المعركه لكنه أصيب بالعقم طيلة حياته!!!
* لجنة شرحبيل الطبيه كان قد تم تشكيلها في مستشفى الرشيد العسكري أثناء الحرب العراقيه الايرانيه  ومن صلاحياتها البت في حالات اعفاء منتسبي الجيش العراقي من الخدمه العسكريه المسلحه وغير المسلحه .. أو احداهما ..
عنكاوا