23 ديسمبر، 2024 12:59 ص

شيزوفرنيا مثقّف التواصل

شيزوفرنيا مثقّف التواصل

هتك التواصل الاجتماعي الرقمي، شيزوفرنيا ثقافية عراقية، كان من العسير رصدها في الماضي، بعد ان تجلّت بوضوح في التدوين الرقمي الذي يعد مظهرا كتابيا هو الأقرب الى الواقع من المقال المعدّ خصيصا لصحيفة، او فضائية، او جهة بحثية، ذلك ان الكاتب يعبّر به، مباشرة عن مفاهيمه، التي يقنصها للتوّ من الواقع.

الانفصام يتجسّد في ان المثقف العراقي لا يكتب اشتقاقا استخلصه من اختبارات، بل من مجموعة خوالج وولاءات

فكرية، لا يستطيع ان يتخلى عنها، لتسقط عنه صفة الباحث المهني، أو المتصدي المحايد، الى كونه مالك شعارات سياسية، على رغم انكاره لذلك.

الاغلب – إنْ لم يكن الكل- من الكتاب الذي يسلسلون أنفسهم بانهم يساريين، يهاجمون الخصم الفكري، مستندين الى

وقائع، اما مفبركة، او مقاطع فيديو ملفقة، او اخبار لا أساس لها من الصحة، وعلى رغم ان الامر موصوم، الا ان

الإصرار عليه يدل على نية مبيّتة للانطلاق في التحليل والتصنيف على أسس واهية، وحقائق مصطنعة.

واحدة من تلك الانشغالات التي تصنعها الشيزوفرنيات التحليلية، الحوادث “المحدودة” لقتل الناشطات، فعلى رغم ان

الجهات المعنية لم تحسم هوية الفاعل، الا ان اغلب الناشطين الذي يضعون انفسهم في خانة الحيوية المدنية، اتّهموا من اللحظة الأولى، أندادهم العقائديين، باقتراف ذلك، على رغم عدم امتلاكهم، الدليل.

من حالات الشيزوفرنيات الثقافية، انّ المدوّن او الكاتب او الناشط او المثقف، طوباوي، فهو راع للإصلاح، والمحارب للفساد، في التواصل الافتراضي، ويفعل نقيضَهُ في الواقع العملي، اذ ان مؤشرات سلوكه اليومي، تؤكد التحامه في ماكنة الفساد، ومشارك في تشغيلها، على رغم سعيه الى ايقافها في عالمه الافتراضي.

ولعلك تجد الأفكارٍ التنويرية التي يسعى الى تسويقها، في متناول الرفاق الفكريين فقط، الذين يصفقّون لها، حتى اذا عارضها، غيْر الموالين، عمّد الى قطع العلاقة الافتراضية معهم، وأقاله من قائمة الأصدقاء، بعد ان فشل في جعلهم يعيشون نمط حياته، وأفكاره.

المفزع في هذه الشيزوفرانيا التي فضحها التواصل الافتراضي الحديث، ان الشخصية الافتراضية العراقية، تتخلى عن نمطها الواقعي، وتنفصل عنه تماما وهي تغرد او تدوّن. واحدة من هذه الصورة -على سبيل المثال لا الحصر- ان جل الناشطين في مجال رصد الواقع، يتحسرون على المرأة السافرة في العقود الماضية، فيما هم يفرضون على بنات اسرهم، الحجاب، متحجّجين في ذلك بالرفض المجتمعي، ليبرهن ذلك على انهم “دعاة تغيير”، بالكلام، لا بالمعاول الحقيقية.

لا نريد ان نحصر الموضوع في امثلة بذاتها، لكي لا يكون القصد منجذبا اليها، لكننا نسعى عبرها الى توضيح الصورة.

انّ اغلب أصحاب الأفكار الافتراضية اليسارية التي تنشد التحرر، هم في الواقع متخلفون في سلوكياتهم عن الأفكار التي يبشرون بها، ولعلنا نلمس ذلك في ذكورية التواصل الاجتماعي العراقي، فليس ثمة علاقة بين الذكورية والأنثوية في فيسبوك وتويتر، اكثر اتساعا، عمّا هو في الواقع، حيث القطيعة واضحة بين الطرفين.

قراءتي للمشهد الافتراضي العراقي بحكم معيشتي في اوربا، لنحو العقدين من الزمن، تشير الى ان السلوكية الافتراضية الاوربية الغربية، أكثر رصانة ونفعا، عما يعتاد عليه العراقيون اليوم، ذلك ان من النادر ان تجد مثقفا او اكاديميا يضّيع وقته في التواصل الاجتماعي إلا بالقدر الذي يفيده في مهنته ووظيفته وابداعه، فيما الشاب العراقي بشكل خاص، يجد في التواصل الاجتماعي ضالته في استهلاك الوقت، واستنزاف الطاقة، في دردشات ونقاشات، على نمطِ فوضويِّ، لا طائل منه.