لا تتشكل الشخصيات الكبيرة والفاعلة في هدوء الحياة أو سكون المواقف ، فعادات العقل الكبير والنفس القوية تتشكلان من خلال الصراع مع المصاعب وتنتج عنها ، والمصاعب الهائلة هي التي تظهر الفضائل الراقية والسمات المؤثرة وما هو دونها فتبرز في لجتها القيادة الفذة ( حسنها وسيئها ) ويظهر القائد الملهم.
تبنى القيادة مرتبطة في جوهرها بالتفاؤل والرغبة في التغيير الى الأفضل مع إيمان القائد بقضيته وإخلاصه لها إخلاصاً عميقاً دون ان يشترط لذلك صوابيتها فليس كل الفادة الناجحون يحملون رسالة نبيلة !.
على إن هذا الإخلاص والايمان مهم في مسيرة تكوينه وبروزه على ساحة الأحداث ، فهما يدفعانه دفعا الى نكران الذات ومن ثم تنعكسان على اختيار الرجال ومعرفة دواخلهم وأخلاقهم وعدم الاستسلام للأحداث والضغوط .
ومن أهم الركائز التي تبنى عليها القيادة ( الاستقامة ) وهي سمة ينبغي على القائد التأكد من حضورها على الدوام ، وأي خدش في استقامة القائد سيخل بمعنى قيادته والصورة التي تتكون عنه ، مما ينعكس سلباً في نفوس وسلوك من حوله وربما يكون ذلك في حده الايجابي سببا للالتقاء حول قيادته ورمزيته ، أو في حده السلبي سببا للانفضاض عنه .
ولا شئ أخطر على القائد من أن يكون محاطاً بمجموعة من الخانعين والانتهازيين الذين لا يشغلهم سوى المكاسب والمصالح الشخصية والرغبة في الاستعلاء ، فهنا نخن ازاء مشهد ( ساعة رملية ) يزداد حجمها في جانب على حساب المقابل ، وهو بالضبط ما يفعله اولئك حين ينحتون مجدهم على حساب قائدهم الذي يغفل عنهم .
والقادة الناجحون يمتلكون قدرات متميزة تساعدهم لمواجهة جملة من التحديات ومن أهمها :
1. القدرة على التكيف : وهي من أهم المهارات التي يحتاجها القائد وتعد ضرورة أساسية للاستمرار كونها تتيح له الاستجابة للأحداث والتغيرات القاسية والتلاؤم مع البيئة بسرعة وذكاء.
والقدرة على التكيف تمكن القادة من التصرف واتخاذ الإجراء المناسب ثم تقييم نتائج تصرفاتهم بدلاً من الاعتماد على نموذج صنع القرار التقليدي الذي يتطلب جمع وتحليل البيانات ثم اتخاذ القرار المناسب وهو الذي قد لا يكون متاحاً دائماً ، فقادة اليوم يعلمون ان السرعة ضرورية وأن من المحتم عليهم ان يتصرفوا في كثير من الأحيان قبل ان يحصلوا على جميع البيانات … ثم يقيموا نتائج تصرفاتهم ويصححوا المسار ان استلزم الأمر ويتصرفوا بسرعة مرة أخرى. وهذا ما تفعله الكثير من المؤسسات في عالم اليوم.
والقدرة على التكيف تشمل المرونة والقدرة على الاحتمال والاستمرار بالرغم من الصدمات والضربات وكذلك القدرة على تحليل الفرص واغتنامها .
كما ان القدرة على التكيف تعني بناء علاقة تبادلية تشاركية مفيدة للطرفين وهي الخطوة الأولى في بناء الشخصية القيادية البانية للتحالفات المفيدة.
ومن النماذج في هذا الموضوع نموذج تشرشل في الحرب العالمية الثانية حيث أيقن بعدم قدرة بريطانيا على تحقيق النصر على ألمانيا فلجأ الى الولايات المتحدة التي كان الكثير من قادة أوربا يرون أنها أدنى منهم سواء في الفكر أو الآداب أو السلوك بل ربما نظرة المستعمرة القديمة عند بعض الشخصيات البريطانية فتحالف معها مقدماً التنازلات ومتراجعاً الى المرتبة الثانية للمحافظة على بريطانيا وإنقاذها من الطوفان الألماني.
2. القدرة على الاستقطاب : هذه المهارة تساعد القائد في استقطاب المواهب المفيدة وجمعها حوله على غاية مشتركة من خلال إقناعهم برؤيته التي يؤمن بها ، وهذا يتم من خلال الانسجام في كتلة واحدة والتأثير بالاستخدام البارع للخطاب البليغ والمؤثر والمقنع.
فالقادة يتميزون بالقدرات التعبيرية العالية والتي تتجسد بالثقة بالذات والإحساس بجدوى عملهم ورغبتهم الكبيرة في تحويل الآمال الى واقع. ولا يكفي أبداً الذكاء الخاص أو المثابرة في العمل ما لم يعلم بها المقابل ويلمسها ويحبها ويتمنى ان يتصف بها.
وفي هذا الباب نتذكر أمثلة واقعية في المقارنة بين القادة مثل كارتر وريغان , فكارتر يعد من أذكى الرؤساء وأعلاهم في التحصيل العلمي وأكثرهم تفانياً والكل يتذكر الأزمة الاقتصادية حيث بدأ كارتر برنامج تقليص النفقات الحكومية من البيت الأبيض تقليل ساعات التدفئة وتسريح الموظفين الذين من الممكن الاستغناء عنهم مؤقتاً مثل السكرتيرة الشخصية لزوجته مما اضطرها الى الرد على الخطابات وكتابتها على الآلة الكاتبة بنفسها, وفي المقابل أتى بعده ريغان صاحب الخلفية الفنية الذي حرص على مظاهر القوة والفخامة فاختاره الجمهور لأنه يمثل الصورة التي يحبون للقائد والرئيس , ومثال آخر في المقارنة بين آل جور وبوش فكل من التقى بالشخصين يدرك القدرات الهائلة في شخصية آل جور والذكاء المتوقد وفي المقابل الذكاء المتوسط في جورج بوش والثقافة المتدنية لكن الجمهور صوت لبوش الذي كان حريصاً على إظهار القوة والعزم والإصرار مع بساطة الرجل العادي الذي لا يختلف كثيراً عن عموم الناس فصوتوا له واختاروه.
وهنا لابد من القول ان القيادة تدور دائماً حول شخصية القائد أكثر من القضية التي يعمل لها وتبقى البوصلة الأخلاقية عند القائد من أقوى عناصر الجذب للآخرين ولهذا كانت شخصية القائد وحضوره المتميز تأتي على الدوام قبل المعرفة الشخصية حيث أن النقص في المعرفة من الممكن تعويضه بالمستشارين لكن النقص في الشخصية الآسرة من الصعب جداً تعويضه.
وفي النهاية وبغض النظر عن كل ما يقال عن القيادة من أوصاف تبقى القيادة كالجمال من الصعب وصفه لكنك تعرفه بمجرد أن تراه