18 ديسمبر، 2024 7:41 م

شولوخوف في قارب بشوارع موسكو

شولوخوف في قارب بشوارع موسكو

سألني زملائي الروس القدامى – هل شاهدت شولوخوف وهو يجلس بالقارب في شارع غوغول بموسكو ؟ ضحكت أنا من طبيعة هذا السؤال , وقلت لهم , لقد تذكرت كيف كنّا نمزح ونضحك عندما كنّا طلبة و ندرس معا في جامعة موسكو قبل ستين سنة , ولكن هل يمكن ان نمزح بهذا الشكل السريالي الغريب الان , وقد بلغنا من العمر عتيا ؟ فضحكوا جميعا على اجابتي , وقالوا لي , هيا لنذهب الى هناك , كي ترى بنفسك اننا لا نمزح ولا نضحك , ولكي تقتنع , بانك لم تعد تعرف موسكو اليوم كما كنت تعرفها سابقا في الايام الخوالي , لانك ( بلغت من العمر عتيا!) . اندهشت انا من اجابتهم الحاسمة تلك وقلت لهم انني حتى لم اسمع , ان شولوخوف يجلس في قارب و(يتنزه!!!) بشوارع موسكو , فقالوا لي ,لا يمكن للانسان ان يرى كل شئ ولا ان يسمع كل شئ , فهل نسيت هذه الحقيقة البسيطة في حياتنا ؟ فاضطررت ان اقول لفولوديا , وهو الذي كان ولازال اكثرنا جديّة وصرامة – حتى انت يا فولوديا ؟ فضحك فولوديا وهو يقول – نعم نعم , حتى أنا , هيا لنذهب معا , هيا لنذهب , وهكذا توجهنا جميعا الى هناك , وكنت لاازال بين مصدّق لتلك الاقوال او غير مصدّق لها …
وها انا ذا امام هذا النصب الهائل والغريب لشولوخوف وروايته ( الدون الهادئ) , هذا النصب الذي لم اشاهد سابقا شيئا مماثلا له بتاتا , حيث يجلس شولوخوف فعلا – كما قالوا لي – في قارب , وهو رافع الرأس بشموخ , وعن يمينه مجذاف , ويجري (نهر الدون ) تحت القارب هادئا كما أسماه في روايته , واسفل هذا القارب تحاول عشرات الحصن ان تعبر النهر سباحة وهي متعبة , ورؤوسها تبدو واضحة فقط ليس الا , اذ انها غاطسة باكملها في النهر , وامام هذا النصب المدهش تقف مصطبتان متلاصقتان ببعض من الظهر وبينهما جدارية تعلو حوالي المتر , ومحفور على تلك الجدارية مشاهد من المعارك التي كانت تحدث بين (البيض!) و(الحمر!) في الحرب الروسية الاهلية آنذاك, والتي تناولتها رواية شولوخوف الشهيرة ( الدون الهادئ ) , وكل ذلك مصنوع طبعا بشكل باهر , فماء نهر الدون الذي يجري هادئا فعلا , والقارب الذي يعلو النهر حيث يجلس شولوخوف شامخا من البرونز , والحصن التي تسىبح في ماء النهر متعبة وهي تحاول عبوره بعناد واصرار, و المصطبتان المتلاصقتان والجدارية الجميلة التي تفصل بينهما , و المليئة بالنحت البارز لاحداث الحرب الاهلية الروسية آنذاك. لقد أدهشني هذا النصب بافكاره الرمزية العميقة جدا وحجمه الهائل و غير الاعتيادي بتاتا وتصميمه الرائع المتناسق الجميل وتنفيذه بهذا الشكل الفني الحيوي المدهش, وفهمت بما لا يقبل الشك , ماذا يعني نصب تقوم الدولة بانجازه تخليدا وتكريما لأحد اعلامها الكبار مثل شولوخوف …
بعد ان مكثنا عند النصب اكثر من ربع ساعة ونحن نتأمّله من كل جوانبه بامعان واهتمام , قررنا الجلوس في مقهى قريب لتناول القهوة , وهناك بدأنا ندردش حول انطباعاتنا حول هذا النصب , فقال لي احد الزملاء , انه لاحظ باني لم انبس بكلمة واحدة بتاتا عندما كنّا هناك , فاجبته ضاحكا , نعم لاني كنت مندهشا أشد الاندهاش امام هذا الانجاز الفني الكبيبر لدرجة لم استطع فيها ان اقول اي شئ بتاتا, اذ اني طوال حياتي اهتم بالتماثيل والنصب , واطلعت على الكثير منها في مدن العالم التي سافرت اليها ( وما اكثرها !) , وحتى بادرت بتنفيذ عدة تماثيل نصفية في روسيا والعراق لشخصيات عراقية ( وحسب امكانياتي المتواضعة ) , ولكني لم اشاهد ابدا مثل هذا النصب العملاق في اي مكان كنت فيه بالعالم . وأخذ الجالسون يحدثوني عن هذا النصب , وقد تبيّن من احاديثهم , ان الدولة السوفيتية اعلنت مسابقة عام 1980 لاقامة نصب لشولوخوف , وشارك طبعا عشرات النحاتين بتلك المسابقة , وفاز النحات روكافيشنيكوف بها , الا ان الدولة آنذاك لم تستطع تنفيذه , اذ كانت اوضاعها الاقتصادية والعامة في ثمانينيات القرن العشرين متدهورة , وليس عبثا ان الاتحاد السوفيتي نفسه قد انهار عام 1991 , وهكذا بقي هذا المشروع الفني العملاق بلا تنفيذ , ولكن ابن النحات استطاع ان ( يعيد الحياة الى هذا النصب !) لانه مشروع والده , وتمكّن من تحقيقه عام 2007, بعد اضافة بعض التعديلات عليه , وذلك بعد ان استقرت الاوضاع نسبيا في الدولة الجديدة , التي حلّت مكان الاتحاد السوفيتي , وهي – روسيا الاتحادية . امتدحنا جميعا موقف ابن النحات هذا , وقلنا يا له من ابن بار لذكرى والده . وتحدث بعض الزملاء ايضا عن اهمية هذا النصب مؤكدين , انه يجسّد موقف الدولة الروسية تجاه شولوخوف , اذ حاولت بعض الاوساط السياسية في خارج روسيا وحتى في داخلها تشويه سمعته الادبية والطعن بمكانته في مسيرة الادب الروسي , وقد جاء تنفيذ هذا النصب الكبير في موسكو لشولوخوف ولروايته الشهيرة ( الدون الهادئ ) جوابا حاسما على كل ذلك , اذ كانت تلك الحملة تدور بالذات حول هذه الرواية , ولهذا نرى شولوخوف في النصب يجلس بقاربه شامخا , وهو يعبر (نهره الهادئ )…