الحديث عن العظماء فيه مصاعب على الكاتب المتناول لسيرتهم، فمهما تم الغوص في بحار الكلمات وانتقاء افضل العبارات وسردها في حقهم تعد نقطة في بحر جودهم وعطائهم فبين من حمل فكراً وعلماً في استبصار البشرية واستمرارية الحياة فيها وبين من حمل دمائه على راحة يده لتحرير ارادة الشعوب من قبضة الطُغاة.
الحديث عن الرجال والمواقف يحتاج دائماً الى رؤية موضوعية، وحس محايد ومنصف غير منحاز، يفصل بين ما هو عاطفي وبين ما هو واقعي.
الخوض في ترجمة الرجال يتطلب من الكاتب ان يترجم ما هو ملموس وواقع حال وليس من نسج الخيال، وهذه حقيقة تواجهنا ونحن نخوض غمار ترجمة اية الله المجاهد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، القصد من وراء هذا للاطلاع على مسيرة هذا الرجل التي امتدت لاكثر من اربعين عاماً من النضال ضد الانظمة الفاسدة التي فرضت سيطرتها على العراق، لتعرف على مفاصل حياته وجهاده وانجازاته على الاصعدة الاجتماعية والسياسية.
ولد (قدس سره) في مدينة النجف الاشرف في الخامس والعشرين من جمادى الاولى من عام 1358هجرية –1939م، ويعتبر النجف الاشرف موطن العِلم والمعرفة والتي تحتضن سيد الوصين الامام علي (عليه السلام)، وتعد أسرة آل الحكيم من الاسر العلوية التي يرجعُ نسبها الى الامام الحسن ابن علي المجتبى (عليه السلام).
نشأ اية الله الحكيم (قدس سره) مع اخوته التسعة، في احضان والده الامام الراحل محسن الحكيم (قدس سره)، حيث التقى والورع والجهاد، تغذى منذ نعومة اضفاره بمعاني الصبر والصمود، وعاش عيشة الفقراء مقتدياً بأبائه واجداده الصالحين، كم من اليالي والايام تمضي عليه “قده” وطعامه مع بقية افراد العائلة عبارة عن الخبز واللبن والتمر والشاي والسكر التي تعد من الوان الطعام البسيط، كانت ولادته ومراحل طفولته الاولى متزامنة مع احداث الحرب العالمية الثانية وما تبعته من ويلات ومعاناة، في وقت كان فيه والده الامام الحكيم من كِبار المجتهدين في النجف الاشرف.
تلقى السيد الحكيم علومه الاولية في ما يعرف بكتاتيب النجف الاشرف، ثم بعد ذلك دخل في مرحلة الدراسة الابتدائية في مدرسة منتدى النشر انها فيها الصف الرابع فتركها، بعد ان نشأت عنده الرغبة في الدخول لدراسة الحوزوية وكان عمره الشريف آن ذاك الثانية عشر من عمره وكان ذلك سنة 1370 هجرية، بعد سنوات من الدراسة في حوزة النجف الاشرف على يد اساتذه ومراجع الحوزة العلمية امثال الامام الخوئي والشهيد محمد باقر الصدر واخيه السيد يوسف الحكيم (قدست اسرارهم) وغيرهم، قد حاز على شهادة الاجتهاد وهو في بداية شبابه على يد المرجع الكبير اية العظمى الشيخ مرتضى آل ياسين.
يعد الشهيد الحكيم نموذجاً فريداً، استطاع ان يجمع بين العِلم وتمثيله لمرجعية والده في المحافل العامة وبين الشروع بالتدريس في الاوساط الحوزوية والمواجهة والصمود بوجه عتاة السلطة التي مارست الاساليب القمعية بحق الشعب العراقي، حيث لم تؤثر هذه على ذاك وهذا ان دل انما يدل على نبوغه وإِلمامه بالساحة بصورة عامة رغم قلة الوسائل المتاحة له آن ذاك، دخل الساحة بكل ابوابها واصبح رقماً صعباً من بين اقرانه وخصومه على حداً سواء و هذا ما جعله متميزاً عن الاخرين “قدس سره”.
تضحيته وجهاده وصموده من اجل العقيدة والوطن، بعد سنوات المواجهة مع عناصر حزب البعث في داخل العراق، وبعد ان استنفذت السُبل وضيق عليه الخناق لاسيما بعد استشهاد المفكر الأسلامي محمد باقر الصدر (قدس سره) الذي طلب مراراً وتكراراً من السيد الحكيم ان يمارس نضاله ضد البعث بالخارج وان لايتوقف عن ذلك، قرر حينها الحكيم الخروج من وطنه مجبراً على ذلك يحمل اهأت وهموم شعب قد غيب في غياهب الجُب، واعلن كلمته وعلى الملاء دون تردد وخوف حينما طلب المجرم صدام من السيد الحكيم من التوقف من ممارسة الجهاد والمعارضة لسلطته فقال كما قال جده سيد أباة الضيم (عليه السلام): الا إن الدعي إبن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، غير مكترثاً بما يجري عليه مادام انه سائراً على الجادة، فقدم من اهل بيته كانوا رهائن لدى الطاغية فذبحوا على مذبح الحرية في سبيل الوطن والعقيدة وكانت هذه الدماء تمثل بداية السقوط لقرن الشيطان، فاستطاع بصبره وجهاده ان يهزم الطغيان في عقر داره فارداه مدحوراً مذموماً وبقي شهيد المحراب الق في افق السماء كالنجم زاخراً يسطع وعرشاً توسط القلوب فقدم دمائه لله والوطن فخلد الله ذِكراه.