18 ديسمبر، 2024 6:02 م

شهرزاد النص، وشهريار النرد قراءة في ديوان(نص النرد) لعدنان الصائغ).

شهرزاد النص، وشهريار النرد قراءة في ديوان(نص النرد) لعدنان الصائغ).

قبل ان تبدأ بقراءة هذا الديوان، ضع قربك علبة باراسيتول ومنشفة ونسخة من القرآن الكريم، الباراسيتول للصداع، والمنشفة لمسح التراب الذي ستثيره الكلمات، والقرآن لتقسم على عدم قراءة عدنان الصائغ مرة أخرى.
الذي يغامر بقراءة هذا النص المستطيل والمربع والدائري، عليه ان لايقرأه بعينيه، انما يقرأه بعين ثالثة كما كتبه الشاعر بعينه الثالثة.
“نرد النص”، النرد مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعة ستة وجوه تبدأ بما يشبه النقطة او الحفرة، والنص مضاف اليه مكسور الخاطر، وللنص ان يرتكب الحماقات وهو يسير بجنب ستة وجوه للتأويل، اذا اوقفته سيطرة الرقيب يقول لها: گول ماكو هيچ حچي.
هل يتحدث الشاعر مع نفسه ام مع إمرأة تركته وحيدا في غرفته بعد ان اطفأت الانوار واغلقت الباب خلفها!؟!
هل كان الشاعر يلعب بالنرد(الزهر) استجابة لوصية الشاعر القروي حين حفر ابياته على طاولته:
العب اخي مانحن الا لعبة بيد القدرْ
صنعت بنا الايام ما بالزهر تصنع والحجرْ
العب اخي العب فما ردَّ المقاديرَ الحذرْ
لا يدفع اللهو الردى لكنه يُنسي الخطرْ
***
نص يتخمك بالشبع منذ اول لقمة وحتى اخر حزن، دوار اشبه بصداع نصفي يترك نصفه الآخر واقفا على أعتاب البندول، العراقي يحب نصه ان يكون طويلا وسمينا!! ، نص يكفيك ان تعبر العالم وانت تتأبط عراقا او منفى بهيئة لطمية حداثوية لايتقنها سوى رادود، هذا النواح عراقي لاينتهي، لهاث لايهدأ ولايسمح لك ان تهدأ، بحث في الجدوى واللاجدوى، صور من معركة تبحث عن جثث، مجون يكشف عن مؤخرة التاريخ وهي تتنقل من زنزانة لأخرى وكانها في بيت دعارة، من بحر لآخر يسير بجنون كامل الدسم، يجيء على شكل قصيدة تتلفع بالأبيض والأسود، لايسمح لسفينته ان تلقى المرساة على شاطيء ما، ربما لعدم ثقته بالشواطيء… وبنا!! .. الشاعر يمتحن ذكاء القاريء، بينما يقسم الصفحة بين صفحة من كتاب” صبح الاعشى في صناعة الانشا” وبين نص يمعن في قراءة جسد الأنثى بالف عين!!
هذا النص بحاجة إلى طبيب عدلي لتشريحه ومعرفة الأسباب الحقيقية لحدوث هذا الموت المتوقع، نزيف متواصل لخمسة وعشرين عاما، وكما تتساقط النبال على النبال، هندست الجروح مملكتها مثل النمل، كل جرح نافذة لجرح، وكل دمعة مفتتح لدمعة قادمة،”تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ”، انه يجمع الفراشات ليزين بها شجرة موته او ميلاده، وحدنا من نفكر بالموت، بينما نترك الحياة للقتلة والطغاة، بل اكثر من هذا، نقدم لهم الأعذار بقتلنا لاننا اولاد قحاب لانستحق ان نعيش واياهم على أرض واحدة،
اين يذهب بنا هذا الكوفيُّ المسافر الى هناك، يحمل مواجعنا واحدة واحدة ليوثقها واحدة…. واحدة، هذا الذي يذكرني بابن المطهّر الحلي الذي لم تفارق يداه القلم والورقة طيلة حياته، كان يكتب يوميا ما لايقل عن عشرين صفحة، ما ان تتساقط عبارة من فم احدهم الا والتقطها، ربما لايعرف القائل معناها او وزنها النوعي، لكن عدنان….. صائغ يستل قلمه ويسقطها على دفتر ملاحظاته الصغير وكأنه يثبت زاوية لخريطة بيت شعري يسكنه لاحقا..
لم تحمل يداي ديوان شعريا وزنه كغم واحد وستمائة وستون غرام بصفحات تصل إلى 137‪7 صفحة من قبل، ديوان بحاجة إلى عدّاء ليشترك في ماراثون القراءة ونحن في زمن الأكلات السريعة والخطوط السريعة، اعلم ان الكثير ربما يهرب منه خشية الغرق بين صفحاته، لكني على يقين ان عدنان الصائغ يكفيه ان يغرق في صفحاته عقل وضمير واحد فقط، انه لايبحث عن جمهور الفيسبوك، هؤلاء الذين اختصروا الكلام بالضغط على زر الإعجاب.
عدنان الصائغ يرسم بالكلمات ويقبض على الحروف الهاربة مثل محقق متمرس، انه يوثق أيامنا بلغة تتنقل بين الشعر والنثر ، انه يحمل أيامه اشبه بمن يحمل روزنامة لم يلتفت اليها احد وهي تشطب أيامها باظافرها.
لماذا يكون للنص نرد واحد بستة اوجه؟ لماذا، لايكون هناك نردان؟ ربما لو كان هناك نردان اثنان لاستطالت القصيدة بمتوالية عددية بحاجة إلى 25 سنة أخرى، وهل يتسع العمر لخمسة وعشرين عاما اخرى من عمر تساقطت أوراقه على ارصفة المنافي ؟
لم يبق عدنان الصائغ شيئا يعتب عليه، التاريخ والتراث والعصور… مرورا بالاوطان والنساء، وكأنه يكفر شكلا بمقدمة ابن خلدون ويقدم عليها مؤخرة جنيفر لوبيز في المضمون ليسمح لها ان تاخذ دورها في قيادة العالم الطامث.
“نرد النص” جمع مرايا، لكل وجه او رقم، لك ان تقف امام كل رمية نردٍ او صلية من كلاشنكوف محالة الى التقاعد، سترى وجهك او صدرك متخما بالرصاص، مع يقيمك ان الموت رحيم لانه لم يعطك وقتا كافيا لمسح دمك الخارج عن القانون، واي قانون هذا الذي يحاسب العقل على أبجدية حروف انتظمت على عظام السطور.
تنسل صورنا من نقاط النرد الشبيهة بقبور مصطفة حسب تنسيق القامات، النقطة السوداء تستحيل الى صور شتى، كل واحدة حياة باكملها، بإمكان النقطة ان تظهر بشكل امراة، سفينة، طفل، دراجات هوائية، بإمكان كل نقطة ان تتحول إلى كل شيء إلا أن تتحول إلى وطن، الوطن وحده استعصى عليها، هل كان الوطن نقطة سوداء في حياتنا؟ يسيل السواد على الوجوه مثل لافتات نعي لاتحمل اسماءنا، مهمتنا الوحيدة البحث عن اسمائنا لنلتحق بعدها الى اقرب قبر عسكري…
كلما غرق في جحيم الشعر، اعطى لروحه فرصة لايضاح مايمكن ايضاحه للاخرين، حين يشرح الشاعر هوامشه فانه يرشد العميان الى طريقه، حين تاخذ مقعدك وسط النيران لن تنفعك طاسة ماء باردة.
الشاعر بصفته راعيا، والحروف قطيع، الشاعر من يقود حروفه وهو يشير اليها بعصاه، الحالم الكبير هو من يختار أحلامه، في الوقت الذي كانت شوارب القادة تهتز تحت مكيفات التبريد، كان هناك عراقي يحلم بامرأة تخرج من البحر ليفترسها، احلام الشاعر مؤجلة على ذمة التحقيق حتى يتبين انها وهمٌ عميلٌ لدولة إقليمية تعمل بالضد من اللحمة الوطنية التي اكتشفنا انها ليست لحمة…. ولاهم يحزنون!…
للنرد ستة اوجه، ولك أن ترمي نردك على جسد طاولة خشبي متعب، ستقرأ ما مر أمام عينيك من تاريخ أعرض من هور الحويزة، ستنتصب امامك تماثيل القادة والسادة وهم يرفعون ايديهم لتحية هذا الشعب السائر من الصرة الى البصرة، تدور عجلة الظلم وهم يمرون تحت إشارات القادة الضوئية، ليس بوسع الشعب المرور الا بعد ان يختم مدير الجوازات على مؤخراتهم بچلاقه النووي او المنوي، العالم يرفض ان نكون امة نووية، وارتضينا ان نكون أمة منوية من الباب إلى المحراب، نحن الأمة الوحيدة التي حولت المحراب الى غرفة اعدام، يسلمنا الطغاة الى أولادهم لان حياتنا وقفٌ، بيوتنا وقفٌ، ومساجدنا وجوامعنا وقفٌ، ونحن موقوفون على ذمة تحقيق لاينتهي، نقلّب صفحات التاريخ الذي كان ينظر إلى اليمين… لأنه اعور، لهذا كنا عورات وطنية في زمن أعمى.
النرد شهرزاد، والطاولة شهريار، لها ان تقول، ولنا أن نتأوّل، محنتنا في الدين ام محنة الدين بنا؟ مازلنا نبحث عن الله في السماء ولكننا اضعناه في الارض…
من يملك ان يهب جناحين للنرد حتى يطير لنصفق وراءه: اللگلگ علّه وطار… وكّر ببيت المختار.. علّه او طار… وربما في النهاية يخرج عدنان الصائغ علينا وهو يبشرنا بعدم موت الدوشيش.