ينشغل السياسيون في العراق بسيناريوهات خارجية كثيرة و متداخلة في أهدافها الاستراتيجية التي تلتقي في مرحلة ما عند مشروع تفكيك جغرافية البلاد و العباد، ففريق يجتهد كثيرا في المغريات الدنيوية، لذلك ليسوا مركز تاثير في التحالفات الاستراتيجية الأجنبية التي تدير العراق عبر ثلاثيات و رباعيات دولية يراقبها السياسيون بدائرة غبارالعاصفة ، ما يضع الأمور على مفترق طرق، لم يتفرج السيد السيستاني على مدياتها المفتوحة بأيدي الغرباء، فقد جدد رسم صورة المواطنة العراقية بتوقيت دقيق على مختلف المستويات.
قال السيد السيستاني خلال لقائه أمس بمجموعة من النخب والكوادر الطبية التدريسية في كليات الطب بالنجف “بالنسبة للوضع العام فإنني أوصيكم بالحفاظ على وحدة العراق.. إياكم أن تعطوا الفرصة للأعداء كي يفرقوا بين العراقيين ساعدوا إخوانكم المهجرين من مدن الموصل والرمادي وصلاح الدين وغيرها وقدموا لهم المأوى والمال والطعام دون أن تسألوهم هل هم شيعة أم سنة أم غير ذلك.. وأنتم الآن حينما تقاتلون في الرمادي وغيرها إنما تقاتلون دفاعاً عن إخوانكم لكي تخلصوهم من داعش ولستم فاتحين بل تضحون بأرواحكم ودمائكم كي تنصروا إخوانكم ضد الدخلاء”.
هذه القراءة الدقيقة لما يجب أن تكون عليه الأوضاع في العراق تبعث على التفاؤل و ترسل اشارات تحذيرية مبكرة الى المراهنين على الفتنة للبقاء في دائرة الضوء، سيما و أن رمزية السيد السيستاني ذات تأثير نفسي و عقائدي تفوق بالتاثير الشعبي مئات” الاعلانات الدعائية” للاحزاب السياسية على مختلف مقاساتها و أهدافها، ما يتطلب دراسة متأنية للمتغيرات و الثوابت للحيلولة دون أخذ الحق بالباطل، وبما يسهل اعادة صقل الأخوة العراقية خارج الطوائف و المذاهب و القوميات، التي فشلت في صياغة مشروع عراقي مقبول.
سيقول اصحاب الأحكام و المواقف الجاهزة ان السيستاني يذر الرماد في العيون بسكوته على تجاوزات تجري على الأرض من قبل فصائل في الحشد الشعبي و قيادات سياسية و أمنية، وأن ما يصدر الى العلن يختلف عن التوجيهات في الاجتماعات الخاصة، وربما يذهب سوء الظن ببعضهم الى اعتبار ما يجري حربا طائفية لن تبقي و لن تذر لصالح مشروع الهيمنة الايرانية، بينما الحقيقة مختلفة عن ذلك تماما، فلا يحتاج السيد السيستاني الى براءة ذمة من أحد، وليس مجبرا على الافتاء بهذا الوضوح و رفع شعار المواطنة بيد و وحدة العراق بالأخرى، ليضع المسؤوليتين على عاتق الشعب المؤمن بثوابته، ما يعني ايمانه المطلق بالحل العراقي خاج ولاية الفقيه وأخواتها، وهي مسؤولية وطنية عراقية ذات صلة بالانتماء الى
الأرض والتاريخ و المجتمع قبل غيرها مما يسمى بـ” التبعية العثمانية و الايرانية” والتي لعبت بصمت منذ عام 1921 دورا خطيرا في ابقاء العنصرية و الطائفية تحت رماد المصالح الاقليمية لاشعالها وقت الحاجة، وما يجري شاهد حي، لذلك يجتهد السيد السيستاني في المكان و التوقيت الصحيحين لاعادة توجيه بوصلة الانتماء العراقي.
نتفق مع السيد السيستاني وباقي المرجعيات في قضايا و قد نختلف في أخرى، وهي سمة الحياة و المنطق، لكن ما يجب الاقرار به من باب العرفان بالجميل و قول الحقيقة على الأشهاد، هو ان السيد السيستاني كان و لايزال مفتاح وحدة العراقيين ارضا و شعبا، فلو أنه أفتى بغير ذلك لتغيرت جغرافية الأرض و من عليها، بحكم الاعتقاد الشعبي الواسع بوجوب التقيد باعتبار فتواه” فرضا شرعيا واجب التنفيذ”، لذلك يقاتلون الارهاب رغم عدم ايفاء الحكومة بالتزاماتها، في المقابل يصر المرجع الأعلى على مقاطعة السياسيين بمختلف مستوياتهم بعد أن أكتشف مشاريعهم خارج الهم العراقي، وربما يؤجل معركة الحسم معهم لما بعد داعش، فهناك أولويات و استثناءات في فلسفة ادارة الأمور بعقلانية، لذلك لم يكن السيد السيستاني في الجهة الرافضة للاحتجاجات الشعبية، فهل من مدكر!!
[email protected]